من حبنا له .. عرفات كم وددنا لو يموت
بقلم : د . محمود عوض

12:31 22.09.02

فقط المصابون بعمى البصيرة وليس البصر هم من لا يرون الآن كيف يضرب شارون رأس نفسه بالجدران في جدران مقر عرفات وبقية جدران الضفة وغزة .
فأمجاد شارون التي بناها في السبعينيات حين أجهز على عدد من الفدائيين الفلسطينيين ما زالت تدغدغ أحلامه متجاهلا كل المتغيرات على مدى عدة عقود .
أهم تلك المتغيرات هي الإنقلاب بعيد الأثر في بنية الوعي الجماعي الفلسطيني ففي السبعينات لم تكن بنية الوعي الفلسطيني خاضت تجربة ((الإحتلال المبرمج للإبادة البطيئة)) .. فقط مجموعه من أفراد الشعب الفلسطيني تنبهوا لذلك فبادروا للتصدي والمقاومة وسهل يومها على شارون القضاء عليهم .. لكن ما حدث بعد ذلك هو تراكم التجربة العمليه مع الإحتلال الإسرائيلي وهي تجارب أوصلت كل فلسطيني إلى وعي كامل ومتكامل بأن اسرائيل تنفذ إبادة على مراحل .. بل وتمارس عمليا سياسة أفران الغاز إنما على نار هادئة .
فقط كان الخلاف الوحيد بين أفران الغاز النازيه وأفران الغاز الصهيونيه ينحصر في مسألة السرعه .. النازيون إختاروا إبادة اليهود في أسرع وقت ممكن وفي وجبة واحده بينما الصهاينه قرروا إبادة شعب فلسطين على أقل من راحتهم وعلى وجبات .
هذه الصورة وصلت إلى عقل ووجدان الفلسطيني وقد أسفر نضوج الوعي هذا إلى إفراز ((ضرورات الخروج للتصدي كشعب وليس كأفراد أو منظمات فحسب)) فكانت الإنتفاضة الأولى وتلتها إنتفاضة الأقصى والمتوقع على الطريق هو ((إنتفاضة الإستشهاد الجماعي)) وهذه الإنتفاضة المتوقعه ستحسم مسألة الإحتلال مرة واحده وقد بدأت بوادرها في الظهور من خلال الخروج الجماهيري لتحدي حالات منع التجول .. وسيتنامى هذا التحدي لوضع اسرائيل أمام مأزق لا مثيل له عبر التاريخ وهو مأزق تحدي شعب في طلب الموت (الإسستشهاد) على مرأى من كاميرات العالم .
فالمشهد المتوقع أن يخرج الفلسطينيون ذات يوم بأطفالهم ونسائهم وقضهم وقضيضهم ليسدوا الطرق في وجه الدبابات الإسرائيليه وليهدموا الحواجز بأصابعهم .. لا ليطالبوا بالحريه وإنما بالموت الجماعي .
لقد بلغ السيل الزبى لكن شارون وجنرالاته لا يرون السيل ولا الزبى وكل ما يرونه هو صورة الماضي وأن ما يقع يقوم به أفراد وليس شعبا بأكمله .
على هذا راهن شارون حين وعد الإسرائيليين بأنه يحتاج فقط لمائة يوم .. ويعيد المياه إلى مجاريها .. لكن الصدمة كانت بالنسبة له كبيرة .. فعاد يدور في الحلقة المفرغه مصورا لنفسه وللإسرائيليين أن أعمال المقاومة هي أعمال أشخاص وليس إفرازات شعب وبلغ جهله وتجاهله حد إيهام نفسه وآخرين أن إخماد وشل عرفات سيضع حدا للإنتفاضة والمقاومة .
مأساة شارون هي أنه يعرف أنه يكذب .
ومأساة اسرائيل هي أن كل شعبها يعرف أنه يكذب .. فهنالك إجماع على الكذب ... وأول ضحايا هذا الكذب هم أنفسهم بالذات .
كلهم يعرفون أن عرفات بات بعد اوسلو ((خارج دائرة القدرة على لجم الوعي الفلسطيني الجماعي)) وربما يكون هو وحده ومعه بطانته ((رموز السلطه)) الوحيدون الذين ظلوا يتعلقون بقشة الوهم بأن اسرائيل تريد التعايش .. وهنا كانت مسألة الإنفصام بين السلطة وبين مجموع أبناء الشعب الفلسطيني ..
هذه الأيام غدت الصورة واضحة وبالتأكيد لعرفات وبطانته وخاصة بعد حصاره الأخير وأعني بالصورة هو تكامل الوعي الجماعي لدى شعب فلسطين بضرورة الخروج الشمولي لطلب الموت ((الإستشهاد)) ولغباء شارون فإنه اليوم يدفع لتسارع حالة التحدي هذه عبر دفع الرئيس عرفات بأن يكون في مقدمة مسيرة الإستشهاد الجماعي .
الأيام القادمة ستكون حبلى بمولود جديد هو إنتفاضة الإستشهاد الجماعي وهي إنتفاضة .. ستشعل الشرق الأوسط .. والمسألة متى تندلع ؟؟ ذلك يتعلق بعود ثقاب يمسك به الآن داخل مقره رئيس محاصر إسمه ياسر عرفات .
في التاريخ اليهودي يتحدثون عن أسطورة ((ماسادا)) التي إنتحر فيها يهود إنتحارا جماعيا حتى لا يقعوا أسرى
وفي التاريخ الفلسطيني ستكون ((ماسادا الفلسطينيه)) تبدأ من مقر عرفات .. وتتسع مكانا وسكانا
ووفق يقيني فإن الإنتفاضة الثالثه أو الإستشهاد الجماعي سيؤرخ لها في اليوم الذي يذاع فيه نبأ مقتل ياسر عرفات .. فيا لهذا الرجل كم أحببنا أن يحيى وكم وددنا لو يموت .. لكن قدره كما يبدو هو الخلود ...

الدكتور محمود عوض مع التحيات