النمور قبل اليوم العاشر :
النقابات المهنية الأردنية على الأجندة الإسرائيلية

بقلم: د. هشام البستاني
تاريخ النشر : 15:00 09.10.02

د. هشام البستاني

    ربما كان الصديق موفق محادين هو أول من لفت النظر بشكل واضح (وان مختصر) إلى الأجندة الإسرائيلية للنقابات المهنية، بوصفها أحد أهم "المعوقات" تجاه التطبيع الكامل، أو لنقل الإلحاق الكامل للبنية الاقتصادية/الاجتماعية الأردنية بالمركز الرأسمالي الإقليمي (أي "إسرائيل")، وذلك في مقاله المنشور في العرب اليوم

وبدلا من أن يستدعي لفت النظر هذا إعادة نظر كاملة في طروحات الكتاب الذين يطالبون بالقضاء على النقابات من خلال إلغاء شرط إلزامية العضوية، وهي طروحات (إن نظرنا في حجم تأثير النقابات في أعضاءها وفي الشارع) غير بريئة وفي توقيت غير بريء أيضا، وتأتي خدمة لا لشيء إلا إفراغ الشارع العربي الأردني تماما في وقت تقترب فيه الضربة الأمريكية للعراق، وتتصاعد حدة الأحداث في فلسطين . أقول: بدلاً من أن يستدعي لفت النظر ذاك إعادة صياغة لطروحات الكتاب المناهضين للنقابات، استدعت ملاحظات محادين موجة من الاستهزاءات والسخرية، دون أن يتكلف هؤلاء الساخرون عناء البحث والاستقصاء والتوثيق.

وربما كانت هذه السخرية بالذات هي ما دفعتني للبحث عن الوثائق والتصريحات في الصحافة "الإسرائيلية" الصادرة باللغة الإنجليزية (لأنني لا اعرف اللغة العبرية)، وفي النشرات والخطابات والبيانات الصحفية الصادرة عن مؤسسات إسرائيلية أو صهيونية أو صديقة لهما.

في جميع التقارير المستخرجة من خلال الإنترنت، تبرز النقابات المهنية الأردنية كعقبة كبيرة أمام الاختراق الصهيوني للأردن، وتبرز النزعة إلى محاولة إلغاء دورها (تصريحاً أو تلميحاً) كإحدى أهم الحلول المقترحة للوصول إلى "سلام دافئ" بين الشعوب لا بين الانظمة، بما يتضمنه ذلك من إلحاق تام للأردن بالكيان الصهيوني، وكمدخل لاختراق باقي المنطقة العربية.

يلاحظ دانييل بايبس Daniel Pipes (أحد الكتاب المؤيدين للصهيونية) في دراسة نشرها في ديسمبر 1997 على موقعه في الإنترنت انه "خلال 50 عاما، اعتمدت إسرائيل على وسيلتين للتغلب على "الرفضوية" العربيـة [أي رفض وجود إسرائيل]، أولهما القدرة على تحقيق نصر ساحق في حالة الحرب، وثانيهما هو الرغبة في عرض شهامة غير مقيدة في حالة السلام، ورغم أن الهدف الأساسي للتفوق العسكري هو الدفاع عن الدولة ضد الهجمات، إلا أن القصد منه أيضا هو تأسيس إسرائيل كوجود دائم لا يمكن تحريكه، وجود قوي جداً وآمن جداً بحيث يستحيل حتى الحلم في إزالته. الشهامة، على الوجه الآخر من العملة، كانت طريقة إسرائيل لتثبت أنها جار مقبول يمكن للعرب أن يكسبوا منه الكثير، وان لا يخشوا منه في حالات السلام… ولكن لا الشهامة ولا القوة ولا الدمج بينهما نجح في حل مشكلة إسرائيل الأساسية (وهي إن تصبح كيانا "مقبولا")".

ويتابع بايبس: "إن الدخول في "عملية السلام " مع شركاء يرفضون وجودنا، أو أن تقوم قيادات هؤلاء الشركاء بإتمام صفقة بواسطة إحباط الإرادة الشعبية، هي مسألة محفوفة بالمخاطر… هذا يترك خيارا وحيداً أمام إسرائيل: التوقف عن الاستعجال، وانتظار نتائج سياسة الحزم لتفعل فعلها البطيء في القيادات العربية، وربما في الجماهير العربية… وبدلاً من التركيز على النتائج الجانبية للاعتراف العربي (بإسرائيل)، مثل حضور الحكومات لمؤتمر اقتصادي… فان سياسة الحزم تستدعي أن تصر حكومات إسرائيل وأمريكا ليلاً ونهاراً على أساسيات الاعتراف، ابتداءً من وضع حد نهائي للرفضوية العربية".

هكذا يشخص بايبس الخطر الماثل أمام الكيان الصهيوني. انه "الرفضوية العربية"
(Arab rejectionism) : أي رفض الاعتراف بوجود وشرعية "دولة إسرائيل" بين القطاعات الشعبية والجماهير العربية، وهو يحرض قيادته لتتبع سياسة الحزم ( policy of firmness) المتمثلة في إخضاع الشعوب من خلال ضغط إسرائيل والولايات المتحدة المستمر من اجل القضاء على جبهة الرفض الشعبية المتمثلة طبعا في مقاومة التطبيع، دون أن يغفل دانييل بايبس نفسه في بداية مقاله أن يُذَكّر بأن "النقابات المهنية (الأردنية) تمنع أعضائها من الاتصال بالإسرائيليين"، في إشارة واضحة إلى دور النقابات في ترسيخ الرفض الشعبي للكيان الصهيوني.

وفي نفس السياق، تأتي افتتاحية الجروسالم بوست في 14/3/1997 لتؤكد على أن "الخرائط التي لا تظهر عليها إسرائيل في العالم العربي … يجب أن يتم تغييرها. على أطفال المدارس العرب أن يتعلموا ليس فقط عن الحروب مع إسرائيل، ولكن أيضا عن الآمال في السلام". وتعود مسألة النقابات المهنية إلى البروز مرة أخرى حيث تتابع الافتتاحية "وعلى المثقفين والمهنيين العرب الذين يعرفون افضل، أن يتحدوا زملائهم وان يتحدوا النقابات المهنية من اجل التحدث إلى الإسرائيليين، لا مقاطعتهم". وربما من الضروري هنا أن أوضح أن هذه الافتتاحية تناولت الأردن بشكل خاص اثر حادثة احمد الدقامسه.

في حين تقول نشرة The Review ، وهي نشرة تصدر عن مجلس الشؤون اليهودية والعلاقات الإسرائيلية الأسترالية (AIJAC) في إحدى مقالتها المنشورة في عدد أكتوبر 2000 انه "كان هناك مؤتمر في عمان يرعاه مجلس نقباء النقابات المهنية الأردنية بعنوان : مقاومة التطبيع واجب قومي وديني. إن ذلك لا يبشر بالخير لعملية السلام خصوصا عندما تقوم النقابات المهنية بعقد مؤتمر لشجب أي تطبيع للعلاقات مع إسرائيل بوصفها خطرا وشرا".

نفس التركيز حول نفس المسألة تناله النقابات المهنية في تقرير مؤسسة "بيت الحرية" ( Freedom House) الأمريكية التي يتربع في مجلس أمنائها شخصيات من طراز صاموئيل هنتنغتون (صاحب نظرية صراع الحضارات)، ودونالد رامسفليد (وزير الدفاع الأمريكي الحالي والداعية للحرب ضد العراق)، إضافة إلى بول ولفوتز (أحد أهم الصقور في الإدارة الأمريكية، وثالث الثلاثة في المثلث الأمريكي الصهيوني، والآخرين هما: ريتشارد بيرل، وريتشارد ارميتاج). فالتقرير الذي يتناول "الحقوق السياسية والحريات المدنية في الأردن"، والصادر عام 2001، يشير بلهجة إدانة إلى أن "النقابات المهنية المتشددة أصدرت لائحة سوداء في شهر نوفمبر تتضمن صحافيين وأكاديميين وفنانين وشركات ومدارس من الذين روجوا لروابط ثقافية واقتصادية مشتركة مع إسرائيل". ويتابع التقرير بالقول "أن النية الظاهرة كانت لمعاقبة الناس الذين تعاملوا مع إسرائيل ولتثبيط الآخرين من فعل نفس الشيء. بعض النقابات تفصل من عضويتها أي عضو يتعامل مع إسرائيل حارمة إياه بذلك من العمل".

هكذا، تعتبر مؤسسة بيت الحرية مقاومة التطبيع، بما في ذلك نشر المعلومات عن المطبعين (وهو أمر يدخل بالضرورة في بند حرية تداول المعلومات الذي يختفي طبعا عند دعاة الديمقراطية المزيفين أولئك)، مسألة انتهاك لحقوق الإنسان! في حين لا تذكر أبدا قصة اعتقال أعضاء لجنة مقاومة التطبيع وتحويلهم إلى محكمة أمن الدولة رغم أن موقع الإنترنت يشير إلى أن آخر تحديث تم للوثيقة كان في 14/6/2001، أي بعد 5 اشهر من الاعتقال! ولا يخفى على القارئ الحصيف تلميح بيت الحرية إلى إلزامية العضوية التي تحرم العضو المفصول من العمل، في إشارة إلى انتهاك الإلزامية لحقوق الإنسان، وهو خطاب بتنا نسمعه اليوم كثيرا من الأوساط الحكومية.

وتُعبر عصبة مناهضة التشهير (Anti- Defamation League)، وهي مؤسسة صهيونية تأسست عام 1913 وتعتبر أهم مؤسسة لمكافحة "اللاساميه"، عن نفسها بصراحة اكبر فيما يخص مقاومة التطبيع. ففي بيان صحفي صدر عنها في نيويورك بتاريخ 29/1/2001 (أي نفس تاريخ اعتقال لجنة مقاومة التطبيع النقابية)، عبرت العصبة عن "غضبها الشديد على جهود مقاومة التطبيع التي تقوم بها النقابات المهنية في الأردن… وما يقرع جرس الإنذار بشكل خاص هو إدراج اسم رئيس وزراء الملك عبدالله (Cabinet Chief- هكذا جاءت في الأصل، رغم أن اسمه لم يدرج في القائمة الصادرة عن النقابات المهنية) في القائمة، مما يبين المدى الذي يمكن أن يصل إليه هؤلاء في جهودهم ضد إسرائيل".

ويمضي التصريح الصحفي للعصبة بالتحريض، ناقلا على لسان مديرها الوطني أبراهام فوكسمان "أن إدراج رئيس حكومة الملك على القائمة السوداء هو إهانة للعائلة المالكة، وهو عمليا إدراج للملك نفسه على القائمة السوداء". والقصد واضح هنا بدون أي تعليق!

هذا التحريض يتكرر في خبر نقله لجنة بيت إيل الصهيونية العاملة في تورنتو - كندا، بتاريخ 13/8/1999، حيث يقول الخبر أن "قادة المجموعات المهنية ال 14 يدرسون فرض عقوبات قوية على الأردنيين الذين يريدون إكمال دراستهم في الجامعات الإسرائيلية". وتضيف اللجنة تعليقا بعد الخبر مفاده انه "منذ عدة شهور اظهر التلفزيون الأردني الملك حسين وهو يخاطب قيادة النقابات المهنية، ويأمرهم أن لا يتدخلوا في الشؤون الخارجية".

ويستمر الاهتمام بالنقابات المهنية الأردنية في التقارير الصهيونية بشكل كبير، فنقرأ في الفصل الخاص بالأردن في التقرير العالمي حول اللاسامية لعام 1997 أن "النقابات المهنية الأردنية الاثنتي عشر، والتي يسيطر عليها الإسلاميون واليساريون، قامت بمنع الاتصال بالإسرائيليين. وفي بداية 1996، تحفزت الحكومة لقصقصة أجنحة المعارضة من خلال تفعيل التشريعات لإعاقة النشاطات السياسية للنقابات المهنية. لكن الانتقاد العام لإسرائيل بعد الانتخابات الإسرائيلية في أيار أدت بالحكومة إلى إعادة النظر في هذا الإجراء". إن الحديث هنا عن تفعيل تشريعات لقصقصة أجنحة العمل السياسي للنقابات يبدو مألوفا لنا!

وفي نفس الفترة، أي عام 1997، وبالتحديد 29 كانون الثاني، يخرج علينا تقرير من معهد واشنطن، كتبته لوري بلوتكن، يقول بان مشاعر الشارع الأردني المناهضة للتطبيع "تغذيها الأحزاب اليسارية والإسلامية الأردنية، و12 نقابة مهنية. عندما كان حزب العمل في السلطة في إسرائيل، جهدت النخبة السياسية الأردنية من اجل إزالة الشرعية القانونية عن هذه الجهود، وان تشارك بقرب في مبادرات التطبيع".

ولكن، للصبر حدود كما يقول المثل، وكان لا بد أن تنتقل القيادة الصهيونية من مجرد التحليل والتحريض، إلى الضغط المباشر، فكان أن تسارعت الوتيرة في الأعوام الثلاث الماضية، ففي الخبر الذي نشرته صحيفة "هآرتز" يوم الثلاثاء 26 أكتوبر 1999، نقرأ أن "القضية المركزية التي تناولها عوديد عيران (سفير إسرائيل في الأردن)" أثناء مؤتمر صحفي بمناسبة الذكرى الخامسة للمعاهدة الأردنية الإسرائيلية، "كانت حملة النقابات المهنية الأردنية ضد علاقات اقرب مع إسرائيل". "هذه النقابات"، يقول السفير الإسرائيلي "يسيطر عليها الإسلاميون واليساريون المعارضين للتسوية في الشرق الأوسط ويعاقبون أعضاءهم إذا اتصلوا بإسرائيل".

وينتقل سعادة السفير الإسرائيلي من الكلام إلى الفعل، ففي 7 ديسمبر من نفس العام (أي 1999)، أوردت شبكة راديو إيانا الأمريكية خبرا مفاده أن "السفارة الإسرائيلية في عمان قالت اليوم أنها بدأت بممارسة ضغوطات شديدة على الأردن من اجل منع ( outlaw- أي جعل الشيء غير قانوني) مقاطعة إسرائيل من قبل النقابات المهنية الأردنية. وقد اعلم القائم بالأعمال الإسرائيلي ياكوف روزين وزارة الخارجية اليوم أن سكوت المسؤولين الأردنيين في وجه المقاطعة تهدد بفشل عملية التطبيع مع الأردن وبقية العالم العربي".

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد أوردت صحيفة الجروسالم بوست في عددها الصادر يوم الأربعاء 23/8/2000 أن "المتحدث باسم الكنيست (أي رئيس الكنيست) ابراهام بورغ اجتمع أمس في تل أبيب مع رئيس مجلس الأعيان الأردني والمتحدث باسم المجلس. وقد قال بورغ انه عبر عن عدم رضاه عن الرأي العام في الأردن اتجاه إسرائيل، خصوصا النقابات المهنية، التي تمنع التطبيع بين البلدين".

وفيما يشبه رجع الصدى البعيد، أوردت جانين زكريا في تقريرها المعنون ب "تجارة خطرة" (Risky Business) المنشور في عدد الثلاثاء 16 أكتوبر 2001 من الجروسالم بوست ما يلي: "لقد أملت إسرائيل أن الاردن سيتخلص من القانون الذي يجعل انضمام المهنيين الأردنيين إلى النقابات المهنية إجباريا، وهو ما يثبط الاتصال بالإسرائيليين، ويضع عقوبات على أولئك الذين يقومون بهذا".

أخيرا، نستنتج مما سبق ما يلي:

أولا: تحظى النقابات المهنية الأردنية باهتمام خاص جداً في الأوساط الإسرائيلية والصهيونية، خصوصا فيما يتعلق بالبحث والتحليل حول دور النقابات المهنية في مقاومة التطبيع والتغلغل الصهيوني في الاردن.

ثانيا: تقوم الأوساط الصهيونية بالتحريض ضد النقابات المهنية الاردنية، تارة من خلال الإيحاء بان النقابات المهنية تستعدي الملك والعائلة المالكة (تقرير عصبة مكافحة اللاساميه، وتقرير لجنة بيت إيل)، وتارة من خلال تحريض النقابيين على عدم الالتزام بقرارات مقاطعة التطبيع (افتتاحية الجروسالم بوست 14/3/1997)، وتارة من خلال تحريض منظمات حقوق الإنسان (تقرير بيت الحرية 2001)، وتارة من خلال تحريض الحكومة والنخب السياسية الحاكمة (التقرير العالمي حول اللاساميه 1997، وتقرير معهد واشنطن 1997).

ثالثا: تقوم الدبلوماسية الإسرائيلية باستمرار بالضغط من اجل تصفية دور النقابات المهنية الأردنية الوطني (المؤتمر الصحفي للسفير الإسرائيلي 10/1999، تقرير راديو إيانا 12/1999، لقاء رئيس الكنيست مع رئيس مجلس الأعيان 8/2000).

رابعا: تطرح الأوساط الصهيونية حلين لاحتواء وتصفية دور النقابات المهنية: إلغاء إلزامية العضوية (تقرير جانين زكريا في الجروسالم بوست، أكتوبر 2001)، أو جعل النشاط السياسي للنقابات المهنية عملا غير قانوني (تقرير شبكة راديو إيانا ديسمبر 1999، وتقرير معهد واشنطن كانون ثاني 1997).


___________________________________________________________________
-نشر هذا المقال في صحيفة العرب اليوم الاردنية، الثلاثاء 8/10/2002