كتائب شهداء الأقصى ... نظرة على الواقع وقراءة للمستقبل
بقلم : د. إبراهيم حمامي *
ترددت كثيرا قبل الخوض في موضوع كتائب شهداء الأقصى لحساسيته خاصة لدى أبناء حركة فتح كبرى الفصائل الفلسطينية والتي تعتبر الكتائب ذراعها العسكري، وكذلك بسبب الغموض والحيرة التي تلف كتائب الأقصى من حيث الإعداد والقيادة والإتصال والتجهيز والولاء، إلا أن بيانها الأخير الصادر عنها ، أو عن أحد أجنحتها ، والذي يتهدد بالثبور وعظائم الأمور كل من يتعرض للرموز الوطنية إستوقفني وأزال بعض -ولا أقول كل - التردد الذي لازمني ولفترة طويلة حيال هذا الموضوع تحديدا.
لقد تابعت بإهتمام شديد وإعجاب ظهور كتائب شهداء الأقصى من رحم الإنتفاضة المباركة ومن قلب حركة فتح ورصدت تطوراتها وعملياتها وبياناتها في محاولة صادقة لفهم دورها وتوجهاتها في خضم هذه المرحلة. لم يكن الأمر باليسير ولا بالوضوح الذي توقعته فتذبذب أداء كتائب الأقصى فتارة أراها يد عرفات الضاربة وتارة ضحيته وأخرى تظهر الكتائب وكأنها مستقلة تماما بقراراتها عن قيادة أوسلو وثالثة تصبح المتحدث نيابة عنها، وبين هذا وذاك بيانات متضاربة ومتناقضة تصدر عن أكثر من جهة لتنفيها جهة مضادة والكل بإسم كتائب شهداء الأقصى!
مما لاشك فيه أن كتائب شهداء الأقصى - بغض النظر عن حيثيات ظهورها- كانت الوجه المشرق الذي أضاء حركة فتح التي تحولت إلى حزب حاكم بكل المقاييس بعيدا عن نبض الشعب الفلسطيني، وكانت كتائب شهداء الأقصى إكسير الحياة وطوق النجاة الذي عادت معه حركة فتح إلى ساحات المقاومة بعدما أصابها الصدأ وغيبت قسرا في ظل إنعدام أي تجديد أو إصلاح حقيقي لأكثر من 16 عاما، فأصبحت الكتائب وفي فترة وجيزة جناح عسكري يحسب له ألف حساب وقامت بعمليات نوعية ومميزة لتحتل وعن جدارة موقعا متقدما بين فصائل المقاومة لتشارك بعدها مع إخوانها في الفصائل الأخرى في قيادة الإنتفاضة والتصدي لمحاولات وأدها. إلا أن مسيرة كتائب شهداء الأقصى شابها الكثير من الغموض على صعيد القيادة وفي ما يتعلق بممارساتها داخل المجتمع الفلسطيني وحقيقة ولائها وعلاقتها بقيادة أوسلو في رام الله ودور هذه القيادة في توجيهها والتأثير على قراراتها.
طوال السنوات الأربع الماضية كان لكتائب شهداء الأقصى وضعية مميزة وخاصة على الساحة الفلسطينية يشبه إلى حد كبير وضع الطفل المدلل المغفورة خطاياه والمسموح له ما لايسمح لغيره، فبينما كانت الفصائل الأخرى تتعرض للضرب بيد من حديد خاصة أجنحتها العسكرية كانت كتائب شهداء الأقصى تستثنى إما مباشرة أو بالتغاضي عما تقوم به حتى وإن كانت الممارسات ضد "سلطة أوسلو" نفسها وهي ممارسات لو قام بعشر عشرها فصيل أو تنظيم آخر لقامت الدنيا بحجة تحدي وحدانية السلطة وفوضى السلاح وخرق سيادة القانون وغيرها.
حتى أوروبيا عوملت فتح وكتائب الأقصى بشكل مغاير عن باقي التنظيمات فأدرجت حركتي حماس والجهاد على قائمة الإرهاب بسبب عمليات الأجنحة العسكرية التابعة لها بينما أدرجت كتائب شهداء الأقصى دونا عن فتح لأن فتح هي حزب "الرئيس" الحاكم والمرضي عنه!
قبل أن أدلل على ما أقول ببعض الأحداث والوقائع الموثقة يجب أن أوضح أنني لست بالضرورة ضد المبدأ العام او المطالب المشروعة لتلك المطالب بل أزيد بشكل لا لبس فيه أنني أؤيد دون تحفظ غالبية تلك المطالب، لكن الإعتراض هو على الأسلوب والطريقة والمعاملة التفضيلية والخاصة لدى سلطة أوسلو وعلى تنصيب كتائب شهداء الأقصى نفسها وصيا على الشعب، وهذا ما سأتناوله بالتفصيل :
القتل العلني :
قامت كتائب شهداء الأقصى بعدة عمليات إعدام لمتعاونين وعملاء في ساحات عامة في محاكمات ميدانية سريعة تفتقر لأية مقومات قانونية - حتى وإن كانت التهمة هي العمالة والخيانة فلابد من إستيفاء شروط معينة حتى لا نقع في المحظور- وهذا ليس بأي حال دفاعا عن العملاء والخونة أو تبريرا لفعلتهم النكراء ولكن حتى نتفادى تحكيم شرع الغاب فيستغل ذلك من قبل من في قلبه مرض، ومن الأمثلة إعدام أحد المشبوهين بالعمالة يوم 18/5/2003 في أحد ميادين نابلس وتكرار ذلك هذا العام في بيت ريما يوم 25/4/2004 وقباطية يوم 02/7/2004.
هنا تجدر الإشارة أن "سلطة أوسلو" لم تحرك ساكنا ضد هذه الممارسات أو تهدد -كما إعتادت أن تفعل ضد الفصائل الأخرى- من يقومون بها ولكن بالتأكيد كان الأمر سيختلف لو كان الفاعل غير ذراع فتح.
لم تتورع الكتائب عن الإعتداء حتى على مراكز "السلطة" ذاتها فهاجمت قاعة المحكمة في جنين يوم 05/2/2002 وقتلت ثلاثة ممن صدرت ضدهم أحكام بالإعدام، كذلك قتلت ثلاثة آخرين بعد أن أخرجتهم بالقوة من سجن نابلس يوم 05/4/2002 دون إعتراض من رموز أوسلو أو تنديد بالتعدي على سيادة وسلطة قانون أوسلو.
تلك الأحداث لم تكن خالية من الأخطاء- وهنا بيت الإعتراض والقصيد- فقد إعتذرت الكتائب أكثر من مرة عندما إكتشفت أن بعض من قتلتهم لم يكونوا عملاء كما حدث في شهر نيسان/أبريل من هذا العام بعد إغتيال شيخي حماس.
التهديدات العلنية :
وهذه تشمل رموزا في السلطة، من هم ضد السلطة وحتى من هم خارج فلسطين! والأمثلة كثيرة كان آخرها تهديد الفاسد إسماعيل جبر مسؤول ما يسمى بالأمن الوطني بمغادرة جنين بعد وصوله إليها على رأس وفد أمني للتفاوض مع كتائب شهداء الأقصى يوم 26/6/2004 وكذلك تهديد تيري لارسن وكل من يقابله أو يلتقي معه.
التهديدات إمتدت لتشمل وتثير طائفة بأكملها وهي طائفة الدروز في فلسطين حيث هددت الكتائب "بقتل وإستهداف العسكريين الدروز في جيش الإحتلال" في بيانها يوم 15/9/2003.
التهديدات إقترنت بالفعل أحيانا بشكل عنتري ومنها إختطاف وضرب محافظ جنين حيدر ارشيد على الملأ وفي ميدان عام يوم 19/7/2003 ولم يشفع له إلا تدخل عرفات الذي تحدث مع المختطفين بكل حنان وود رغم أنه من عين ارشيد في منصبه! ترى ما هو مصير أيا كان لو كان من غير كتائب الأقصى؟
العمليات العسكرية :
وهي بدون شك عمليات نوعية ومميزة وهذا ما لا يختلف عليه أحد ولكن المشكلة أن الكثير من هذه العمليات تمت بعد إعلانات الهدنة العرفاتية وكانت سببا في خرقها لتنصب اللعنات بعدها على الآخرين في الفصائل الأخرى وأيضا هناك مشكلة تبني كل عملية مهما كانت حتى وإن كانت حادث سير مروري وهي ظاهرة تنامت مؤخرا وسببت حساسيات بين الفصائل مذكرة بممارسات فتح في السبعينيات من القرن الماضي في لبنان لدرجة أن أحد النكات المتداولة بين الناس تقول أن كتائب شهداء الأقصى أعلنت مسؤليتها عن الهزة الأرضية التي وقعت في فلسطين مؤخرا!
محاربة الفساد :
مرة أخرى ليس إعتراضا على المبدأ. لن أستفيض في الحديث عن الأحداث الأخيرة التي عصفت بقطاع غزة وإمتدت إلى الضفة في هبة من أبناء فتح على قيادات فتح والتي نصبت كتائب شهداء الأقصى فيها نفسها قاضيا وجلادا وحاكما وحكوما ومفاوض ومن يتفاوض معه وأخذت القانون بيدها لتختطف وتقتحم وتحتجز وتحرق وتهاجم لتصدر بعدها بيانات الإتهام والتهديد يمنة ويسرة ضد فلان وعلاّن ، -ولا أختلف أنهم جميعا فاسدون دون إستثناء من عرفات إلى إبن عمه وغيرهم- ، حتى المجلس التشريعي الذي تغاضى عنهم ووقف متفرجا على ما يجري وصفه البيان الأخير بأنه "ظاهرة صوتية لاوزن ولا قيمة له وأن أعضاء المجلس إنغمسوا في شهوة الركوض لتوظيف الأقارب- 22/7/2004".
كل ذلك ولم نسمع حرفا ولو همسا من أزلام أوسلو يعترض أو لايوافق ولا أقول يندد ويشجب، بل سارع أكثرهم إلى تشريع ما يحدث وتأييده لأنه داخل البيت الفتحاوي ولم يبق فاسد إلا وأدان الفساد لتتواصل إحتجاجات الكتائب ضد تعيينات المجايدة وموسى عرفات وغيرهم وكأنهم لم يكونوا رؤساء لأجهزة أمنية لعشر سنوات عجاف وكأنهم عيّنوا حديثا! لماذا الآن ولماذا بهذا الشكل الفوضوي العبثي الذي طال الأجانب من المتعاطفين معنا وأظهرنا وكأننا غير قادرين على إدارة أمورنا إذا إنسحب الإحتلال ومؤكدا ما جاء في تقرير لارسن المنحاز ؟ ولماذ؟ ولماذا؟ أسئلة يصعب فهمها أو الإجابة عليها.
الدفاع المستمر عن عرفات وإعفاؤه من المسؤولية :
لم يخلو بيان واحد من بيانات كتائب شهداء الأقصى إلا وأكد على رمزية عرفات وحكمته وقيادته البارعة وتاريخه النضالي ومتوعدا كل من تسول له نفسه الحديث عنه رغم محاولات الأخير المتواصلة للقضاء على كتائب شهداء الأقصى بشتى الطرق والوسائل من قطع للمعونات المالية إلى الإغراءات بشراء أسلحتهم (عرض هاني المصري كوزير للداخلية) إلى محاولة دمج الكتائب في الأجهزة الأمنية/القمعية (وهو ما رفضته الكتائب في بيانها يوم 12/6/2004) إلى الإيعاز للمسؤولين بمهاجمة كتائب شهداء الأقصى وتشويهها كعماد شقور مستشار عرفات لشؤون الإحتلال في لقائه مع صحيفة كل العرب يوم 20/3/2004 عندما إعتبر أن كتائب الأقصى خربت العمل الوطني ويجب حلها وهو ما ذهب إليه بشكل أو بآخر هاني الحسن وعزام الأحمد وموسى عرفات وغيرهم مجمعين أنه لاوجود أصلا لتنظيم إسمه كتائب شهداء الأقصى بل مجموعات صغيرة متناثرة هنا وهناك!
محاربة كتائب شهداء الأقصى أيضا كانت عملية حيث قام عرفات يوم 21/4/2004 بطرد 21 من قادة ومسؤولي الكتائب المطلوبين للإحتلال ليتصيدهم الإحتلال واحدا واحد وهو ما وصفه أحد القادة -علي البرغوثي- بأنه جريمة.
رغم ذلك تتمسك كتائب شهداء الأقصى بعرفات وتعفيه من كل مسؤولية وتطالبه بالتصدي للفساد الذي كان السبب الرئيسي فيه في معادلة غريبة من نوعها فتقول "نطالب رمز نضالنا محاسبة المسؤولين الفاسدين -22/7/2004" و "سنقاتل كل من يتعرض للرموز الوطنية -25/7/2004" فيا ترى ما هو تعريف الرموز الوطنية ومن تكون هذه الرموز وهل هي معصومة عن الخطأ والمحاسبة؟ لماذا تقف كتائب شهداء الأقصى مثل هذا الموقف رغم مواجهتها للفساد والمفسدين؟ وكيف يمكن محاربة هذا الفساد بينما تعفو الكتائب عن سببه الرئيسي؟
كل هذه التساؤلات وغيرها لاتنفي أن كتائب شهداء الأقصى هي ظاهرة صحية داخل حركة فتح وهي الضوء الذي أضاء ظلمة الفساد داخل الحركة وعلامة فارقة في تاريخ النضال الفلسطيني وأنها أفرزت قادة عظام أمثال ناصر عويص ود.ثابت ثابت وعاطف عبيات ورائد الكرمي ونايف أبوشرخ (الذي هدد بالإنشقاق عن فتح يوم 11/6/2004 قبل إستشهاده يوم 26/6/2004) وغيرهم من القادة الأبطال، كذلك أصدرت كتائب شهداء الأقصى برنامج العمل للمرحلة المقبلة ونشرته يوم 22/7/2004 وأصبحت من دعامات المقاومة ورقم صعب في معادلتها والأهم أنها جسدت الوحدة الوطنية كحقيقة واقعية على الأرض فدافعت عن الشيخ ياسين ضد قرار الإقامة الجبرية التعسفي وخرجت في حراسته وإمتزج دم شهداء الأقصى برفاقهم من أبناء الأجنحة الأخرى والتي كانت آخرها عملية الإغتيال الجبانة في مدينة نابلس يوم 27/6/2004 لمجموع من قيادات شهداء الأقصى وكتائب القسام وسرايا القدس....ولكن
على كتائب شهداء الأقصى أن تحدد هوية قيادتها وأهدافها بشكل أكثر وضوحا يتفادى التناقضات القائمة من تصريح أبو محمد الذي ينفيه أبو محمود فيعود أبو قصي ليؤكده! كذلك عليها إذا أرادت أن تكون قائدا ورائدا في محاربة الفساد أن لا تستثني أحدا لا عرفات ولا غيره وأن تبتعد عن ممارسات الفوضى والعنتريات وشريعة الغاب وأن تتعامل بأسلوب حضاري وراقي بعيدا عن الإعتماد على الإمتيازات التي منحتهم إياها قيادة أوسلو والتي تكبلهم وتكبل قرارهم حتى لايصبحوا أداة في يد أيا كان يحركها وقت ومتى شاء لتحقيق أهداف ومآرب شخصية.
كلي أمل أنه لن يصح في النهاية إلا الصحيح وستبقى كتائب شهداء الأقصى تخرّج أجيال القادة الشرفاء ليكملوا ما بدأه نايف أبو شرخ وزملاؤه في محاولته الإستقلال بقرار الكتائب وتنقيتها والنأي بها عن العفن والفساد الأوسلوي.
* د. إبراهيم حمامي : طبيب وناشط فلسطيني
DrHamami@Hotmail.com
تاريخ النشر : 21:27 26.07.04
