الجريمة لن تقيد ضد مجهول !
بقلم : د. إبراهيم حمامي *

د. إبراهيم حمامي

ظاهرة الملل والنسيان هي ظاهرة قديمة جديدة بل مرض أصاب الجميع تقريبا أفرادا ومؤسسات فكما وصلت أخبار فلسطين في جميع النشرات والبرامج الإخبارية إلى المرتبة الأخيرة أو التي تسبقها رغم إستشراس الإحتلال وعربدته في مدن وقرى وبلدات ومخيمات فلسطين الحبيبة، نجد حتى الأفراد وبخاصة المثقفين منهم قد أصابتهم هذه الظاهرة لتثور ثائرتهم حول موضوع ما ثم ما تلبث أن تخبو إذا طالت المدة أو يتحول الحماس إلى موضوع آخر جديد.

بدأت الأصوات تخبوا والأقلام تجف والأحاديث تتلاشى حول جريمة تسريب الأسمنت لبناء جدار الفصل العنصري التي يتهم بالتورط فيها "قيادات" على أعلى مستوى في ما يسمى "السلطة الوطنية الفلسطينية" بعد أن كانت هذه الجريمة الموضوع الرئيس خلال الأسابيع القليلة الماضية وهذا بلا شك تتحمل مسؤليته الأقلام والأصوات الحرة والتي من واجبها إبقاء الملف مفتوح حتى يأخذ العدل مجراه ويعاقب كل من خان الأمانة والوطن مهما كان منصبه أو رتبته ولكن أيضا هناك وجه آخر للجريمة بدأ بالظهور ويكاد يوازيها في الخطورة!

إعلان النائب العام حسين أبوعاصي بعد أقل من أسبوعين على تصريحات روحي فتوح رئيس المجلس التشريعي يوم 15/06/2004 (مع تحفظي على تلك المناصب والألقاب والتي لاأعترف بها أساسا) أن ملف جريمة الأسمنت قد تم تحويله للنيابة العامة للنظر فيه، إعلانه أن الملف لم يصل إلى النيابة العامة ولاعلم لديه بهذا الموضوع يضيف جريمة جديدة لجرائم سلطة أوسلو بوجوه جديدة أبطالها أعضاء التشريعي وقضاة النيابة العامة!

هذه ليست المرة الأولى التي يختفي فيها أحد الملفات فتقارير كثيرة سابقة صادرة عن الرقابة الإدارية والرقابة المالية والتشريعي نفسه إما إختفت بقدرة قادر أو وجدت طريقها إلى أحد أدراج مكتب "الرئيس" وفي النهاية طوي الموضوع ومل الناس من الخوض فيه والمؤسسات التي أصدرته لم تتجرأ على السؤال عنه. (إختفاء الملايين ال 327 وقضية شركة إتصالات فلسطين وبنك فلسطين الدولي وغيرها)

إذا فهي ليست صدفة أو خطأ أن يضيع أو يختفي ملف الجريمة خاصة أن المتورطين فيه هذه المرة هم على أعلى مستوى وعلى رأس الهرم السلطوي، فلعبة النسيان والملل التي بدأت بها الموضوع هي لعبة قد أجاد "أبطال" أوسلو المتهمين لعبها على مدار عقود من الزمان ونجحوا فيها ببراعة وهذا يفسر الصمت المطبق لكل أركان هذه "السلطة" وعدم صدور أي تعليق ولو بسيط أو عابر منهم وهم من ملأ الفضائيات والشاشات عنتريات لسنوات مراهنين على مبدأ النسيان والملل بمساعدة ضمنية مباشرة أو غير مباشرة (وأفترض حسن النية ولا أقول تواطؤ) من المجلس التشريعي والنيابة العامة وكل المؤسسات الأخرى وإن كانت هي نفسها غارقة في الفساد.

النيابة العامة المفترض أنها المحقق الرئيسي في الجريمة والممثلة لمؤسسة القضاء في سلطة "أوسلو" وصلت إلى مستوى من الفساد لايمكن وصفه مما حذا بالمحامين في فلسطين الأسبوع الماضي إلى إعلان الإضراب العام الشامل ممتنعين عن الظهور والمرافعة أمام المحاكم لمدة يوم واحد كبداية لسلسلة من الإحتجاجات على عدم تطبيق القانون خاصة من قبل الهيئات القضائية في تطبيق للمثل (واضع القانون خارقه).

يضاف إلى ذلك سلبية الآخرين من تنظيمات وهيئات أهلية وجاليات والتي تابعت الجريمة فقط من خلال الصحف والإذاعات دون صدور ردود فعل حقيقية ومطالبات بمعاقبة المجرمين بأقصى عقوبة ينص عليها القانون لمن تورط في خيانة الوطن والشعب لتزداد بذلك قائمة الإتهام وتكبر فالساكت عن الحق شيطان أخرس والسلبية في بعض الأحيان مشاركة غير مباشرة في الجرم وسند للمجرم.

كل ما تأمله "سلطة أوسلو" أن ينسى الموضوع فالزمن كفيل بنا جميعا لتقيد القضية بعدها ضد مجهول ولينضم ملف الجريمة إلى الملفات الأخرى في سلة المهملات أو في درج من أدراج "الرئيس" و"يا دار ما دخلك شر" لنستيقظ بعد أيام أو أسابيع (ولا أعتقد أن المدة ستطول) على جريمة جديدة تضاف إلى القائمة الطويلة التي لانهاية لها لمن تفننوا في بيع و"إستثمار" هذا الوطن وشعبه.

هذه المرة ليست ككل المرات فالجريمة هي جريمة خيانة عظمى والمستفيد ليس فقط أفراد "سلطة أوسلو" كما في السابق بل الإحتلال وجداره العنصري البغيض الذي لم يتبق سوى أيام قلائل على صدور قرار محكمة العدل الدولية بشأنه ولا أعرف بالضبط كيف يمكن أن نواجه العالم وقد ساهم "قادتنا الأشاوس" في بنائه وتشييده ليكون "صرحا" يشهد على جريمتهم النكراء؟

كلما إشتد الظلام ظهر دائما بصيص من نور وأمل ليذكر أن شعبنا لن يستكين أو يمل فها هي الأنباء تحمل إلينا خبر إعتصام وإضراب إبن فلسطين السيد عزمي بشارة عن الطعام بالقرب من الجدار العنصري ليسلط الضوء من جديد عليه وليذكر بعدم شرعيته وبالنسبة لي تذكير أن الخير لازال في شعبنا وأن هناك قادة على الأرض وفي الميدان وليس فقط على موائد اللئام.

جريمة الخيانة المتمثلة بتسريب الأسمنت المصري للإحتلال لن تكون كغيرها وهي وإن كانت ليست الجريمة الأولى لكنها بالـتأكيد الأخطر ويجب أن تكون الأخيرة في سلسلة الجرائم والبداية لمبدأ محاسبة ومعاقبة مرتكبيها دون حصانة لأحد. كل المحاولات "لضبضبتها" لن تنجح طالما أبقيناها حية ومتجددة وما ضاع حق وراءه مطالب وأخيرا : عذرا ...

الجريمة لن تقيد ضد مجهول

* د. إبراهيم حمامي : طبيب وناشط فلسطيني
DrHamami@Hotmail.com
تاريخ النشر : 09:25 28.07.04