ترويض "الجماهير": نبض الشارع الذي قُتل
السلطة والناس والنقابات المهنية الاردنية!!

بقلم : د. هشام البستاني *

د. هشام البستاني

حول المسألة اعلاه، طلب مني الصديق عبد الوهاب العزاوي من سورية قبل ايام، ملاحظات لدراسة يقوم بها.... وبمناسبة قرار وزير الداخلية منع النقابات المهنية من اقامة النشاطات الوطنية الا بتصريح، ومطالبته اياها بانزال اليافطات المعلقة على جدران مجمعها المعروف في عمان والتي تطالب (اي اليافطات!) بالغاء المعاهدة مع العدو الصهيوني ومقاومة التطبيع، ومن ثم اقتحام المجمع وانزالها بالقوة ليلة 16/1/2005، رأيت ان الاجابة المفذلكة نظريا والتي ارسلتها لعبد الوهاب، تؤدي غرضا مهما لتفسير العلاقة الغريبة بين السلطة والجمهور وما يسمى "المجتمع المدني"، وهي تتكثف في مسألتين:

الاولى: ان المنطقة العربية ونتيجة لكونها تاريخيا محط اطماع الغزاة والمحتلين، وتعرضت للهجوم والاحتلال لفترات طويلة جدا من تاريخها، فقد تشكل وعي الامة (اذا جاز التعبير- واعني به الوعي الجمعي للشعب) على قاعدة "رد الفعل" لا "الفعل"، فالانشغال الدائم بموضوع "المواجهة" و"المقاومة" و"درء العدوان" (على ضرورته) عطلها عن انجاز نقاشها الداخلي وتطورها الموضوعي، وانجاز الناظم المدني العام (اي الصراع على قاعدة الوحدة والقبول)، وانجاز الدولة/المجتمع على هذا الاساس. وبالتالي تحولت الشعوب الى "منفعلة"، بمعنى ارتباط حراكها بشرط خارج عنها وعن جدلها الداخلي. وتكرس عن هذا الشرط الموضوعي شرط ذاتي مع الزمن، ادى الى التغييب الواعي لحالة التناقض المادي مع القهر والظلم ان كان داخليا ويتشكل في احسن الاحوال بصفته تناقضا "مثاليا" (حالة "التوافق" الجماهيري مع القمع الداخلي العربي بحيث يقتصر الاحتجاج على الشكل اللفظي او الفكري دون ان يتعداه الى التعين ماديا)، بينما يتشكل التناقض بأحدّ الاشكال ان كان خارجيا (حالة المقاومة البطلة في العراق وفلسطين ولبنان).

الثانية: دور الانظمة القطرية العربية، وبعض النخب العربية من المثقفين، وكل التنظيمات العربية من الاحزاب، في قتل النزعة النقدية/التحليلية لدى عموم الشارع، وبحيث يصبح الانتماء الى حزب أو قطر أو ايديولوجيا يساوي الانتماء الى قبيلة، ومن ذلك :

أ- تعزيز الانظمة لقصة الانتماء الى الهويات القطرية المزيفة (في الاردن مثلا: شعار "الاردن اولا"، والتركيز على مسألة وجود "ثقافة اردنية" و"هوية اردنية" ووجود اردني ما قبل تاريخي....الخ كبديل مقترح للعرب والعروبة والهوية العربية. وهذا ينسحب على اقطار اخرى اهمها فلسطين، حيث ادى التركيز الدائم على الهوية القطرية الفلسطينية (بدعوى الخصوصية) الى سلخ القضية العربية في فلسطين عن بعدها العربي، وتحويلها من صراع بين مشروعين هما المشروع التحرري العربي في مواجهة المشروع الامبريالي الصهيوني، الى صراع من اجل انشاء دولة قطرية اخرى!! ولعل هذا التشويه يتجلى في الشعار المختزل الذي غالبا ما يُهتف به في المسيرات: "بدنا دولة وهوية"!!! وكأن الهوية العربية ليست هوية، وكأن القضية العربية في فلسطين هي قضية "اقامة دولة"!!).

ب- تعزيز الاحزاب والتنظيمات "التقدمية" و"اليسارية" تحديدا، لفكرة الانتماء الدوغمائي اللافكري اليها، وبحيث يغدو الحزب او التنظيم شكلا آخر من اشكال القبيلة، ويغدو الانتماء الحزبي انتماءا عصبويا بدلا من ان يكون انتماءا فكريا/ايديولوجيا. ونلاحظ هنا تشابها كبيرا بين ما يسمى "الاحزاب التقدمية واليسارية" ونقائضها (اي الاحزاب الدينية، والتنظيمات الاجتماعية الاولية - اي العشيرة والقبيلة) مع شرعية اكبر للنقائض: فمثلا، نجد لدى الاحزاب "التقدمية" و"اليسارية" قائدا مخلّصا لا يتزحزح عن مكانه طوال حياته ويتحول تلقائيا الى "رمز"، ونلاحظ ايضا تعزيزا لآليات التفكير الميكانيكي و/أو الغيبي، وتغييبا للمنهج النقدي التحليلي. وفي حين تستمد الاشكال والتنظيمات المسماة "رجعية" شرعيتها من الامتداد التاريخي والثقافي لوجودها، نجد الاشكال والتنظيمات "التقدمية واليسارية" بلا شرعية تاريخية وثقافية، او مغتربة في احسن الاحوال. وفي حين تتحول الاحزاب الدينية الى اشكال اكثر مدنية و"تقدمية" وانفتاحا، نجد تلك "اليسارية والتقدمية" تتحول الى احزاب عائلات او منتديات طوائف او جمعيات اقاليم او منظمات ممولة اجنبيا.

هكذا "تشوهت" طبيعة الحراك الجماهيري، وتشوهت "الجماهير" نفسها (كمفهوم = محصلة الانفعال العام والحركة والتأثير ومن ثم التغيير)، وتحولت الى "مجتمع مدني مشوه" قوامه: القبول بالقمع والانظمة اللاوطنية والتي هي نقيض المصالح الشعبية كأمر واقع لا بد من التعامل معه (الشكل المشوه للعقد الاجتماعي)، والوصول الى استسلام شامل فيما يتعلق بالعدو الخارجي الذي لم يعد الا عدوا بالمفهوم القطري في أحسن الاحوال (اي عدو القطر المعتدى عليه وليس عدوا للأمة والمجموع) وصار "مُحَرِرا" في اتعسها (الشكل المشوه لقبول الآخر)، والتعامل مع السماسرة والكمسيونجية و"اربابهم" المتعدون للحدود المستغلون للعمال والموارد والارض على انهم "مستثمرون وطنيون" و"شركاء استراتيجيون" يخلقون "فرصا استثمارية رائدة" (الشكل المشوه للتصالح الطبقي الداخلي والمافوق قطري!!).

النقابات المهنية و"جماهيرها" تشكل حالة فريدة من القطع مع الشكل التقليدي من التنظيم والانفعال الاجتماعي/السياسي المعروف عربيا: فسلطتها تتمركز في هيئاتها العامة وتنتخب قياداتها بالاقتراع الديمقراطي الحر، وتخضع موازناتها لتدقيق شديد من قبل الكتل المتنافسة تنشر نتائجه بشكل شفاف على الهيئات العامة، في حين تنمي النقابات الحس الوطني والوعي السياسي في نفوس منتسبيها عبر نشاطات توعوية وجماهيرية مختلفة، وتشكل حالة تطبيقية لا مثيل لها من "المجتمع المدني" (التوافق المدني) فيعمل في اللجان النقابية المختلفة القومي الى جانب الاسلامي الى جانب الماركسي بتوافق وانسجام كاملين!! الغريب في الامر ان ذلك لا يعجب الكثيرين في زمن "الديمقراطية" و"الشفافية" و"التنمية السياسية" و"المجتمع المدني"!!

* كاتب وناشط في مسائل المقاطعة ومناهضة العولمة، عضو لجنة مقاومة التطبيع النقابية