مات عرفات لكن... كلهم كذبوا
بقلم : د.إبراهيم حمامي

د. إبراهيم حمامي

مات عرفات ... رحل إلى دار الحق بين يدي عزيز مقتدر، بعد صراع مع مرض لا نعرفه، غامض كغموض عرفات نفسه، لم يمت عرفات اليوم كما أرادوا لنا أن نصدق، لكنه رحل منذ أيام بعد أن تلاعب بمرضه وموته رفقاء الأمس فرقاء اليوم، فأجّلوا إعلان موته، وإختلفوا، وسافروا، وصرحوا ثم تعاركوا بالكلمات وعلى الشاشات، وكانت سمة كل ذلك الكذب البواح وتغليب مصالحهم فوق مصلحة الشعب وحقه في معرفة ما يجري، لكن الضحية هذه المرة كان عرفات!

رحل عرفات يوم الخميس 04/11/2004 حسب مصادر مقربة في المستشفى الباريسي العسكري، بل ربما رحل قبل ذلك ومنذ وصوله إلى باريس يوم رأيناه على نقالة مغطى بلا حراك، بل في واقع الأمر رحل، أو بدأ رحلة الرحيل يوم مرض في مقره في رام الله وأصر الجميع أنه إرهاق وإنفلونزا، رغم أن الدلائل كانت تشير إلى مرض خطير قاتل، وهو ما سبق وذكرته يوم 25/10/2004 تحت عنوان (إنفلونزا رئاسية).

وفود الأطباء من الدول المختلفة، ونوعية الفحوصات، والتكتم عن التشخيص، والتخبط والكذب كانت دلائل على خطورة الوضع، لم يكن الأمر يحتاج إلى خبرة طبية كبيرة، فحتى طالب طب في السنة الأولى من دراسته وبمتابعة لما رشح من داخل مقر المقاطعة كان يعلم أنه مرض الموت، لكن أباطرة الطب الحديث في المقاطعة بدأوا حملة الإستخفاف بعقول الناس وبدأنا نسمع فتاوى على الهواء بين الطيب عبد الرحيم الذي علق على غيبوبة عرفات قائلا أن الأطباء خدروه في غرفته ثم نقلوه إلى غرفة العناية لإجراء عملية تنظير وأنه سيعود لممارسة عمله المعتاد بعد ساعات، مرورا بشعث الذي تخصص في أمور الأجهزة الحيوية خاصة الكبد، وليس إنتهاءا بباقي "الشلة" من الطريفي، ودحلان، وعريقات، وقريع، وعباس، وغيرهم الكثيرون الذين ملأوا الفضائيات ضجيجا طبيا لا أساس له من الصحة.

كلهم كذبوا دون داع أو مبرر، وإستمروا في لعبة الخداع حتى اللحظات الأخيرة، فحتى عندما تأكد وتيقن الجميع أن عرفات في غيبوبة لا رجوع منها يوم وصول الوفد "الرئاسي" القريعي العباسي للإعلان عن موت عرفات أصرّوا أنه بخير، بل زادوا هذه المرة بأن خرج علينا أخ غير شقيق لعرفات - لم أسمع به من قبل إسمه محسن القدوة- ليؤكد أنه جلس وتحادث صباح ذلك اليوم مع عرفات وأنه لا وجود لأجهزة إنعاش كما أشيع! ليعود شعث مساءا ليكذب شقيق عرفات ويقول أن قرارا لم يتخذ بعد بالنسبة للأجهزة التي تبقي عرفات حيا، علما بأن أحدا لم يعترف حتى لحظة ذلك المؤتمر الصحفي مساء يوم 09/11/2004 أن عرفات كان على الأجهزة المذكورة بل كانت القاعدة السائدة نفي هذا الأمر وإستنكاره وإتهام من يروج له بالعمالة لآلة الإعلام الشارونية التي تبث الإشاعات.

كلهم كذبوا وإستمروا في الكذب، حتى عندما خرجت "سيدة فلسطين الأولى" كما كانت تلقب "سهى هانم عرفات" ببكائيتها على قناة الجزيرة فجر يوم 08/11/2004 أصرت أن عرفات عائد لوطنه وأنه بخير وأن "الحفنة" القادمة تريد دفنه حيا، بينما في واقع الأمر كانت تعلم جيدا أن زوجها يحتضر وربما فارق الحياة. لم يكن همّها الزوج المحتضر ولا حالته الصحية التي شكلت حاجزا حوله متذرعة بأنها الأقرب إليه والأحق به بعد أن تركته لسنوات وحده، بل حالته المادية المالية، وهو البعد الجديد الذي أضافته بصراخها على الجزيرة، وإلا عن أية وراثة تتحدث "سيادتها" وما هي مصلحتها كزوجة في تأخير الإعلان عن موت زوجها، وتحصنها بالقوانين الفرنسية لمنع الآخرين من زيارته؟ لا تفسير لذلك إلا المال والمال فقط.

كلهم كذبوا، حتى في ردودهم على سهى عرفات، فهاهو عبد ربه الذي عاد للظهور من جديد منتفخ الأوداج يشخّص حالتها على أنها هستيريا غير مقبولة، ليصرح باقي أعضاء "الشلة" بأنها ليست في وعيها بسبب حزنها على زوجها، وليكيل آخرون الإتهامات بأنها إختطفت عرفات إلى باريس كالمتمصلح دحلان، ليزيدوا جميعا الطين بلة، وليظهروا أمام العالم أجمع أنهم تائهون متخبطون بلا وعي ولا إحساس بالمسؤولية.

كلهم كذبوا وأمعنوا في ذلك، بل ورّطوا قاضي القضاة بتسفيره إلى باريس ليفتي بحرمة فصل الأجهزة التي كانت تبقي عرفات حيا، حتى لا يظهروا بمظهر من فعلها ليؤكدوا أقوال سهى عرفات بأنهم "أرادوا دفن عرفات حيا"! ثم أخرجوا عملية الوفاة بالشكل الذي إرتأوه وبعد "ضبضبة" كافة القضايا الأخرى.

كلهم كذبوا، ولا أجد تفسيرا منطقيا للكذب، ولا مبررا له، ولا داعيا للإستمرار فيه لمدة تجاوزت 3 أسابيع ألقت بغموض مريب حول طبيعة مرض عرفات، ليتركوا الباب مفتوحا على مصراعيه للشائعات والقيل والقال، وليتراوح تشخيص المتابعين غير العالمين بالأمور إلا ظاهرها، بين سرطان المعدة، وسرطان الدم، والإيدز، والتسمم، وغيرها من التشخيصات التي ما أنزل الله بها من سلطان، ليخرج علينا كل يوم "طبيب" أوسلوي جديد ومتحذلق متفزلك لينفي هذا التشخيص ويعلق على الوضع الصحي ويتحدث عن نتائج الفحوصات وغيرها، ليزيد من الشكوك، وليزيد الأكاذيب كذبة جديدة.

الفرضيات العديدة أدت إلى ردود فعل عاطفية تشنجية، فكتائب الأقصى في بيان لها يوم 09/11/2004 تهدد المتورطين في تسميم عرفات، وقبلها يطالب الأسير حسام خضر يوم 08/11/2004 بفتح تحقيق في ملابسات التسمم، وليكتب بعدها الكثيرون في الصحف والمجلات مؤكدين أن عرفات مات مسموما، بل ليدعي البعض معرفتهم بنوعية السم، ثم ليصدم الجميع بحقيقة مفادها أن فرضية التسمم تم إستبعادها تماما وذلك على لسان وزير الخارجية الفرنسي يوم 08/11/2004 ومن بعده الناطق بإسم "الشلة" شعث يوم 09/11/2004، وقبل هذا وذاك الرجوب الذي أعلنها أيضا من على شاشات الفضائيات أنه لا وجود لحالة تسمم ولا تحقيقات جرت بشأن هذا الموضوع.

كلهم كذبوا، وهذا ما يطرح عدة تساؤلات أهمها:

  • مصداقية "شلة الحكم" الجديدة، وثقة الآخرين بها، وأحقيتها بالتحكم في رقاب الشعب حتى قبل الإستلام والتسليم رسميا، بعد سلسلة الأكاذيب وعمليات الخداع التي مورست لأسابيع ومن على الشاشات وفي الصحف. هذه "الشلة" التي يقودها عباس والذي سبق وأن وصفه عرفات بكرزاي فلسطين، يتعامل معها عباس كملك متوج فيطير بإسم فلسطين للتعزية في الشيخ الراحل زايد بن سلطان، ثم ليقف بجانب شيراك كزعماء الدول، وهو الذي إستقال من مناصبه في حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية قبل أكثر من عام، أي أنه بدون صفة رسمية حتى بمقاييس أوسلو ذاتها. كيف لنا أن نصدق هؤلاء الذين أمعنوا في تزوير الحقائق؟

  • كيف سيتم تعيين القيادة الجديدة في ظل دستور لم تتم المصادقة عليه، أي غير ساري المفعول، وإنتخابات لن يسمح الإحتلال بإجرائها، وصراع حاد بين الأطراف المختلفة للحصول على نصيب في التركة، وفي ظل فتوى قانونية من د.أنيس مصطفى القاسم، رئيس اللجنة القانونية في المجلس الوطني سابقا، أن القيادة الجماعية أو "الترويكا" غير شرعية!

  • ما هو مصير أموال الشعب التي كانت مودعة بإسم عرفات وفي حسابات شخصية رغم أنها تخص الشعب ومؤسساته، والتي أصبح من الواضح طمع من كانوا حوله فيها، خاصة أرملته التي عاشت غريبة عن مجتمعها، والتي إذا أصرت على تطبيق القوانين الغربية أو حتى الشرع الإسلامي فستستأثر بهذه الأموال دونا عن غيرها فهي أرملة المتوفي وأم إبنته والوريث الوحيد حسب قوانين الدول المودعة فيها الأموال أو بعبارة أخرى "Next of Kin" بمعنى أنها "ستقش" كل شيء، وعلى رأي زوجها "اللي مش عاجبه يشرب من بحر غزة!".

  • ما هو دور الفصائل الفلسطينية الأخرى فيما جرى وما يجري خاصة بعد رفض قريع المستأسد أي دور لهذه الفصائل في تركيبة القيادة الجديدة ورفضه لقيادة موحدة، وفي ضوء مغازلات عباسية شارونية وصلت لحد التلويح برزمة من "النوايا الحسنة" سيقدمها شارون لعباس لدعمه كزعيم جديد.

  • ما هي طبيعة مرض عرفات؟ لا يمكن القبول بأن كل الطب في العالم عجز عن تشخيص حالته! فإضافة للفرق الطبية من مصر وتونس، وإضافة لوجوده في مستشفى تخصصي عسكري يشهد له بالتقدم في مجال الطب، فقد أرسلت عينات من دم عرفات إلى ألمانيا والولايات المتحدة، وبعد كل ذلك لا شيء، لا نتيجة. لم أسمع يوما بعجز الطب عن تشخيص حالة مهما بلغت، اللهم إلا في حالة الوفاة الفجائية والتي تتطلب تشريح بعد الوفاة للوصول لتشخيص محدد، وأيضا قد يعجز كل أطباء العالم عن علاج حالة معينة، ولكن لم أسمع يوما أن الأطباء عجزوا عن تشخيص حالة مريض. لماذا إذا هذا الغموض الذي يثير الشكوك والريبة؟ أليس من حقنا أن نعرف ما هو مرض عرفات؟ وكيف ومتى توفي؟ خاصة بعد تصريحات طبيبه الخاص الأسبوع الماضي "أشرف الكردي"، ومن على شاشات الفضائيات، الذي كال اللوم والعتاب لمن هم حول عرفات لأنهم لم يبلغوه وآثروا الفرق الطبية المصرية التونسية، وأنه لو كان أبلغ من شهر لإستطاع علاج عرفات، وإشتكى أيضا أنه لا يتلقى أية تقارير عن صحة عرفات من فرنسا رغم أنه من قام بإجراءات تحويله الطبية!
  • أسئلة يلف إجاباتها غموض مفتعل ومقصود، غموض إعتدنا عليه خلال مراحل حياة عرفات، وخلال مرضه وحتى في موته.

    بموت عرفات تكون حقبة تاريخية إنتهت، وبدأت مرحلة أخرى قد تكون أشد خطورة وشراسة، لكن الشيء المؤكد أن "الشلة" التي قفزت على الكراسي وبدأت إقتسام التركة لا تصلح حتى لبيع البصل في سوق عام، لأنهم كذبوا في السابق، وكذبوا الآن، وسيستمرون في كذبهم، ناهيك عن رائحة صفقاتهم المشبوهة وفسادهم الذي أصبح على كل لسان.

    لا يحق لهؤلاء أو غيرهم القفز على مقدرات الشعب السياسية والإقتصادية، وكأن الموضوع وراثة لمناصب في حفل عزاء إستبعد فيه أصحابه. لقد ثارت ثائرة هؤلاء على سهى عرفات بكلمات حق أريد بها باطل بأن عرفات ليس ملكا فرديا لها، والأصوب والأحق أن يقال أن المواقع والمناصب والأموال التي إحتكرها عرفات لأربعة قرون ليست ورثا أو تركة خاصة يتنازعها أصدقاؤه المقربون ويقتتلون عليها ليأخذ كل منها نصيبه، دون إعتبار للشعب الفلسطيني وإرادته.

    الحل في قيادة جماعية تشمل جميع الفصائل والقوى على الساحة الفلسطينية دون إستثناء، ، فالأمر لم يعد يحتمل عقودا أخرى من التفرد بالقرار، ولم يعد يحتمل رموزا جديدة إلى ما لا نهاية، بل إلتفاف على المصلحة العليا وخيار التحرر بمشاركة من الجميع.

    ستحمل لنا الأيام القادمة الكثير والكثير من المفاجآت التي ربما حلت جزءا من طلاسم وغموض المرحلة السابقة، والتي لا أعتقد أنها ستكون مفاجآت سارة، لكني أتمنى أن أكون مخطئا.

    د. إبراهيم حمامي

    لمراسلة د. إبراهيم حمامي

    11-11-2004