رحيل عرفات والدروس المستقاة
بقلم : د.إبراهيم حمامي

د. إبراهيم حمامي

سبق وتناولت في موضوع سابق نشر بتاريخ 10/10/2004 مسألة الخلاف في الأراء وأصول الإختلاف التي تبقي الإحترام بين الأطراف دون تجريح أو تهجم شخصي مستعينا بأمثلة محددة مذكرا أن " الأصل هو أن الإختلاف على الرأي والفكر وليس على فرد أو منصب".

نعم هذا هو بيت القصيد، وهو ما يدفعني للكتابة مرة أخرى وفي ذات الموضوع بعد رحيل ياسر عرفات وبعد أن ووري الثرى في نهاية رحلة طويلة حافلة ومليئة بما قد نتفق عليه أو لا نتفق.

لا أنكر ولا أنفي، بل أؤكد أنني من أكثر الناس رفضا للنهج الذي مورس طوال 40 عاما من تفرد بالسلطة والمال والقرار وترقية للفاسدين والتغاضي عن أخطاء الكثيرين والمغامرة بمصير وقضية الشعب، ولكن للموت رهبة وموعظة كما له سكرات، نستذكرها دائما عند رحيل قريب، أو عيادة محتضر، أو مشاهدة جنازة، وهذا ما كان طوال يومين تابعنا فيهما جميعا اللحظات الأخيرة لياسر عرفات من باريس إلى القاهرة إلى رام الله، في مواكب مهيبة لرجل صال وجال وزرع الأرض ذهابا ومجيئا، وقاد حركته لأكثر من 40 سنة، وعاصر قادة وزعماء وحركات وحروب وثورات وتغييرات لا حصر لها، ليودع هذه الدنيا الفانية وحيدا إلا من عمله ولا شيء غيره.

لا يمكن لعاقل إلا أن يشعر برهبة الموقف ويتناسى ويترفع عن الخلافات والأحقاد، ويتذكر أن المحمول على الأكتاف هو بشر وإنسان له أهل، وأقارب، ومحبين، ومريدين، وشريحة كبيرة من أبناء شعبه ممن يعتبرونه أبا ورمزا لهم، ويرون فيه القائد والزعيم الذي لا يعوض، ولا يمكن لعاقل أن يتفق مع شذاذ الأفاق من الذين رقصوا طربا وغنوا شماتة بالموت في شوارع القدس السليبة، وهو الأمر الذي لو كان حدث معكوسا، بمعنى أن من مات هو من قادة الإحتلال وأن من يرقص هم المظلومون من شعبنا، لوجد الخبر طريقه لصفحات العالم الأولى وعلى صدر نشراتها ترغي وتزبد لتقول الفلسطينيون يشمتون بالموت! منظر جلل يزلزل النفس، ويعمل التفكير، ويذكر بأننا على الطريق وأنه لا يبقى إلا وجه الله الكريم.

لايمكن أيضا لأي منا أن يحعل الخلاف في الرأي والإعتراض على الأسلوب والمنهج سببا للإصطياد في الماء العكر لتسجيل موقف هنا أو هناك، وهو ما عكسته تماما مواقف القوى والفصائل والشخصيات الفلسطينية دون إستثناء، والتي كان بعضها من المتضررين مباشرة من السياسات الخاطئة في السنوات الماضية، لكنها عزّت وشيّعت وشاركت في المراسيم بصدق دون نفاق، ووقفت وقفة رجل واحد لثبت للعالم أجمع أن ما يجمعنا أكثر بكثير مما يفرقنا،وأننا شعب مباديء وقيم وأخلاق وحضارة، نترفع ونتجاوز عن الأخطاء والمصالح الضيقة، ولا نعطي فرصة لشامت أو متربص لأننا شعب عظيم.

لقد ذرف الآلاف دموعهم على عرفات لأنهم نسوا السلبيات وتذكروا الإيجابيات، ولأنهم يخشون من مستقبل ينهشهم فيه المتربصون ولأنهم رأوا - سواءا رضينا أم لم نرض- أن عرفات إرتبط بفلسطين وبقضية فلسطين، ورغم عدم إقتناعي بشخصنة قضايا الشعب وربط مصيرها بالأفراد، لأن الأفراد إلى زوال، إلا أن الكثيرون في هذا العالم عرفوا وربطوا إسم فلسطين بعرفات وكوفيته، ولا يهم إن كان هذا صواب أو خطأ، لكنه حقيقة ناصعة لايمكن إنكارها.

في جنازته حصل عرفات ومعه كل فلسطين بإعتراف العالم أجمع، فلف بالعلم الفلسطيني، وعزف النشيد الوطني الفلسطيني بحضور ممثلين عن كل شعوب الأرض، وإن كانت هذه حسنته بعد موته فهي تكفيه، وبرهن شعبنا في جنازته برام الله أن كل ما قيل عنه هو إفتراء فلا حوادث عنف، ولا شغب، ولا مظاهر تخلف، بل إيمان راسخ بقضاء الله وقدره، وبهدوء أثار إعجاب العدو قبل الصديق، وبوفاء ندر هده الأيام.

برحيل ياسر عرفات بدأ الشعب الفلسطيني مرحلة جديدة، مرحلة مراجعة النفس، ومراجعة المواقف، مرحلة يجب أن تتميز بقيادة موحدة وجماعية تستمد شرعيتها من الشعب، وعلى قاعدة الثوابت الوطنية، وتعيد الحياة لمؤسسات الشعب، مرحلة يجب أن يدرك فيها الطامعون، ومن قفزوا على الكراسي والمناصب والذين تغاضى عنهم الجميع في السابق لأسباب كثيرة ربما كان أهمها خاطر ياسر عرفات وشأنه وموقعه في نفوس أبناء حركته، فكتائب شهداء الأقصى توعدت وهددت أكثر من مرة وأكثر من شخص لكنها أبدا لم تنفذ وعيدها إحتراما لقائدها، لتقف دون محاسبة أو معاقبة من ثبت فساده أو عمالته خاصة من بطانة السوء، الآن وبعد رحيل صمام الأمان لهؤلاء والحصن الذي كانوا يلوذون به، عليهم أن يختاروا بين العودة لجادة الصواب التي حادوا عنها طويلا، أو مواجهة الجميع، وعليهم أن يفكروا ألف مرة قبل الإقدام على أي خطوة تنازلية أو إفسادية جديدة.

إن عدم القبول بنهج أوسلو وإفرازاته لا يعفينا من المسؤلية والأمانة، ولا يجعلنا نصمت صمت القبور إزاء جريمة بدأت معالمها بالظهور، ولا يجعلنا نقر ما تعرض له عرفات في أيام مرضه الأخير من تلاعب بمصيره وتنازع على مرضه، بل على جسده بعد وفاته، في ما يبدو محاولة للتغطية على جريمة أصبحت مقتنعا بحدوثها، وهي تسميم عرفات للقضاء عليه، وهنا أضم صوتي كطبيب وكإنسان وكفلسطيني للدكتور أشرف الكردي الطبيب الخاص لعرفات، الذي طالب ويطالب بمعرفة تفاصيل مرض ياسر عرفات وأسباب وفاته، للكشف عن ملابسات تلك الجريمة النكراء والتي لا يريد حكام المقاطعة الجدد حتى الحديث عنها!

إختلفنا مع عرفات على أسلوب ونهج وممارسة، لكنه كان صانع الأحداث وبطلها الأوحد لعقود خلت، رحل الرجل وبقي الشعب وقضيته، رحم الله شهداء فلسطين الأبرار وأسكنهم فسيح جنانه، ولا يبقى إلا أن نقول: "إنا لله وإنا إليه راجعون".

د. إبراهيم حمامي

لمراسلة د. إبراهيم حمامي

12-11-2004