محمود عباس ومسيرته السياسية

  • محمود عباس كان من أوائل من خرق المحرمات، يوم كان خرقها جريمة وخيانة، وربما كان أول من وقع إتفاقية من الجانب الفلسطيني مع الجنرال ماتيتياهو بيليد التي أدت إلى إعلان مبادئ "السلام" مع (إسرائيل) على أساس الحل بإقامة دولتين، المعلن في مطلع 1977.

  • أيضا أجرى محادثات سرية - كعادته عام 1989- بوساطة هولندية لإيجاد "تسوية" ليقود بعدها بسنوات المفاوضات السرية طاعنا الوفد المفاوض بقيادة حيدر عبد الشافي، والتي أفضت لإتفاق أوسلو المشؤوم والذي وقعه بنفسه عام 1993.

  • في عام 1995 صاغ وثيقة عباس – بيلين والتي كانت أول تصريح منه بالتنازل عن الثوابت كالقدس واللاجئين.

  • في عام 1998 وبعد التوقيع على إتفاق واي بلانتيشن ذكر حرفيا في وصفه لشارون شريكه اليوم: "شارون الطيب الذي تغير ولم يعد ذلك الرجل الذي عرفناه في صبرا وشاتيلا " وأن " الرجل عادي وخارج المفاوضات يصبح أقرب إلى الفلاح منه إلى العسكري وأنه أي شارون :عبر عن تقديره للإنسان الفلسطيني".

  • شكك عباس وبعد أيام فقط من إنطلاق الإنتفاضة بها قائلا: "الإنتفاضة الفلسطينية لن تحقق نصرا بل هي رسالة للإسرائيليين بأنهم لا يجب أن يفكروا بهذه الصورة في رفض تطبييق الشرعية الدولية"، مع ملاحظة أن ذلك كان قبل إتهامه الشهير بعسكرة الإنتفاضة وقبل أن تطلق رصاصة واحدة في وجه المحتل.

  • المحطة الأهم كانت في محاضرة بدعوة من اللجان الشعبية بقطاع غزة نشرت في الصحف يوم 02/12/2002 وجاء فيها:

    - الإنتفاضة دمرت كل ما بنيناه في أوسلو وكل ما بني قبل ذلك
    - علينا أن نقول كفى للإنتفاضة - أن نسأل ماذا حققنا في هذين العامين
    - حصلنا في هذه الإنتفاضة فقط على الدمار المطلق
    - الإنتفاضة سببت هروب رأس المال والإستثمارات من مناطق السلطة
    - الشعب الفلسطيني بات على خط الفقر بسبب الإنتفاضة
    - لم يفت أبو مازن أن يثني على شارون واصفا إياه بـ" الزعيم الصهيوني الأهم منذ هرتزل"
    - لم يسلم فلسطينيوا الداخل (عرب 1948 كما يحلو له تسميتهم) من هجوم محمود عباس حيث قال: " لقد أضروا بحق العودة على وجه الخصوص فالإسرائيلييون سيقولون مثل هؤلاء العرب لا نريد المزيد عندنا"، ولم يحمل في لقائه الإحتلال أية مسؤولية عن الوضع رغم المآسي والكوارث التي تسبب بها.

    · محمود عباس تم إختياره بالإسم ليصبح أول رئيس وزراء لحكومة السلطة بتاريخ 29/04/2003 ليكون تصريحه الأول في لقاء العقبة المعروف التباكي على عذابات الآخرين متناسيا عذابتنا على أيدي هؤلاء الآخرين، وليستمر بعدها دون كلل أو ملل في التهجم وإدانة الإنتفاضة كلما سنحت له الفرصة، ليستقيل من جميع مناصبه داخل فتح والمنظمة والسلطة في شهر سبتمبر/أيلول من العام الماضي.

  • ما أن إستقرت له الأمور حتى بدأ محمود عباس بإنتقاد مرحلة سلفه كحديثه عن ضرورة وقف الفوضى خاصة فوضى السلاح التي لا يوجد أي متهم فيها إلا ذراعه الأيمن دحلان الذي يجمع كل أبناء فلسطين أنه كان وراء أحداث شهر يوليو/تموز الماضي والزعرنات التي رافقتها.

  • كان من أول ما قام به عباس تقريب أزلام السوء كعبد ربه الذي بدأ يروج لأفكاره الممسوخة، ودحلان الذي يستعرض ليل نهار وينظر في كل أمر، وأخيرا إعادة قائد البحرية المستقيل منذ أكثر من مائة وعشرين يوما إلى عمله علما أن ياسر عرفات كان قد عين قائدا للشرطة البحرية ونائبا له بعد أن قدم القائد السابق طلب الإستقالة احتجاجا علي قرار عرفات بتعيين موسى عرفات قائدا للأمن العام في قطاع غزة، لا لشيء إلا لأنه من مؤيدي دحلان.

  • حتى هذه اللحظة لم يصدر تقرير رسمي عن ملابسات مرض وتسفير ووفاة عرفات ولا يوجد إهتمام حقيقي لكشف الحقيقة مما إستدعى إعطاء مهلة شهر للحكومة من قبل التشريعي للكشف عنها.

  • رغم إنتقاد عباس الدائم لعرفات وإستفراده بقيادة المنظمة والسلطة ها هو الآن يتناسى ذلك لينافس على منصب "الرئيس" إضافة لمنصب رئيس اللجنة التنفيذية للمنظمة، أي أن المباديء عنده تتغير حسب الظروف والمصالح.

  • بدأ عباس ممارسة هوايته المفضلة بفتح قنوات إتصال سرية مع الإحتلال رغم أنه ليس رئيسا للسلطة ولم يتم إنتخابه بعد، وهذا ما أكده رعنان غيسين يوم 24/11/2004 حين قال أن المفاوضات بدأت فعلا ولكن بعيدا عن الأضواء.

  • كان من أوائل من إجتمع معهم عباس "مبادروا" وثيقة جنيف التي يجمع الشعب بأكمله تقريبا على إنحطاط مستوى الموقعين عليها وعلى حجم التنازلات الهائلة فيها عن الثوابت والمباديء.

  • كان رد عباس على تصريحات شارون التي طالب فيها "بوقف عمليات التحريض البغيضة في وسائل الإعلام ومناهج التعليم" هو ببساطة أن هذه المطالب هي من إستحقاقات خارطة الطريق التي يجب تطبيقها مقرا بالتالي بصحة وشرعية مطالب شارون.

  • إستبعد محمود عباس منافسيه بطريقة أو أخرى فأصر على عقد إجتماعات حركة فتح في الداخل وبالتالي إستبعد الأعضاء المعارضين له ممن لا يستطيعون الدخول للأراضي الفلسطينية المحتلة وكذلك قيادات الخارج ومنهم فاروق القدومي.

  • أيضا وبدعم دحلان والدول الأخرى إستبعد مرشحين آخرين من فتح من أهمهم مروان البرغوثي موعزا للبعض بإطلاق التصريحات كبسام أبو شريف الذي قال: "إختيار أبو مازن هو مصلحة فلسطينية عليا" وكذلك جبريل الرجوب الباحث عن موقع له في وجود منافسه اللدود دحلان، عندما دعا البرغوثي لإعادة النظر في ترشيحه لنفسه وإن كان هذا الترشيح يخدم القضية الفلسطينية!

    ولد محمود عباس، وهو ثاني أبرز المسؤولين الفلسطينيين بعد ياسر عرفات، في صفد شمال فلسطين المحتلة، عام 1935، ولجأ مع عائلته عقب نكبة فلسطين عام 1948 إلى سورية، حيث حصل على البكالوريوس في القانون، وحصل في مطلع الستينيات على شهادة الدكتوراه.

    بدأ عباس نشاطه السياسي من سورية، ثم انتقل إلى العمل مديراً لشؤون الأفراد في إدارة الخدمة المدنية بقطر، ومن هناك قام بتنظيم مجموعات فلسطينية واتصل بحركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" التي كانت وليدة آنذاك. وقد ظل أبو مازن عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني منذ عام 1968.

    ويعدّ "أبو مازن" المنظر لضرورة إنجاز تسوية سياسية مع الصهاينة، وتسببت رؤيته تلك في إحداث تصدعات حادة داخل منظمة التحرير الفلسطينية ابتداء من أواسط السبعينيات.

    محمود عباس قاد المفاوضات مع الجنرال الصهيوني ماتيتياهو بيليد التي أدت إلى إعلان مبادئ "السلام" مع (إسرائيل) على أساس الحل بإقامة دولتين، المعلن في مطلع 1977.

    وتولى محمود عباس "أبو مازن" منصب عضو اللجنة الاقتصادية لمنظمة التحرير الفلسطينية منذ نيسان (أبريل) 1981.

    وبينما واصل محمود عباس تنسيق الاتصالات مع شخصيات صهيونية في عواصم العالم، لبحث فرص التسوية السياسية؛ فقد بدأ المحادثات السرية مع الصهاينة من خلال وسطاء هولنديين عام 1989، ونسق المفاوضات أثناء مؤتمر مدريد، وأشرف على المفاوضات التي أدت إلى اتفاقات أوسلو 1994، كما قاد مفاوضات اتفاق غزة- أريحا التي جرت بالقاهرة.

    رأس أبو مازن إدارة شؤون التفاوض التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية منذ نشأتها عام 1994، وعمل رئيساً للعلاقات الدولية في المنظمة، ودخل إلى الأراضي الفلسطينية بعد نشوء السلطة الفلسطينية، بموجب ترتيبات مترتبة على اتفاقية أوسلو. وتم اختياره أمين سر للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1996، ما جعله الرجل الثاني عملياً في تركيبة قيادة المنظمة.

    وقبيل انتفاضة الأقصى التي اندلعت نهاية أيلول (سبتمبر) 2000؛ كشف النقاب عن وثيقة مثيرة للجدل أعدها أبو مازن مع يوسي بيلين، القيادي في حزب العمل الصهيوني، كإطار لعقد اتفاقية بشأن الوضع النهائي بين الكيان الصهيوني ومنظمة التحرير الفلسطينية.

    وتنصّ الوثيقة على إقامة دولة الفلسطينية ضمن حدود آمنة ومعترف بها، علة أن تبقى القدس مدينة مفتوحة وغير مقسمة يُتاح دخولها لأتباع جميع الديانات السماوية من كل الجنسيات.

    كما تتضمن الوثيقة أنه لن تكون هناك مناطق سكنية مدنية خاصة بـ (الإسرائليين) في دولة فلسطين، وسيخضع الأفراد (الإسرائيليون) الباقون داخل حدود الدولة الفلسطينية للسيادة الصهيونية وأحكام القانون الفلسطيني.

    وقد أصبح محمود عباس أول رئيس وزراء للسلطة الفلسطينية، في نيسان (إبريل) 2003، لكنّ حكومته لم تعمِّر أكثر من مائة يوم، وسط خلافات حادة مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وصلت إلى ما يشبه القطيعة بينهما.

    بانتخابه خلفاً للرئيس الراحل ياسر عرفات، في رئاسة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية؛ يعود محمود عباس "أبو مازن" إلى البروز، معيداً إلى الأذهان تجربته المتعثرة في السلطة الفلسطينية، وخاصة خلال السنة المنصرمة، التي شكل فيها حكومته، كما يستذكر الجميع التجربة الخاصة لأبي مازن في الحالة السياسية الفلسطينية.

    فعندما اختير أول رئيس وزراء للسلطة الفلسطينية في نيسان (إبريل) 2003 في ملابسات مثيرة للجدل، ووسط ضغوط أمريكية وصهيونية مشدّدة على السلطة للإقدام على هذه الخطوة؛ كان اسم محمود عباس "أبو مازن" يعود إلى الواجهة مجدداً.

    فأبو مازن، الذي بقي حاضراً في أروقة السلطة؛ كانت قد انصرفت عنه الأضواء التي أحاطت به يوم اكتشفه الرأي العام العالمي، والفلسطيني أيضاً، في الثالث عشر من أيلول (سبتمبر) 1993. فقد بدا أبو مازن آنذاك رجلاً مختلفاً عن الصورة التقليدية للقيادات الفلسطينية، التي ارتبطت بالبندقية أساساً في الوعي الجمعي. فالأمر يتعلق هنا برجل أنيق الهندام ونظارة عصرية وقلم فاخر يجيد التوقيع على "إعلان المبادئ" لاتفاقات أوسلو.

    في ذلك اليوم الذي رافقته أجواء احتفالية غامرة في حديقة الزهور في البيت الأبيض؛ كان أبو مازن يسطِّر إمضاءه الشخصي على شهادة ميلاد السلطة الفلسطينية، ولكنه الإمضاء الذي يعني شهادة ميلاد سياسية جديدة لشخصية فلسطينية اعتادت خرق "المحظور" تلو الآخر في إطار منظمة التحرير منذ السبعينيات.

    فإذا كان أبو مازن قد اشتهر بدءاً من سنة 1993 بوصفه "مهندس اتفاق أوسلو"، بالشراكة في اللقب ذاته مع شمعون بيريز من الجانب الصهيوني؛ فإنّ عودةً إلى الوراء، وتحديداً في أواسط السبعينيات، ستحيلنا إلى أبي مازن، المنظِّر للمذهب الجديد في الثورة الفلسطينية آنذاك؛ "استغلال تناقضات العدو الداخلية".

    محمود عباس وبلورة رؤية مبكرة للتسوية

    فقد بلْوَر محمود عباس آراءه التي قوبلت بانزعاج كبير في كثير من أوساط المنظمة، رغم أنها تحولت بسرعة إلى وصفة معتمدة من قبل صانعي القرار فيها. فتحت العنوان المثير "الصهيونية بداية ونهاية"، صدر لأبي مازن كتاب موسع في سنة 1977، ضمّنه تأسيساً لهذه الفلسفة؛ التي ستمسك في ما بعد بخطا منظمة التحرير باتجاه "اختراق" المجتمع الصهيوني.

    وفي كتابه الذي صدّره آنذاك الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، بمقدمة تبجيلية لمن سيصبح خليفته في قيادة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير بعد ربع قرن من ذلك التاريخ؛ تطرّق أبو مازن إلى معالم رؤيته المثيرة للجدل. فالصهيونية قائمة على العنصرية، وهي تحمل بذور إخفاقها في ذاتها، أما الأهم؛ فهو أنّ المجتمع الصهيوني في فلسطين المحتلة قائم على تهميش اليهود الشرقيين "السفارديم" لحساب النخبة الغربية "الأشكناز".

    ويسرد أبو مازن في كتابه الذي طواه النسيان وتجاوزه الزمن اليوم، واختفى من المكتبات أيضاً؛ قائمة بالحركات والمنظمات الناشئة في المجتمع الصهيوني التي يعلوها السخط من سياسات الدولة، إما بدوافع مبدئية تتناقض مع الفكرة الصهيونية، أو بمبررات واقعية ناجمة عن التهميش والإقصاء الاجتماعي.

    كان عرض "الصهيونية بداية ونهاية" من محمود عباس آنذاك، وقبل أفول الثورة الفلسطينية بشكلها الكلاسيكي؛ لازماً لطرح الفكرة التي اخترقت حاجزاً منيعاً في أدبيات منظمة التحرير. فقد تبنى أبو مازن في الكتاب ذاته وفي الكثير من المنتديات تبعاً لذلك فكرة مدِّ الجسور مع القوى الرافضة والمهمشة في المجتمع الصهيوني، لتعزيز مواقفها، وتوسيع الهوة الداخلية في الكيان الصهيوني.

    كانت هذه الرؤية هي الفلسفة التي قامت عليها مساعي اللقاء مع القوى اليسارية الصهيونية والشخصيات المناهضة للسياسة الرسمية "للطغمة الحاكمة في تل أبيب" من (الإسرائيليين) أنفسهم. كان الأمر يجري ابتداءً في ملتقيات سرية هادئة في عواصم أوروبية شرقية وغربية، قبل أن تطفو أنباؤها إلى السطح بالتدريج.

    دور عباس في تجاوز محظورات الأمس

    عبر عقد من الزمن تقريباً؛ أخذ خط أبي مازن في منظمة التحرير يتعزّز في تجاوز ما كان يُعدّ من محظورات الأمس، وباتت الملتقيات تصبح حدثاً اعتياداً و"نصراً للدبلوماسية الفلسطينية" التي نجحت في تشجيع شخصيات صهيونية على الضرب بالقانون الصهيوني الذي يقضي بمنع الاتصال بمنظمة التحرير الفلسطينية عرض الحائط.

    وعملياً، كانت هذه المباحثات بمثابة قنطرة لها ما بعدها. فقد تبيّن لاحقاً أنّ سياسة "اختراق" المجتمع الصهيوني لم تؤدِّ في واقع الأمر إلى ثورة جدِّية على الصهيونية أو إلى زعزعة لأسس "الدولة"، وإنما إلى خوض أشواط أخرى مع صانعي القرار الصهيوني أنفسهم، من فريق إسحاق رابين، وعلى رأسهم شمعون بيريز.

    كان ذلك يحدث بعد أكثر من خمس سنوات من الانتفاضة الشعبية في دار فاخرة في النرويج في سنة 1993، قبل أن يُباح السرّ الذي أحيط بتكتم شديد عن المفاوضات التي لم يكن سوى عدد محدود، يقل عن أصابع اليد الواحدة، من قيادة منظمة التحرير على دراية بوقوعها.

    إنها جولات أوسلو السرية التي ستفضي لاحقاً لأن تصبح عملية تسوية سياسية ولدت بنضارة في وسائل الإعلام وحدها، بينما كانت شاحبة الوجه في واقع الأمر، نجحت في الصمود سبع سنوات بسبب سياسة الإنعاش المستمر التي اتبعتها معها إدارة بيل كلينتون حتى الرمق الأخير من عهده، قبل الانفجار المدوي المتمثل في انتفاضة الأقصى.

    مع أفول أول صائفة في القرن الجديد، كان أبو مازن يشاهد وقائع الحدث غير الممتع بالنسبة إليه. فـ"مسيرة السلام" التي دفعها جاهداً عبر السنين كانت آنذاك ترتطم بفظاعة بالصخور، لتحين ساعة الحقيقة بالنسبة للمشروع الذي كان هو شخصياً الشريك الفلسطيني الأول في هندسته.

    عباس يظهر على حساب عرفات .. برعاية أمريكية

    عربة التسوية التي تدحرجت إلى الوادي السحيق لم تكن كافية للتنازل عن الفلسفة التي طبعت مسيرة محمود عباس في الحقبة التفاوضية الممتدة منذ سنة 1993. إذ استمر عباس الذي سيغزو الشيب شعره بالكامل خلال ذلك في تقدم المحتجين بالقول: ما كان في الإمكان؛ أبدع مما كان. وبالنسبة لأبي مازن فإنّ العبرة كانت واضحة منذ البدء؛ قبول المعروض صهيونياً دون الحاجة لأشواط ممتدة من مباحثات التيه الكبير في صحراء التفاوض الصهيونية.

    ولكنّ مسيرة أبي مازن، التي بدأت أساساً مع أقصى اليسار الصهيوني وأقطابه من أوري أفنيري إلى شارلي بيطون؛ لم تنته عند هذا الحد. إذ كان عليه أن يجتاز مربع حزب العمل الذي أنجز معه اتفاقيات أوسلو؛ إلى أقصى اليمين المتطرف بزعامة "البلدوزر" شارون، وذلك في دولة تتوزّع قواها الفاعلة عملياً على أطياف اليمين وحده وحسب.

    حدث هذا بمجرّد أن أصرّ الصقر المنتشي زهواً، جورج بوش، في سنة 2002، على "تغيير قواعد اللعبة" في السلطة الفلسطينية. أراد بوش، بما يشبه تعبيرات عباس إبان السبعينيات؛ "اختراق" الساحة الفلسطينية، و"توسيع الهوة الداخلية" داخل السلطة، لصالح "رئيس وزراء معتدل" بدلاً من الرئيس عرفات، الذي تحوّل بين عشية وضحاها في نظر الإدارة في واشنطن العاصمة إلى زعيم "مثير للمتاعب"، و"غير جدير بالثقة" الأمريكية.

    خلال أشهر معدودة؛ نجح سيد البيت الأبيض في الإلحاح على "الإصلاحات" التي أكثر من المطالبة بها في خطابات ممزوجة بالتصفيق، وعلى ضوء جهوده تم استحداث وزارات للداخلية والأمن والمالية، والبحث عن رؤساء وزارة "معتدلين" أيضاً في السلطة الفلسطينية.

    من هنا؛ تقلد محمود عباس منصب أول رئيس وزراء في السلطة الفلسطينية. وسرعان ما بدأ تحركاته آنذاك، ففي قمتي شرم الشيخ والعقبة المتعاقبتين في سنة 2003؛ ظهر محمود عباس على المنصة بدلاً من الرئيس عرفات الذي اعتاد اعتلاءها. كان المشهد، غير المألوف فلسطينياً وإقليمياً ودولياً حتى ذلك الحين؛ يحمل في طياته الكثير من التداعيات، طالما أنّ الرئيس عرفات ذاته كان محاصراً في مقرِّه المتداعي في رام الله المحتلة، بينما يعرب رئيس وزرائه بثقة بالغة عن عزمه على مكافحة "الإرهاب"، في إشارة إلى المقاومة الفلسطينية.

    أما عندما تحدث أبو مازن عن ضرورة إنهاء معاناة اليهود عبر العصور، في خطاب العقبة المثير لامتعاض الشارع الفلسطيني؛ فلم يكن يقوم سوى بالتكفير عن "خطيئة" إصدار كتاب له في الثمانينيات، خصّصه لرواية أفران الغاز في معسكرات الاعتقال النازية، وأكد فيه تعاون الحركة الصهيونية مع النازيين آنذاك، وهو الكتاب الذي هو في الأصل رسالته للدكتوراه من موسكو. فالإشارة المحشورة عنوة إلى معاناة اليهود، وليس الفلسطينيين، كانت عملياً مسعى للهرولة إلى الأمام تملّصاً من مطالب الاعتذار عن إنكار المحرقة والإقرار بالهولوكوست التي أخذت تتداعى آنذاك في الجانب الصهيوني.

    التجربة الوزارية والعلاقة الحرجة مع الرئيس الراحل عرفات

    عندما تولى محمود عباس "أبو مازن" منصب رئاسة الوزراء في السلطة الفلسطينية، في نيسان 2003؛ كان يدشن عهد حكومة مأزومة منذ أيامها الأولى، نجحت بصعوبة في إكمال مائة يوم قبل أن يستقيل. فالرجل الثاني في حركة "فتح" ومهندس اتفاقات أوسلو من الجانب الفلسطيني؛ تولى منصب أول رئيس وزراء في السلطة، بعد إلحاح أمريكي باستحداث هذا المنصب، وفي ظل انزعاج واضح من الرئيس الراحل ياسر عرفات.

    وفي باكورة الاتصالات الأولى من نوعها آنذاك؛ عقد رئيس الحكومة الصهيونية آرائيل شارون ونظيره من جانب السلطة الفلسطينية محمود عباس قمة لبحث "خارطة الطريق" في السابع عشر من أيار 2003، وتجدّد اللقاء بينهما في مكتب شارون في التاسع والعشرين من ذلك الشهر.

    وأظهرت الإدارة الأمريكية ترحيبها المبالغ فيه بعباس، الذي جاء إلى المنصب بضغوط أمريكية على السلطة. وقد تحدث الرئيس جورج بوش إليه لأول مرة في العشرين من أيار 2003، بينما رفض بوش لقاء عرفات ولو لمرة واحدة.

    وسرعان ما أخذ محمود عباس آنذاك بالبروز دولياً وعربياً على حساب الوجه التاريخي ياسر عرفات. فبينما بقي "أبو عمار" الراحل محاصراً في مقر المقاطعة في رام الله، كان يجري استقبال عباس بحفاوة بالغة من جانب الأمريكيين والصهاينة في شرم الشيخ والعقبة.

    فبُعيْد قمة شرم الشيخ "العربية الأمريكية" التي شارك فيها عباس عن السلطة الفلسطينية؛ إذا ببوش وشارون وعباس يجتمعون في العقبة بالأردن في الرابع من حزيران 2003، لإطلاق خارطة الطريق. وبينما تحدث بوش عن دولة يهودية؛ فقد هاجم عباس ما يسميه "الإرهاب" و"عسكرة الانتفاضة"؛ ليثير حفيظة الفلسطينيين، خاصة وأنه تحدث عن "مظالم اليهود عبر التاريخ" دون أن يشير إلى معاناة شعبه الرازح تحت الاحتلال.

    علاقة متوترة مع المقاومة

    كان أبو مازن في عهده الوزاري قد قام بإجراء اتصالات مع المقاومة الفلسطينية لحثها على وقف عملياتها، فاجتمع في ضوء ذلك في الثاني والعشرين من أيار 2003 مع قادة حركة المقاومة الإسلامية حماس خصيصاً لهذا الغرض. وبعد أسبوعين من ذلك، قالت الحركة إنها قطعت المباحثات مع عباس على خلفية تهجمه على المقاومة الفلسطينية والالتزامات التي أبداها في قمة العقبة.

    وقد ردت كتائب الشهيد عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس وسرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي وكتائب شهداء الأقصى (فتح) في هجوم مشترك في الثامن من حزيران 2003 قرب حاجز إيريز شمال قطاع غزة؛ على تعهدات عباس للأمريكيين وللصهاينة بوقف المقاومة.

    وإثر تصعيد ميداني بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الصهيوني؛ أعلنت حركتا حماس والجهاد الإسلامي في التاسع والعشرين من حزيران 2003 عن هدنة مشروطة لمدة ثلاثة أشهر، انضمت إليها عدد من قوى المقاومة الفلسطينية الأخرى. وقد بدت الهدنة فرصة لحكومة عباس للتحرك، لكنّ الأمريكيين والصهاينة كانوا يلحّون عليه للقيام بشن حرب استئصالية على المقاومة، مقابل دعم مادي وتدريبي لقوات أمن السلطة، ما كان ينذر آنذاك باندلاع حرب أهلية فلسطينية في أية لحظة.

    وبعد أن كانت الإدارة الأمريكية قد أعلنت في الثاني من تموز 2003 عن تقديم مساعدات للضفة الغربية وقطاع غزة تبلغ ثلاثين مليون دولار؛ وافقت وزارة الخارجية الأمريكية بعد أسبوع من ذلك على تقديم عشرين مليون دولار كمساعدات مباشرة للسلطة الفلسطينية للمرة الأولى، دعماً منها لوضع حكومة عباس الداخلي، في ما حاز الجانب الأمني الموجّه ضد المقاومة على نصيب وافر من هذه "المساعدات".

    وقد اجتمع عباس مع الشيخ أحمد ياسين مؤسس حركة "حماس"، والذي استشهد بعملية اغتيال نفذتها قوات الاحتلال ضده لاحقاً، لأول مرة في الخامس من تموز 2003 في إطار مساعي عباس لتعزيز "التهدئة". ولكنّ الانفراج الجزئي الذي طرأ على وقع محاولات التهدئة تلك لم يسلم من الانتهاكات الصهيونية المتصاعدة. فرغم قيام عباس وشارون في مطلع تموز (يوليو) 2003 بتوجيه كلمتين معاً لأول مرة معلنين التزامهما بـ"تحقيق السلام"؛ كان الأخير يتلكأ في تنفيذ استحقاقات التهدئة، وخاصة مسائل إعادة الانتشار والمعتقلين وتفكيك البؤر الاستيطانية. ثم أخذت الاعتداءات الصهيونية وتيرة متصاعدة؛ تسببت في سقوط هدنة المقاومة الفلسطينية، ما قاد إلى تفجير الموقف ثانية.

    وبينما انفجر الوضع الميداني أظهرت حكومة عباس عجزاً كبيراً في احتواء الموقف، وسط تصاعد اعتداءات الاحتلال، في الوقت الذي طفا فيه على السطح النزاع بشأن الصلاحيات بين عباس والرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، والذي رأى فيه الفلسطينيون أزمة داخلية مدفوعة بتحريض أمريكي ـ صهيوني، بينما أجمعت القوى الفلسطينية على أنها مشكلة خطيرة في التوقيت الخاطئ.

    وفي الثالث من أيلول 2003 عمد أبو مازن إلى التلويح بورقة الاستقالة في وجه خلافه مع الرئيس الراحل عرفات؛ ما لم يحصل على المزيد من الصلاحيات. وبعد أن تلا البيان الخاص بـ"إنجازات" حكومته خلال الأيام المائة الأولى من تشكيلها على مسامع أعضاء المجلس التشريعي؛ بدا عباس في مواجهة تحرّك داخل المجلس لحجب الثقة عنه؛ وبخطوة مفاجئة؛ تقدم عباس باستقالته في السادس من أيلول 2003، ليقبلها عرفات دون ما تردّد.

    لكنّ ذلك ليس نهاية المطاف، فمحمود عباس سيعود في موقع عرفات ذاته بعد أربعة عشر شهراً فقط من ذلك. ففي الحادي عشر من تشرين الثاني 2004؛ يتم الإعلان رسمياً عن وفاة الرئيس ياسر عرفات، وبعد ساعات معدودة؛ يتم اختيار محمود عباس لرئاسة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ليتساءل الجميع عن ملامح العهد الجديد.


    المصدر : وكالات