كلكـم جـواسيـس
بقلم : د. إبراهيم حمامي *

د. إبراهيم حمامي

بهذه العبارة إنفجر الرمز المناضل عرفات في وجه أعضاء التشريعي المجتمعين معه لمناقشة كلمته الأخيرة يوم 18/8/04 وأتبعها بسيل من الشتائم والألفاظ التي لا تصلح للنشر! تلك الكلمة التي سبق وأن وصفتها بأنها فارغة المعنى والمحتوى وإجترار لشعارات عفا عليها الزمن وأنها كانت إصرارا على الخطأ بدلا من الإعتراف به والتي لم تمض غير أيام معدودات حتى أثبتت مجريات الأمور أنها كانت كذلك دون أية نية حقيقية من جانب الرمز لإصلاح أو غيره بل ذرا للرماد في العيون.

عقلية الفاكهاني لا زالت مسيطرة على رموز أوسلو وخاصة كبيرهم الذي تحلو له دائما مخاطبة أعضاء تنظيمه أو حركته أو حكومته أو من يتبعه بالألفاظ النابية من فئة (الزنار ونازل) وبشكل مقزز أحيانا وهو ما يتقبله هؤلاء بسعة صدر ورضى وقبول! كيف لا وهو ولي نعمتهم وبيده أن يرفع فلان ويطيح بعلان وبيده الحسابات والأموال يغدقها على من يشاء ويمنعها كما يشاء وهم المستفيد الأول والأوحد إن رضي عنهم وقربهم إليه وأسوأ ما يمكن أن تصل إليه الأمور في نظرهم (علقة - أو مسبة- تفوت ولا حد يموت).

هذه العقلية التي توحي لصاحبها أنه سيد مطلق ومن حوله عبيد يسبحون بحمده ولا يحق لهم إلا قول "آمين" لم تعد تطاق أو تحتمل في ظل ما وصلت إليه الأمور من وضع مأساوي نذبح فيه على رؤوس الأشهاد ونتهم بأننا المعتدون ببركات أوسلو العتيدة.

رفض رمز النضال ورافع لواء الإصلاح (مع الإعتذار من المصلح الآخر دحلان!) إصدار المراسيم أو القرارات المطلوبة لتطبيق ما وعد به وبعد أخذ ورد وشد وجذب ومناورات بطولية ومقاومة أسطورية قبل الرمز إعطاء "رسالة ضمانات رئاسية" بدلا من المراسيم والقرارات على أن يتم الإتفاق النهائي عليها يوم الإثنين 23/8/04

ما جرى في الإجتماع المذكور يوم الأحد 22/8/04 له دلالات وإشارات هامة منها :

  • فقدان عرفات القدرة على السيطرة على نفسه وشعوره بالتوتر الشديد والتشنج والذي لا يتناسب مع ما يدعيه أتباعه من رمزية ورصانة وحكمة.

  • الإحساس بالخطر الذي يصل لدرجة "الوسواس العصبي القهري "Obsessional Neurosis" و"التهيؤات" "Delusions" بأن الجميع ضده ويتآمر عليه فـ "كلهم جواسيس" وهي حالة معروفة طبيا.

  • مقاومة عرفات اللامحدودة للتنازل عن صلاحياته أو تحديدها أو حتى الحديث عنها وهي أيضا حالة دفاعية لا إرادية تندرج ضمن Defence Mechanisms وتحديدا ما يسمى "الإنكار" أو Denial .

  • إذا أضفنا لذلك حالة النسيان الشديدة والواضحة التي يعاني منها عرفات والتي تتطلب التدخل الدائم للملقن الرسمي لسيادة الرئيس نبيل أبو ردينة نجد أن الأمر يتعدى كونه حالة مزاجية عصبية عارضة إلى حالة مرضية مزمنة يجب التوقف عندها.

  • أعضاء التشريعي ممن حضر اللقاء المذكور كان يفترض بهم الوقوف في وجه هذا الأسلوب الأرعن في التعامل وفي وجه عقلية الفاكهاني وعقلية الزعيم الأوحد الذي لا يخطيء ولا يشق له غبار ولكن يبدو أن جلودهم أصبحت من النوع السميك الذي يحتمل حتى عرفات.

  • قبول أعضاء التشريعي برسالة ضمانات رئاسية بدلا من المراسيم التي طالبوا بها يعتبر قبولا بمبدأ التحايل والضحك على الذقون الذي يتحملون مسؤلية نتائجه كاملة.

  • من المفترض وصاية السلطة التشريعية على السلطة التنفيذية ولكن ما حدث هو عكس ذلك مما يدعو للتساؤل عن دور المجلس التشريعي أساسا.

  • أثبتت الأحداث أن الهيكلية السياسية الفلسطينية مصابة بالعجز الكامل والشلل التام حيث لاتتحرك الأمور إلا بموافقة الرمز وبما يرتضيه حتى وإن كان فتات وبالتالي فإن وجود المؤسسات وممارستها لواجباتها مرهون بإرادة شخص واحد.

  • العقبة الرئيسية أمام الإصلاح المزعوم هو العقلية المتحكمة والمتنفذة في سلطة أوسلو والتي يجسدها عرفات كما أشار وأجمع المحللين والمطلعين على خفايا الأمور.

  • يتبجح البعض بأنه يجب تحمل مثل هذه الممارسات لأن الرمز منتخب ويتمتع بشرعية ثورية تسمح له بذلك وهو ما يذكرني بالمثل القائل "عذر أقبح من ذنب" - طبعا إذا إعتبرنا أن موضوع الشرعية صحيح وهو غير ذلك.

  • السياسة في كواليس سلطة أوسلو لا إحترام فيها ولا أخلاق ولا مواقف مبدأية وتتبدل حسب المصالح والأهواء فدحلان مثلا الذي لبس ثوب التقى والورع وهاجم عرفات ونعته بأسوأ النعوت وهدده وإنقلب عليه عاد ولحس كلامه ليعلن أنه سيلتقي بسيده في رام الله وربما إستوزر بمباركته فكلام الليل يمحوه النهار. كذلك الأمر بالنسبة لأبو مازن الذي إستقال إحتجاجا على تلقيبه ب"كرزاي فلسطين" ليعود إلى أحضان الرمز ويتبرك به !

  • لا حل في المستقبل المنظور ولا أمل في هكذا سلطة !

  • لست بحال من الأحوال في حالة تهجم أو إتهام ضد شخص بصفته الفردية بل هي حقائق عن من يتمتع بصفة إعتبارية ويدعي الرمزية والشرعية الثورية وغيرها. عرفات لو تنحى وقبع في منزله وأصبح مواطن كغيره لما تحدث عنه أحد ولكن أن يكون على قمة هرم أوسلو ويتفوه بمثل ما يتفوه به ويتصرف بشكل مرضي محرج فهذا أمر مختلف. التقدم في العمر ليس عيبا والمرض ليس عارا ولكن العيب والعار هو ما يجري ونسمعه ونراه ونتابعه كل يوم من مهازل مضحكة مبكية.

    كان من واجب الأعضاء المجتمعين مع عرفات الوقوف بحزم في وجه هذه الإهانات أو على أقل تقدير الإنسحاب. إعتراف عرفات بالأخطاء رغم تبريره لها ورفضه التراجع عن مواقفه السابقة والعقلية المتحجرة في التعامل وحالته النفسية المتدهورة كلها أمور تستدعي من المجلس التشريعي إن كان حقا يعتبر نفسه السلطة التشريعية المنتخبة لتمثل الشعب، عليه ممارسة حقوقه التي نص عليها دستور عرفات نفسه وعزله من منصبه في حال رفضه الإنصياع التام لمطالب التشريعي. لا حصانة لأحد عندما يتعلق الأمر بمصير شعب.

    المطالبة بتنحي أو عزل عرفات لاتعني القبول بمنطق المتمنطق دحلان الذي يحاول التسلق والتملق للوصول لأهدافه وأهداف من دفعوا له ودربوه وعلموه. شهاب الدين أضرب من أخيه ولا مفاضلة بينهما فهذا التلميذ من ذاك المعلم.

    كلما حاولت إقناع نفسي أن الأمور ربما تتحسن يوما ما في وجود سلطة أوسلو أكتشف إستحالة ذلك وكلما حاولت التغاضي عن ممارساتهم والتركيز على ما هو أهم أجد نفسي أمام فضيحة أو كارثة أو جريمة جديدة تستدعي الوقوف عندها.

    هذا هو المستوى الذي وصلت إليه السلطة الميمونة التي يفترض أنها تمثل الشعب وتعكس أخلاقه وعاداته وتدافع عن حقوقه! وهذا هو مستوى رئيسها الذي أصبح غير مؤهل لقيادة حتى سيارة !

    ترى ما هو رد ودفاع من يتصدر دائما لهذه المهمة النضالية دفاعا عن الرمز الذي لا يخطيء أبدا؟ وترى ما هو جديدهم القادم ؟

    د. إبراهيم حمامي
    طبيب وناشط فلسطيني

    لمراسلة د. إبراهيم حمامي

    تاريخ النشر : 22:01 23.08.04