الفلتان الأمني .. حاميها حراميها
بقلم : د.إبراهيم حمامي

د. إبراهيم حمامي

أعلن محمود عباس المرشح الأوحد لحركة فتح والرئيس المتوقع لسلطة أوسلو ، أنه أعطى أوامره للأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية بالعمل على إنهاء ما أسماه بفوضى السلاح السائدة في قطاع غزة، وفي توضيح للكيفية التي سيطبق فيها ذلك، أضاف بأنه "لن يتسامح مع أي مظاهر لحمل السلاح في الشوارع" ، كما تعهد باتخاذ إجراءات صارمة للقضاء على الفوضى والعنف في الأراضي الفلسطينية قبل بدء الانتخابات الرئاسية" ، وأعطى أوامره للأجهزة الأمنية التابعة للسلطة لاتخاذ كل ما تستطيع من أجل القضاء على ما أسماه بـ "فوضى السلاح والانفلات الأمني في قطاع غزة".

إعلان عباس إحتوى على أمور أخرى منها دعوته الفلسطينيين للتخلي عن المقاومة المسلحة للاحتلال الإسرائيلي، والاقتصار فقط على المقاومة السلمية لاسترجاع أرضهم وحقوقهم، وبغض النظر عن صلاحياته بإصدار الأوامر في ظل وجود رئيس مؤقت لسلطة أوسلو حتى وإن كان صورة فقط، ودون الدخول في تفاصيل دعواته المتكررة لوأد الإنتفاضة، ما يهم هنا هو لعب عباس على وتر الفلتان الأمني لتبرير مخططه الذي أخذت تتضح معالمه في ضرب كل من يقف بوجهه بحجة السلطة الواحدة وسيادة القانون.

لكن عن أي فلتان أمني يتحدث عباس، ومن المسؤول عنه، ومن المجرم في كل ما يجري؟ الإجابة الدامغة التي لا يمكن إنكارها أن الفلتان الأمني هو من صنع سلطة أوسلو وعناصر أجهزتها القمعية، وممارسات أفرادها و"مسؤوليها"، وكأنهم من قصدهم المثل الشعبي "حاميها حراميها"، ليعود بعدها عباس ومن سار في ركبه للعزف على معزوفة الفلتان الأمني، وكأنما هي كلمة حق أريد بها باطل .

كما هو الحال دائما، أطرح نقاطا وحقائق محددة، بالأرقام والتواريخ، حتى لا يكون الحديث كمن يلقي التهم جزافا، وأبدأ بالقول أن جل الجرائم والحوادث التي يطلق عليها فلتان أمني هي من توقيع السلطة المبجلة بشكل أو بآخر، ولا توجد حادثة واحدة موثقة لأي طرف آخر يمكن إتهامه، وهذه نبذة عن هذا الملف:

  • ظاهرة الفلتان والتسيب والإعتداء على المواطنين، ونشر الفساد والرذيلة، والمظاهر الأخرى من رشوة ومحسوبية وغيرها، ترعرعت ونمت مع وصول زمرة أوسلو لمناطق "السلطة"، فهي ظاهرة قديمة بقدم هذه السلطة، التي كان همها الوحيد زيادة عدد أفراد قواها الأمنية القمعية بغض النظر عن خلفياتهم وماضيهم .

  • إزداد إنتشار "الفلتان" مع إنطلاقة إنتفاضة الأقصى، حيث أصبحت الأجهزة الأمنية بلا رقيب أو حسيب وبدأت ممارسة "الزعرنات" على نطاق واسع خاصة في مدن الضفة الغربية التي أعيد إحتلالها بالشكل المباشر في ربيع عام 2002 لتتحول هذه الظاهرة إلى ما يشبه الحدث اليومي.

  • لم تحرك سلطة اوسلو ساكنا تجاه هذه الظاهرة، بل لا أبالغ في القول انها ربما تغاضت عنها عن عمد لتبدأ الآن المعزوفة المذكورة، وهنا لابد من الوقوف على أهم أسباب هذه الظاهرة ودور سلطة أوسلو في إنتشارها، كما رآها الشهيد عبد العزيز الرنتيسي في مقال له قبل إستشهاده تحت عنوان "الفلتان الأمني...أسباب ودوافع" :

  • - عدم قيام الأمن الوطني بدوره في حماية المواطن
    - عدم قيام الأجهزة الأمنية بملاحقة العملاء، وأوكار الفساد، وتجار المخدرات، والتي تشكل خطرا يوازي خطر الإحتلال
    - ما تقوم به العناصر المحسوبة على "السلطة" من إعتداءات مباشرة على أمن المواطن الفلسطيني
    - عدم قيام "السلطة" بتطبيق العدالة والقانون في معالجة قضايا الفلتان، وعدم تنفيذ قرارات المحاكم المختصةالتضييق على المواطنين في رزقهم كما حدث عندما جمدت أرصدة المؤسسات الخيرية

  • كانت السمة السائدة لتلك الإعتداءات هي ما طال الصحفيين بشكل خاص، ففي يوم الأحد 23/12/2001 تم الاعتداء بالضرب المبرح على مراسل "العربية" سيف الدين شاهين ثم تكرر الاعتداء عليه يوم الخميس 8/1/ 2004، وفي صباح الخميس 5/12/2002م أقدم ملثمون تمكن المواطنون الفلسطينيون من التعرف على هويتهم على حرق مكتب الجيل للصحافة في مدينة غزة، وفي مساء السبت 13/9/2003اقتحم عدد من الملثمين المسلحين ببنادق آلية وعصي وسيوف، مكتب قناة العربية الفضائية في مدينة رام الله، وتحت تهديد السلاح، وتوجيه سيل من الشتائم والإهانات، أرغم الملثمون ثلاثة من العاملين في المكتب على التجمع داخل إحدى الغرف، ثم باشروا في تحطيم الأجهزة والأثاث، وفي صبيحة الأحد 14/9/2003 اعترض عدد من المسلحين سيارة موزعي صحيفة الأيام في مدينة غزة، وقاموا بمصادرة قرابة 1400 عدد من الصحيفة، وفي يوم الاثنين 2/2/ 2004 اقتحم ثلاثة مسلحين ملثمين مقر تلفزيون القدس التربوي في مدينة البيرة واعتدوا على موظفيه وأطلقوا نيران أسلحتهم الرشاشة على أجهزة غرفة البث وحطموها، وفي يوم الخميس 5/2/ 2004 تم الاعتداء على مكاتب مجلة "الدار" في غزة، وفجر الجمعة 13/2/ 2004 تم إضرام النار في سيارة الصحفي منير أبو رزق، مدير مكاتب "الحياة الجديدة" في غزة، وفي مساء الخميس 19/2/2004 اقتحم مسلحون مكتب وكالة الأنباء التركية "إخلاص" في مدينة غزة، وطالبوا العاملين فيه بإغلاقه ومغادرة قطاع غزة، وآخرها اغتيال الصحافي خليل الزبن وذلك صبيحة الثلاثاء 2/3/2004، وهنا لا بد أن نتساءل إن لم تكن عناصر من الأجهزة الأمنية هي التي تقف وراء تلك الاعتداءات فمن إذن؟ ولماذا لم تتخذ إجراءات قانونية ضد الفاعلين؟

  • مع بدأ الصراع المحموم على وراثة عرفات ودخول عوامل جديدة على الساحة أهمها الدور الدحلاني خاصة بعد إستقالته وعباس العام الماضي، تفشت هذه الظاهرة وأخذت أبعادا جديدة تمثلت في تطورها لتشمل أجهزة أمنية بكاملها ولتتحول إلى عمليات إختطاف طالت 9 مسؤولين وصحفيين ومتضامنين أجانب خاصة في شهر تموز/يوليو الماضي، وتبع ذلك تسجيل 14 إعتداء على مؤسسات حكومية وأهلية كانت جميعها دون إستثناء من توقيع جماعات إرتبطت بشكل أو بآخر بالحزب الحاكم وتفرعاته المسلحة العديدة.

  • تنوعت الأحداث التي تدلل على غياب سيادة القانون، لتشمل اشتباكات بين أفراد الأجهزة الأمنية المختلفة أنفسهم، في الشوارع والأماكن العامة، وفي أوقات مختلفة، وعمليات اختطاف لشخصيات عامة وأجانب وصحفيين، وعمليات اغتيال واعتداءات طالت شخصيات عامة (نجا من واحدة منها نائب النائب العام) ورئيس نيابة احدى المحافظات، ومدراء مستشفيات ورؤساء بلديات، والشجارات العائلية والشخصية، والقتل على خلفية الشرف. وأدت هذه الأحداث إلى مقتل وجرح مئات المواطنين الفلسطينيين. كما تواصلت الاعتداءات على المؤسسات العامة والدوائر الحكومية والتي طالت مقر المجلس التشريعي، وسجن غزة المركزي ومقرات المحافظات وشركة توزيع الكهرباء وغيرها من المقرات

  • بحسب وحدة البحث الميداني في مركز الميزان في تقريرها بتاريخ 09/11/2004، فإن عدد ضحايا هذه الأحداث بلغ (476) فلسطينياً في قطاع غزة فقط، سقطوا بين قتيل وجريح، من بينهم (83) قتيلاً، خلال الفترة من 1/1/2002 حتى 9/11/2004، وتشير المعطيات إلى أن عام 2004 شهد تصعيداً لهذه الأحداث وكانت حصيلة الضحايا فيه هي الأكبر، رغم أن العام لم ينتهي بعد، حيث بلغ عدد القتلى (33) قتيلاً، فيما بلغ عدد الجرحى (146) جريحاً.

  • المأساة الحقيقية كانت في وصول هذه الظاهرة الخطيرة إلى تهديد حياة المواطن وأمنه بشكل مباشر، وما تم خلال الأسابيع الماضية مخيف ومرعب، وأكرر أن كل الجرائم كانت من توقيع أجهزة وعناصر السلطة المحترمة جدا والتي يقول قادتها الآن أنهم أصدروا الأوامر بوقفها، فهل يا ترى ستحاسب السلطة نفسها؟

  • الأرقام والأحداث الجديدة يشيب منها رأس الولدان وهذا بعضها:

  • - يوم الخميس 04/11/2004 قتل عاهد زهدي بسيسو (36 عاما) على أيدي أحد أفراد الأجهزة الأمنية لخلاف بسيط معه
    - تحولت مسيرة - صباح الخميس نفسه - للمطالبة بإعدام قتلة المرحوم محمد عبد الكريم عيسى، إلى اشتباك مسلح، استخدمت فيه البنادق الرشاشة، والقنابل اليدوية، وقذيفة مضادة للدروع، ما أوقع (11) مصاباً من بينهم (10) من أفراد الشرطة الفلسطينية.
    - يوم 27/11/2004 سجلت حادثة حادثة اغتيال المحاضر في جامعة الأزهر ياسر المدهون، وهو شاب يبلغ من العمر 26 عام متزوج و له ابنة، الأول على دفعته معيد في الجامعة ، ، يكمل دراسة الماجستير، وحتى اللحظة لم يفتح تحقيق حقيقي في تلك الجريمة
    - في 07/12/2004 قتل محمد خليل رجب من الشجاعية دون سبب واضح
    - 08/12/2004 وصلت الطفلة سماح الشمالي 9 أعوام وصلت مستشفى الشغاء بغزةجثة هامدة جراء طعنها بآلة حادة ثلاث طعنات في القلب، مؤكدة أنها لاحظت على الجثة آثار كدمات وخدوش وعنف في الجزء السفلي من جسدها ما يؤكد أن الطفلة قاومت القتلة الذين حاولوا اغتصابها غير أنهم لم يتمكنوا من النيل منها حيث وجد غشاء البكارة سليما.
    - يوم 09/12/2004 قتلت المعلمة أريج زهران الوحيدي (28 عاما) طعنا داخل مدرسة الدرج الابتدائية التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين، حيث تُدرس هناك، وذلك أمام زميلاتها وتلميذاتها.
    - وقعت صباح السبت (11/12) حادثة قتل جديدة بحق الفلسطيني ماهر الحواجرة وسط مدينة غزة بعد تعرضه لإطلاق نار من قبل مجهول لاذ بالفرار
    - 16/12/2004 اختطاف الطفل محمد أنور شويخ (13 عاماً)، الذي اختطف من قبل أفراد مجهولين، بينما كان في طريقه إلى مدرسته في مدينة غزة
    - 23/12/2004 أطلق أحد أفراد جهاز أمن الرئاسة "الـقوة 17" عدة عيارات نارية باتجاه المواطن حسن رضوان غزال، 40 عاماً، من مدينة غزة، وهو ضابط برتبة رائد في الجهاز ذاته، وأرداه قتيلاً بنحو ثمانية رصاصات في أنحاء جسده.
    - قبل أسبوع وتحديدا يوم 24/12/2004 هاجم مسلحون يعملون في الأجهزة الأمنية الفلسطينية منزلاً يعود لمواطنين من عائلة الأشرم، بالقرب من سوق العملة في مدينة غزة، وقاموا بإطلاق النار في الهواء بشكل عشوائي. وأسفر ذلك عن إصابة المواطن أشرف شريف زهرة، 30 عاماً، برصاصة في الوجه، بينما كان يقف على شرفة منزله القريب من مكان الحادث، الأمر الذي أدى إلى وفاته على الفور.

    الغريب أن أجهزة السلطة نفسها وفي أكثر من مناسبة إعترفت بمسؤليتها عما يجري، حيث أقرت الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الوطنية الفلسطينية بمسئوليتها عن حالة الفلتان الأمني التي يشهدها قطاع غزة حاليا، وذلك في اجتماع عقده عدد من قادة هذه الأجهزة في غزة بحضور ممثلي عدد من القوى الفلسطينية. وأقر عدد من قادة هذه الأجهزة خلال الاجتماع الذي عقد الإثنين 8-3- 2004 على أن معظم "التجاوزات الأمنية" تتم على أيدي أبناء السلطة (أجهزة ووزارات)، بحسب النص الكامل لمحضر الاجتماع!! أما الإقرار الثاني وهو الأخطر فكان بداية هذا الشهر بحل فرقة الموت من قبل رشيد أبو شباك وبشكل علني رغم نفي وجود هذه الفرقة لسنوات و هي المعروفةبإقترافها للعديد من الجرائم.

    هل هذا هو الفلتان الأمني الذي قصده عباس، والذي يسعى لوقفه الآن، وهل هو الضرب على أيدي المجرمين والمارقين والعملاء والقتلة، أم أن ما يقصده هو ضرب الآخرين تحت حجة الفلتان الأمني الذي إفتعلته ولا زالت تخطط لإفتعاله الأجهزة الأمنية القمعية التابعة لسلطته لتحقيق مآرب أخرى؟

    الحقائق أمامكم والوقائع الدامغة تتحدث عن نفسها بنفسها، ولا أتجنى على أحد، فأي سلطة تلك التي نأمل بأن تحمل لواء الأمن والأمان، وهل يصبح المجرم هو الحافظ، واللص هو الحامي، والأزعر هو الصالح؟

    الفلتان وكل نتائجه هو صناعة سلطوية أوسلوية، وهو ما ذهب إليه مركز الميزان في تقريره حيث ذكر حرفيا: "مركز الميزان لحقوق الإنسان إذ ينظر بخطورة بالغة لتدهور حالة سيادة القانون في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فإنه يحمل السلطة الوطنية الفلسطينية بصفتها المكلفة بإنفاذ القانون مسئولية استمرار هذا الوضع المؤسف، الذي يتسبب في انتهاك حقوق الإنسان، وفقدان الأمن الشخصي للمواطنين. ويدعوها إلى عدم توفير الحماية لعناصر الأجهزة الأمنية المتسببين في الإشكاليات، وإحالة كل مخالفي القانون للقضاء"

    هل ستحاسب السلطة نفسها وتعاقب نفسها؟ وهل سيتحمل "قادة" السلطة مسؤولية ما جرى ويجري تحت سمعهم وبصرهم، ومن قبل أجهزتهم وعناصرهم؟ ودون تحريك ساكن، وربما بطيب خاطر ورضا؟

    ستحمل لنا الأيام ما كان خافيا!

    د. إبراهيم حمامي

    DrHamami@Hotmail.com

    31-12-2004