جرّافات وأولويات
بقلم : د.إبراهيم حمامي

د. إبراهيم حمامي

جرّافات تهدم وتحيل "منشآت" تعدت على "أراض حكومية" إلى ركام متروك للعدسات كي تلتقط الصور له وللضباط الذين تقاطروا وتسابقوا كي يهددوا ويتوعدوا كل متطاول على القانون وسيادته وشرعيته ووحدانيته.

خطوة جيدة تستحق الإطراء، ولا يمكن إلا أن تصنف على أنها خطوة في الإتجاه الصحيح لوقف التجاوزات والممارسات خاصة من قبل من كان يفترض أنهم حماة تلك الأملاك من المتطفلين وواضعي اليد بدلاً من أن يكونوا ممن ينطبق عليهم مثل "حاميها حراميها"، إلا أن البهرجة التي صاحبت تلك الخطوة رغم محدوديتها، تجاوزت المطلوب منها، فالتضخيم الإعلامي المتعمد، ومنظر الجرافات المؤذي في وقت لم ينسى فيه بعد المواطن الفلسطيني منظر جرافات الإحتلال وهي تحيل منازل المواطنين وممتلكاتهم إلى ركام، في تناغم بين "السلطة" والإحتلال شمل كل شيء من إستخدام الجرافات إلى حماية المستوطنات مرورا بتحميل شعبنا مآسي المنطقة برمتها، وكذلك المعلقات التي كتبت في مديح الخطوة ومن أمر بها ونفذها، يضع علامات إستفهام حول جدية تلك الخطوة والهدف منها.

ليس القصد كما يحلو للبعض دائما تصويره أنه إعتراض لمجرد الإعتراض، أو تهجم على كل فعل أو إجراء تتخذه "السلطة" حتى الخطوات الصحيحة منها، فوقف التعديات والتجاوزات والممارسات الإجرامية التي أصبحت جميعها صفة وسمة لسلطة أوسلو هو أمر مُرحب به وحميد ويستحق التقدير، لكن ماضي هذه السلطة وتجربة الشعب المريرة معها أفقدتنا كل ثقة بها وبأزلامها الذين لم يتغير منهم أحد.

خطوة تستحق الثناء فقط إن كان القصد منها والنية من ورائها إنهاء كل أشكال الفساد والإفساد وبشكل عملي وحقيقي وليست إستعراضا تلفزيونياً للعضلات، وفقط إن شملت الجميع بدون إستثناء خاصة من تستوزرهم "السلطة" من أصحاب صفقات الأسمنت والباطون والتهريب والعمولات وإستغلال المناصب وغيرها من الجرائم.

خطوة سيعتبرها الجميع جدية لو استُكملت بفتح ملفات الفساد التي يعلوها الغبار في أدراج التشريعي ومكتب "الرئيس"، وستكون ذات مصداقية عندما تطال "الكبار" من مسؤولي "السلطة"، والذين لم يكتفوا بالتعدي على أراض حكومية بل تعدوا على شعب بأكمله، هؤلاء "الكبار" من أصحاب القصور والفنادق والكازينوهات والحسابات الممتلئة من قوت الشعب وعرقه ودمه، والذين يعرفهم الجميع.

خطوة ليست على سلم الأولويات، فالشعب بكل فئاته لن يتأثر بإزالة مقاهي وأكشاك من على شاطيء بحر غزة، لكنه بالتأكيد يهمه معرفة مصير الملايين بل المليارات التي اختفت ورحلت ودفن سرها مع صاحبها، ولا تحرك سلطة أوسلو ساكناَ لمعرفة مصيرها.

أولويات المواطن البسيط ليست الإستئساد على أكشاك من خشب وصفيح لهدمها، بل في وقف هدم منازله التي لازال 3000 منها في رفح في إنتظار قرار محكمة الإحتلال العليا للنظر في إلتماس مقدم من مؤسسات "المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان"، "عدالة"، و"الحق"، يوم 10/01/2005 لوقف الهدم لغرض إنشاء قناة مائية على الحدود مع مصر، فهل فعلت سلطة عباس شيء لوقف الهدم؟ أم أن الشراكة في عملية "السلام" تعني هذه المرة مشاركة الجرافات الفلسطينية لشريكاتها الإحتلالية في عمليات "المحافظة على القانون"؟

الأولويات تفرض علينا وقف الإجتياحات والإغتيالات وكل ممارسات العدوان بدلاً من نشر قوات لحماية هذا الإحتلال شبيهة بقوات لحد، وللتذكير إن كانت سلطة أوسلو لا تعلم فقد تم اليوم تحديداً إجتياح السيلة الحارثية وجبع في جنين ،وبلدة صيدا في محافظة طولكرم، وبلدة قراوة بني زيد في محافظة رام الله، و قرى حوسان ومخيم العزة وعدد من منازل مدينة الخليل، ومناطق أخرى، وأعتقل جنود الإحتلال العشرات وسقط الشهداء في الضفة والقطاع.

الأولويات هي لحماية المواطن الفلسطيني بدلاً من حماية المستوطنين الذين اعتدى 100 منهم اليوم على "الشرطة" الفلسطينية قرب مستوطنة "نافيه دكاليم" فحطموا سياراتهم وأفرغوا إطاراتها من الهواء فما كان من عناصر الشرطة الفلسطينية الأشاوس إلا أن هربوا من المكان تاركين سياراتهم وراءهم.

الأولويات تقتضي توفير مساكن للمواطنين المهددين بالترحيل في غور الأردن بعد طلب الإحتلال منهم مغادرتها لبناء الجدار العنصري الفاصل الذي لا نسمع له ذكر في تصريحات أشاوس أوسلو، لا أن نمارس هدم من نوع آخر لإثبات أن هناك سلطة ذات سيادة رغم أنها فاقدة لتلك السيادة.

الأولويات ليست لهدم الأكواخ ولا للتنسيق الأمني الذي يقوده عريقات ودحلان والذي بدأ اليوم في القدس المحتلة تحديداً وكأنه إعترف ضمني بسيادة الإحتلال عليها، بل في إنهاء إفرازات أوسلو المشؤومة بدلا من التمسك بها وإعادة إحيائها حتى ولو أدى الأمر لمواجهة شعب بأكمله.

رغم كل ما سبق أكرر أن الخطوة في حد ذاتها مُرحب بها، لكن دون أن تتبعها خطوات أخرى حقيقية وصادقة تركز على "الكبار" من مصاصي دماء الشعب، وعبر سلم اولويات واضح، تبقى من باب الإستعراض الذي عهدناه وكمن "يتشطر على البردعة"!

تاريخ سلطة أوسلو وأزلامها لا يبشر بخير، ولا يدعو للتفاؤل أو الأمل، لكن قد تكون هذه المرة الشذوذ عن قاعدة الفساد والإفساد السلطوي!

د. إبراهيم حمامي

DrHamami@Hotmail.com

26-01-2005