الإعلام الملهم و برنامج عباس المبهم
بقلم : د.إبراهيم حمامي

د. إبراهيم حمامي

إنطلقت يوم أمس الحملة الدعائية الرسمية لمرشحي منصب "رئيس" سلطة أوسلو، وانطلقت معها الحملات الإعلامية الموجهة في تناغم وتناسق واضحين لدعم المرشح الأوحد وحركته، وأُغفلت بعمد أو بدونه مواضيع أخرى هامة وحساسة، لتكون المحصلة تلاعب مسبق، وتوجيه مقصود للوصول لهدف المرشح الأوحد المنشود.

بداية اليوم الحافل كانت مع الإنطلاقة الرسمية للحملة الدعائية والتي كان المرشح الأوحد لحركة فتح "محمود رضا عباس عباس" أول المنطلقين فيها إعلاميا (وربما آخرهم) بمؤتمر صحفي من نوعية (أضرب إطرح) تغنى فيه بالثوابت والمباديء، واعدا بمستقبل زاهر باهر، يكاد المستمع له وللوهلة الأولى أن يصفق إعجابا وتأييدا لما ورد في ظاهره، وهو ما كان يقوم به فريق الهتّيفة والصفيقة المصاحب للمؤتمر على أكمل وجه، لدرجة أن أحد الأصدقاء اتصل بي ليقول الآن لا مجال لانتقاد الرجل فقد "كفى ووفى"، ولا أنكر أن عباس أجاد فنون اللغة والتشبيه والتركيز الصوتي على الحروف صعودا وهبوطا والتفاعل مع الكلمات، والأهم أنه أجاد وبرع في طرح وعود مبهمة مغلفة ومعادلات لا يمكن التوفيق بينها.

ما طرحه عباس وببساطة شديدة هو وعود هوائية فارغة، ودعاية إنتخابية على قدر كبير من الدهاء، وكلمات تحتمل التفسير في إتجاهين متضادين، وخطاب موجه للناخب الفلسطيني لإستمالته بأي ثمن، وزاد يتزود به المروجون له كمرشح أوحد متمسك بالثوابت، لكن هل فعلا تمسك عباس بالثوابت؟ لنقرأ ما قاله بتمعن دون زيادة أو نقصان:

  • يعلن عباس على الملأ أن خيار التفاوض والسلام خيار أجمعنا عليه ولا رجعة عنه، ويقر بحق مقاومة الإحتلال وهو مع الإنتفاضة لكن ضد عسكرتها، داعيا لتوفير الأمن للمواطنين قائلا: "نريد ان يشعر الناس بالامان في منازلهم وعندما يتنقلون من مكان الى آخر"، وأضاف "لكننا نعلم ان المحتل لا يريد الامن لشعبنا ويبحث دائما على الذرائع لحرمانه منه"، وهي معادلة تعني ببساطة أن نعد وندفن شهداءنا ونقبل بالإجتياحات اليومية وعمليات التصفية الإجرامية وليبقى لأمهاتنا وأخواتنا وبناتنا وزوجاتنا الإنتحاب ويبقى لعباس الإنتخاب، وأقتبس فقرة للكاتب عبد الرحمن فرحانة حول ذات الموضوع قال فيها: "سريالية أبو مازن يعجز عن تفكيك شفرتها كلّ فقهاء السياسية ، فهو يدعو لاستخلاص الحقوق الفلسطينية على طاولة المفاوضات ، كما أنه يرفض عسكرة الانتفاضة دون التخلّي عن خيار الكفاح المسلح . فهل هناك منطقٌ إنسانيّ يمكن أن يستوعب هاتين المفردتين في معادلةٍ سياسية مفهومة ، مفاوضات بلا قوة ، و انتفاضة بلا عسكرة مع الاحتفاظ بالخيار المسلح؟!".

  • يقول عباس في بيانه أنه لن يرفع السلاح في وجه أي فلسطيني وسيرفض ضرب الآخرين، "ولكن في مقابل ذلك لن تكون هناك سوى سلطة واحدة وقانون واحد " بمعنى الإعتراف بشرعيته وشرعية الإتفاقيات التي جاءت به كشرط مسبق لتنفيذ وعده بعدم التعرض للآخرين و"احتضانهم"، وهو شرط يمهد لأية مواجهة قادمة لتكون على قاعدة معاداة الشرعية المتمثلة في سلطته وليس الخلاف في الرأي والفكر وهو ما يقبل به!، وتجدر الإشارة هنا لتصريحه الأخير لصحيفة المصور المصرية أوائل هذا الشهر والذي قال فيه: "نحن لن ننفذ قرار جمع السلاح بين يوم وليلة وانما سيتم الأمر تدريجيا، وكلما تقدم مشروعنا السياسي ووثق الناس في تحقق التسوية العادلة سهل علينا جمع السلاح وتقنين حمله".

  • تحدث عباس وبإسهاب عن الدولة الفلسطينية وحدودها والتزامه بحدود عام67 قائلاً "يجب ان تكون الدولة الفلسطينية متواصلة وقابلة للحياة" وهو تبني الدولة بالمفهوم الغربي، ويتناقض مع الإنسحاب الكامل، متمسكا بالقدس كعاصمة لها، لكنه وعند تطرقه لمفاوضات كامب ديفيد الثانية في صيف عام 2000 تناول موضوع المسجد الأقصى فقط والسيادة عليه، وهو الذي يطرح موضوع القدس في برنامجه الإنتخابي كقضية إنسانية وقضية مقدسات لا قضية سيادة بالشكل التالي: "سابعاً- الدفاع عن القدس عاصمة دولتنا الفلسطينية:سنعطي الأولوية لدعم صمود جماهير شعبنا الراسخة في القدس والتي تتعرض لأبشع عمليات الاستيطان وبناء الجدار والحصار وهدم المنازل والإفقار وحملات الضرائب والتهجير من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي.وسنركز في ذلك على المشاريع التنموية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والصحية والإسكانية في المدينة المقدسة، وسنحشد الدعم لذلك من الدول والمؤسسات واللجان والصناديق العربية والإسلامية وكذلك الدول الصديقة.إن إصرارنا على مشاركة أبناء شعبنا الصامدين في القدس في الانتخابات هو تأكيد لتمسكنا الصارم بعروبة القدس عاصمة دولتنا الفلسطينية.وستتواصل جهودنا في الدفاع عن مقدساتنا الإسلامية والمسيحية وحمايتها من أية انتهاكات وتهديدات تتعرض لها."

    ثم عرّج على قضية اللاجئين وقص الروايات عن أعدادهم وحتمية عودتهم، لكن وبدهاء شديد لم يشر إلى أين ستكون عودتهم، إلى ديارهم الأصلية أم إلى الدولة الفلسطينية القادمة، وهنا علينا أن نتذكر تصريحه الأخير لصحيفة المصور أيضا: "انني لا اريد ان اغير ديموغرافيا الدولة “الاسرائيلية” ولكننا نطلب التوصل الى "حل" لمشكلة اللاجئين، علما أن برنامجه الإنتخابي الرسمي لم يتطرق لقضية اللاجئين بشكل منفصل بل ذكرها في النقطة الأولى كأحد الثوابت الوطنية ودون تفاصيل ودون التطرق لحق العودة لا لفظا ولا تطبيقاً: "وتحقيق حل عادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين، وفق القرار 194 وعلى أساس قرارات قمة بيروت عام 2002."

  • أما قضية الأسرى والإستيطان والعلاقات مع الدول العربية وغيرها من المواضيع الأخرى فقد اتفقت رؤيته فيها مع رؤية باقي المرشحين الذين لم يسمعونا صوتهم بعد، سواء برضى منهم أو رغما عنهم، متفاديا الحديث عن المعتقلين في سجون سلطة أوسلو، رابطاً الإستيطان بالجدار، والعلاقات بالإعتذارات!.

  • ما يدل على التلاعب المقصود في كلمات عباس هو عدم صدور أي تعقيب من سلطات الإحتلال، وهي التي كانت تقف بالمرصاد لكل كلمة يتفوه بها مسؤول في "السلطة" تمس القدس أو الإستيطان أو حق العودة، والترحيب الحار من قبل الغرب عموما والولايات المتحدة خصوصا لواقعية عباس وبرنامجه، والذي لا أرى فيه أي إختلاف مع ما كان يطرحه عرفات، فلماذا رُفض عرفات وقُبل عباس؟ ولماذا تسمح سلطات الإحتلال لعباس بالعبور لبيت لحم لحضور قداس عيد الميلاد في بيت لحم وهي التي منعت عرفات من ذلك لسنوات؟ وكيف يقبل العالم اليوم ما رفضه بالأمس ليقول عباس جهارا نهارا أنه على خطى الرمز ولتملأ الملصقات الحاملة لصورته مع عرفات الشوارع ولتكون الصفحة الرئيسية على موقعه الجديد؟ ولماذا يُسهّل الإحتلال خطوات عباس الإنتخابية ويمنعها عن غيره إن كان متمسكا بكل تلك الثوابت؟

    أسئلة كثيرة والإجابة واحدة وهنا بيت القصيد، المرشح الأوحد يجيد التورية والإبهام، ويتقن العزف على أوتار العبارات الفضفاضة ذات المغزيين، فيكسب بذلك رضا الناخب دون أن يغضب الطرف الآخر، وليجد التبرير المناسب حسب الزمان والمكان.

    لنعود ليومنا الحافل وأحداثه، حيث كان من المفترض إعلان النتائج الرسمية للإنتخابات المحلية في 26 مجلس بلدي، بعد حملة التضليل الإعلامي المبرمجة يوم الجمعة، والتي تحدثت عن إكتساحات بأرقام فلكية لحزب المرشح الأوحد والتي تلقفتها وسائل الإعلام وكأنها كلام منزل، لتتكشف الحقيقة يوم أمس عن وضع مختلف في دوائر هي معاقل مختارة ومنتقاة لحزب المرشح الأوحد تم فرزها لتجري فيها المرحلة الأولى من الإنتخابات المحلية، وليضمن الحزب الحاكم فيها فوزا سهلا لدعم المرشح الأوحد، والغريب أنه برغم ما رشح من بطلان المعلومات المضللة، إلا أن أحد رؤساء تحرير الصحف وهو من "العائلة المالكة" كتب معلقة يتغنى فيها بالفوز الساحق الماحق لحركته وكأنه يعيش في كوكب آخر، ولأن الرياح لم تجر بما تشتهي السفن تم تأجيل موعد الإعلان عن تلك النتائج حتى يوم الأحد "لأسباب لوجستية" على أمل أن تحدث معجزة ربانية أو بشرية تغير النتائج، وليخرج جمال الشوبكي وزير الحكم المحلي ورئيس اللجنة العليا للانتخابات المحلية، بنتائج غريبة تعلن بهذا الشكل للمرة الأولى في تاريخ البشرية، فبدلا من أن يحدد المجالس البلدية والجهة الفائزة في كل منها، اكتفى بإعلان الأسماء رافضا الإجابة على سيل من أسئلة الصحفيين حول الحركة التي فازت في هذه الانتخابات حيث قال "إنه لا يملك الإجابة على هذه الأسئلة" وطالبهم بالتوجه إلى الفائزين كل على حده وسؤالهم عن انتمائهم السياسي، حفاظا على ماء وجه من نفخ ريشه وضلل العالم بأكاذيب ثبت بطلانها.

    أخير، ولمن نسي أذكر أن يوم الأمس 25/12/2004 كان نهاية المهلة التي منحها المجلس التشريعي لرئاسة وحكومة أوسلو لعرض تقريرها بشأن مرض ووفاة عرفات، وها هو الموعد وهاهي المهلة تمضي وكأن شيئا لم يكن، وبالكاد يذكر اسم عرفات الآن، وكأن ملف مرضه وموته قد طوي للأبد، ولنا عودة لهذا الموضوع بتفاصيله قريبا.

    هكذا كان يوم الأمس، وهكذا بدأت عجلة الحملة الإعلامية التضليلية المبرمجة، لتزيّن لنا المرشح الأوحد على أنه أبو الثوابت، تحت الشعار الفتحاوي الجديد وحسب البيان الأخير للحركة يوم أمس أيضا "بعد الختيار أبو مازن هو الخيار"!، ولتعطل ثم تلفلف حقيقة نتائج الإنتخابات المحلية، ولتعتم وبشكل شبه نهائي على ملف مرض وموت عرفات.

    أبعد هذا كله نتحدث عن نزاهة وشفافية وديمقراطية وانتخابات حرة؟ لكم الإجابة!

    د. إبراهيم حمامي

    DrHamami@Hotmail.com

    26-12-2004