في جنيف كانت فلسطين
بقلم : د.إبراهيم حمامي

د. إبراهيم حمامي
على هامش اللقاء التشاوري الموسع بين الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية وفعاليات الجاليات الفلسطينية في الشتات، كان هناك لقاءات أخرى في بهو فندق صغير على الحدود بين فرنسا وسويسرا، لقاءات من نوع وطعم ورونق آخر، متنوع تنوع البلدان التي جئنا منها، وتنوع الانتماءات والأفكار والآراء، أقول متنوعة وليس مختلفة، لنجلس دون تعصب أو تشنج أو انفعال، حتى عند اختلاف وجهات النظر، بل لا أبالغ بالقول أن الصفة السائدة كانت المحبة والمودة مع أخوة يلتقون لأول مرة مع آخرين لا يجمعهم بهم سوى الهم الواحد والهدف والغاية الواحدة وهي فلسطين التي جئنا نحملها في قلوبنا.

ربما هي المرة الأولى التي أدون فيها تجربة شخصية لأشارك القاريء فيها، لأنها كانت غنية بشكل لا يوصف، تنقلها من الشخصية إلى العامة، لتكون درساً في الحوار والنقاش واحترام الآخر والتعاون، وللقاريء أن يتوقف هنا ان شاء، لأن ما يلي يميل للسرد القصصي، لكن ان قررت عزيزي القاريء أن تستمر فلن تندم، هذا وعد!

كانت الفترة الزمنية التي قضيتها في جنيف محدودة زمنياً ولا تتجاوز 48 ساعة، لكنها بلا حدود فكرياً، ولا أفق لها فلسطينياً، ولا حصر لها في معانيها ودروسها، لدرجة أنني لم أرغب في ليلتي الأخيرة مغادرة بهو الفندق الصغير رغم أن موعد رحلة العودة لم يتبق عليه سوى سويعات محدودات وقد تأخر الوقت ولم يبق غيري جالساً هناك أستعرض تجربة جنيف.

في النهاية غادرت البهو متثاقلاً ومفترضاً أنني سأخلد للنوم ما بقي من الزمن، أطفأت الأضواء، وحددت موعداً للمنبه، ووضعت رأسي على الوسادة، وبدلاً من الخلود للنوم، تعاصفت الأفكار والكلمات في رأسي، فوجدت نفسي جالساً من جديد أكتب هذه السطور قبل أن تضيع الكلمات المتعبة تعب جسدي المرهق من عناء يوم طويل حافل.

من اين أبدأ، سؤال حيرني لكن لابد من بداية، ولتكن مع الأخ الذي كتب لي يوماً على البريد الالكتروني كلمات قاسية رافضاً كل ما أكتب واصفاً ومتهماً إياي بالكثير، معتبراً قراءة ما أكتب مضيعة للوقت، لأصر كما إصراره على فتح حوار عبر الانترنت، ملتقياً به لدقائق قبل أسابيع في مؤتمر فلسطينيو أوروبا، لأعود وألتقي به ثانية في مطار جنيف، لتشاء الأقدار وأقضي معظم وقتي معه، نتكلم، نتحاور، نتناقش، بل نتبادل النكات، وكلانا يعلم تماماً بدايات المعرفة بتلك الكلمات القاسية، والتي أصبحت هي الأخرى نكات من الماضي، بل لأقترض منه عملة محلية لمدة يوم بعد أن تأخر الوقت وأقفلت محلات الصرافة، لنكتشف سوياً أن ما نتفق عليه هو أكثر مما يفرقنا، وما نجمع ونهدف له أكبر من أمور شخصية ضيقة لا تثمر إلا ضغينة وتنافر، وليكون ما جمعنا هو ما كاد أن يفرقنا قبل اسابيع وهو فلسطيننا الحبيبة.

ربما بدأت بتلك التجربة لكن هناك غيرها الكثير، ولكل رونق مميز وخاص خصوصية البلدان التي جئنا منها في شتاتنا، فهذا من النمارك، وآخر من ألمانيا، وثالث من النرويج، ورابع من هولندا، وفرنسا، والنمسا، واليونان، وسويسرا، وإيطاليا وبريطانيا وغيرها من دول القارة الأوروبية، منهم من سمعت به إسماً نشطاً، ومنهم من عرفته من خلال أعماله، ومنهم من لم أقابله أو أسمع به من قبل، وفي جميع الأحوال لم تكن الصورة التي رسمتها في مخيلتي لمن سمعت بهم فبل اللقاء مثلها بعد اللقاء، وكلي ثقة أن هذا الإنطباع هو ما خرج به الجميع.

خلال اللقاء التشاوري سمعت لهجة فلسطينية محببة أخالها شمالية لزميل ذكرني بالأب الوطني الفلسطيني عطا الله حنا، جاء من المدينة التي شهدت المؤتمر الصهيوني الذي قرر اغتصاب فلسطين لصالح المشروع الصهيوني، سمعته متحدثاً بنفس قوي ليقول: فلسطين لنا، كانت وستبقى، ولا يحق لفرد أو مؤسسة أو جماعة رسمية أو غير رسمية، التنازل عن شبر منها أو أن تفرط في حق من حقوقنا، ليضيف ماراً مروراً متعمداً أنه يقترح أن يكون الإجتماع القادم في ذات المكان الذي انطلق منه المشروع الصهيوني، لنعيد صياغة التاريخ، فيكون شتاتنا بداية عودتنا، تماماً كيوم فلسطين الذي أحياه فلسطينيو بريطانيا قبل أسبوع في ذكرى النكبة لتتحول هذه الذكرى ليوم نتمسك فيه بحقوقنا.

من عبق الشرق الأوروبي إن جاز التعبير جاء أخ وزميل، حاملاً هموم الوطن وجراحه، متجرداً من أي تعصب أو حكم مسبق، لا هم له إلا إيصال صوته ورأيه من خلال تجربة طويلة في العمل والنشاط الذي ما زال يمارسه في مكان وجوده، وبعزيمة قل أن نجدها هذه الأيام، لأشعر بعد ما سمعته بأن الدنيا ليست بخير، وأن قضيتنا ليست بخير، بل هي بألف خير، طالما وجد أمثاله ممن يترفعون عن الخاص من أجل العام، ولا أفشي سراً إن قلت أن لقاء هذا الزميل كان له أكبر الأثر في نفسي، وفي يقيني أن فتح تحديداً لازالت بخير، لهذا الزميل كل التحية والتقدير.

من أقصى الشمال الأوروبي حضر جريح برجله الخشبية، بل بوسامه الخشبي الذي ناله يوم كان للصمود معنى، ليلتقي مع جريح آخر برجل ووسام خشبي هو الآخر من الأراضي الواطئة في أوروبا، ورغم أنهم يحملون أفكاراً مختلفة، إلا أن الحوار كان ممتعاً يتخلله الابتسام والتعليقات اللطيفة، وذكريات من الماضي عادت بنا لأيام المقاومة الفلسطينية الأولى، وليجمع جرحانا في جنيف، رغم اختلاف آرائهم، ما جمعهم سابقاً في خنادق النضال، فما أروع هذا الشعب.

الكرم الفلسطيني تجسد حياً في قلب أوروبا، ففي الليلة الأولى أقفلت المحال والمطاعم وتحولت المدينة الى مدينة أشباح، وتغلغل الجوع لمعدات أكثرنا، فما كان من أحد مضيفينا في جنيف إلا أن أخذني وزميل جائع آخر لمنزله، لنعد الشطائر بعد أن وضع المطبخ برمته أمامنا على المائدة لنختار ما نشاء، وهو سعيد بكل جوارحه بفلسطينيته متحدثاً بفخر عن أصله ووطنه، لنعود محملين للكثير من الأفواه الجائعة بما لذ وطاب، وليتكرر هذا الموقف مرة أخرى لكن بكرم على طريقة مختلفة، فها هم من قدموا آلاف الأميال من غرب القارة ليكونوا معنا يخرجوا ما لديهم في السيارة، وليجلس الجميع جلسة تذكر بمخيمات الصمود الفلسطينية، وليأكل الجميع وكأنهم عائلة واحدة.

غلبني النعاس، نمت وحلمت، واستيقظت ورحلت، وها أنا ذا من جديد أكتب في ردهات المطار وأكمل حديث الذكريات، فكان أن خطر ببالي ذلك العود الرنان الذي شجا بصوت فلسطين بالأمس وبتراثها وعبق رياحينها، وبحنين ودفيء الوطن السليب، وليخطر ببالي من كان وراء هذا اللقاء، وجهده الذي بدأ بفكرة تبلورت لبيان في شهر ديسمبر/كانون أول الماضي، ليحمل فرد واحد على عاتقه متابعة كل ذلك متصلاً بأقاصي الكرة الأرضية وبأركانها، وليتابع ليل نهار دون ملل مع من يعنيهم الأمر، وليطير إلى تونس، من وقته وجهده وماله، ليضرب مثلاً حياً على العمل الدؤوب المتواصل والمثمر رغم الصعوبات والعقبات العفوية والمقصودة، وصولاً إلى لقاء جنيف، مستحقاً التوقف والتفكر، ان كان هذا اللقاء هو حصيلة جهد شبه فردي، مع زملاء له في مكان تواجده وخارجه، فما الذي يمكن تحقيقه ان اجتمعت الجهود وخلصت النوايا، سؤال لا تصعب عليه الإجابة، مرة أخرى تحية له ولزملائه.

في اليوم الأول لوصولنا كان هناك توتر وقلق من موقف معين خشي أكثرنا أن يؤثر على عقد الإجتماع، لكن أيضاً كنت شاهداً على ما أعتبره سابقة تثبت أن الدنيا ما زالت بخير، ففي مساء هذا اليوم حضر من ينوب عن الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية وهو سفير متجول، ليطمئن الحضور معتذراً عن سوء الفهم غير المقصود، نعم أقول معتذراً، وهو ما لم أسمع به من قبل على مستوى أي مسؤول مهما كان مركزه، ليضفي ما قاله احتراماً أكبر وأكثر له، وليزيده مكانة في نفوسنا، عكس ما قد يتصوره البعض، لأن هذه هي الأخلاق التي يجب أن يتحلى بها أي مسؤول، وقد كان ما قيل في تلك الليلة مثالاً يحتذى به، وتواضعاً كالعملة النادرة هذه الأيام.

في هذه الفترة الزمنية القصيرة ايضاُ، وبالصدفة البحتة عرفت أن هناك أقرباء لي من الدرجة الأولى يعيشون في جنيف، لم ألتق بهم من قبل بسبب الحدود والعراقيل في الدول العربية تمنع حملة الوثائق من التحرك واللقاء، لكن أعرفهم بأسمائهم التي طالما حدثني عنها والدي رحمه الله، حدث الإتصال، ومن ثم اللقاء، لتكون لجنيف هذه المرة لمسة شخصية لايمكن أن تنسى، كيف لا وأنا أجلس مع أقرباء لي ألتقيهم أول مرة، لكني اشعر بأني أعرفهم منذ زمن بعيد، تحدثنا، وتجولنا، وأنتهينا في مطعم هو أيضاً لفلسطيني في فرنسا، لأعود للفندق مكتشفاً أن باقي الزملاء قد خرجوا، جلست أنتظرهم في نفس البهو الصغير، لأفاجأ بمن يكلمني بالعربية ويعرض علي شرب القهوة، فإذا به مشرف الفندق تلك الليلة وهو من العراق الجريح ساءه أن يراني جالساً بمفردي فجاء بقهوته العربية وجلسنا سوياً نتحدث عن العراق وفلسطين، حديث طويل ذو شجون وهكذا كان.

بين أقربائي وشريك الهم من العراق النازف تذكرت الحدود التي تفرقنا في وطننا العربي الواحد، وحاولت أن أعد كم مرة تنقلت بين سويسرا وفرنسا عبر الحدود في يومين فقط دون أن يستوقفني أحد ولو مرة واحدة متسائلاً، من وكيف ولماذا وإلى أين، وغيرها مما نتعرض له على بوابات الأقطار العربية، لم أستطع أن أحدد كم مرة تنقلت، فهل يأتي يوم نتنقل فيه من مشرقنا إلى مغربنا دون حواجز وعراقيل؟

جنيف تلك المدينة التي ارتبط اسمها بالوثيقة المشبوهة التي أرادت أن تُسقط حقوقنا تحت ذرائع وحجج واهية، تحولت في ذاكرتي وبعد اللقاء الرسمي واللقاءات غير الرسمية إلى نقطة انطلاق للتمسك بما حاول البعض التفريط فيه، ولتكون اللبنة الأولى في هذا العمل الوطني الكبير في الشتات، ولمن فاته أن يكون معنا أقول، فاتكم الكثير، وسيفوتكم الأكثر لأن معرفة الرجال كنز لا يمكن تثمينه، وللتواصل والحوار قيمة لا توصف، وللعمل الجماعي المشترك المترفع عن الأفق الفصائلي التعصبي الضيق فوائد لاحصر لها، والأهم من كل ذلك فلسطيننا الحبيبة كانت حاضرة معنا، تنادينا أن نؤدى رسالتنا، واجب نقوم به لا منة ولا جميل، طائعين مختارين.

لا أعرف هل يحق لي أن أشير وأنوه؟ على كل حال سأقولها: كل من جاء وحضر وشارك، تحمل ذلك من وقته وجهده وماله الخاص ليصنع الحدث، وليكون في لقاء فلسطين، فهل هناك حرص أكثر من ذلك على العمل؟ ليت من يدعون القيادة ممن اكتنزوا الثروات باسم الثورات بمثل هذا المستوى الراقي من العمل والعطاء بلا حدود.

حان موعد إقلاع الطائرة، علي لملمة أوراقي، لكن قبل ذلك سأنهي بسؤال: هل يمكن تخيل أن كل ذلك حدث في أقل من 48 ساعة؟ مهما كان الجواب فما ذكرته ليس قصة أو خيال بل واقع عشناه جميعاً.ً

لكل الأخوة والزملاء ألف ألف تحية، ومعذرة لأني لم أذكر الجميع فهذا والله سيحتاج لصفحات وصفحات، في جنيف كانت فلسطين حاضرة معنا وبها التم شملنا وعليها توحدت كلمتنا، فإلى لقاء قريب في فلسطين إن شاء الله تعالى.

د. إبراهيم حمامي
DrHamami@Hotmail.com
08/06/2005