قسماً لن تفلحوا
بقلم : د.إبراهيم حمامي

د. إبراهيم حمامي
لم يساورني شك ولو للحظة أن ما جرى كان سيجري، فالمتتبع لمسيرة أوسلو ورموزها يعلم علم اليقين أن هذا ما يجيدونه ولا شيء غيره، لأنه ولهذا السبب تحديداً خُلِّقت سلطة أوسلو، ولهذا الغرض سُمح لرموزها دخول فلسطين ليعيثوا فساداً وإفساداً، وليمارسوا دورهم المنوط بهم من حراسة وتشريع للإحتلال تحت شعار الوطنية، ليتطور لاحقاً فتصبح اللاوطنية "مصلحة عليا للشعب الفلسطيني" دون خجل أو حياء أو مواربة.

اليوم كانت محاولة جديدة لإسكات صوت لايخاف ولاينحني، ولطالما سمعناه مدوياً حتى في عز السطوة والأسطورة العرفاتية، صوت من عمق فلسطين المحتلة، صوت البروفيسور عبد الستار قاسم، الذي ما زال يفضح ويعري نهج أوسلو، فبعد تهديده من الأمن الوقائي في طولكرم بتحريك كتائب الأقصى لتأديبه بعد أن فضح قيام أجهزة القمع الأوسلوية بإعتقال شباب دون محاكمات وعلى خلفيات سياسية محدداً أسماءهم وأسماء من اعتقلهم وهو ما لم يعجبهم، قام "مجهولون" بإحراق سيارته في جنح الظلام كخفافيش الليل في رسالة مفادها أنهم قادرون على الوصول إليه.

ليست هذه بالمحاولة الأولى لإسكات صوت معارض لم يرق لزمرة أوسلو فقد سبق واعتقل قاسم مرتين من قبل جلادي أوسلو وأُطلق عليه النار، وكان قد وجّه قبل أشهر اتهاماً مباشراً لسلطة أوسلو بمحاولة اغتياله كما حمّل اليوم أجهزة القمع الأوسلوية المسؤولية عن تهديده وإحراق سيارته معتبراً ما جرى "تخريباً من الداخل"، كما تعرض غيره لمحاولات اتخذت أشكالاً وألواناً متعددة منها الإعتقال والتعذيب المؤدي للوفاة، أو الضرب والإعتداء كما حدث للموقعين على بيان العشرين قبل سنوات، أو بتر الأطراف (نبيل عمرو)، أو الإغتيال المباشر (الشهيد ناجي العلي)، مروراً بمحاربة العباد في لقمة عيشهم ووظائفهم، والتهديدات المستمرة وبأساليب حقيرة كما يحدث مع الكثيرين ومنهم العبد الفقير.

إن الزج باسم كتائب شهداء الأقصى في التهديدات وممارسات العصابات أمر لايجب أن يمر دون التوقف عنده، فقبل يومين كتب أكرم أبوسمرة حول نفس الموضوع بعد تهديده أيضاُ بكتائب شهداء الأقصى بعد ذكره اسم حكم بلعاوي في جملة يتيمة في احدى كتاباته، كتب فقال: " يا الله ... هل هانت كتائب شهداء الاقصى الى هذا الحد فادعاها من هب ودب ، حتى استهلت العصافير امتطاء ظهرها! يا الله ... هل أصبحت الكتائب قناعا يرتديه كل داجن مروض منزوع الدسم الوطني والانساني! يا رب.. اني أربا بشهداء كتائب الأقصى أن يريق الصيارفة الطواويس دماءهم مرتين! يا الله ... هل صارت الكتائب "ملطشة" للسلوليين وأقنعة يستعيرها عرابو صقلياتنا ونابولياتنا!!"

على كتائب الأقصى التي أخرجت من رحمها قادة عظام أمثال ناصر عويص ود.ثابت ثابت وعاطف عبيات ورائد الكرمي ونايف أبوشرخ أن ترفض وبوضوح أن تتحول لأداة وضيعة في يد دحلان والرجوب وأبوشباك وكأنها ميليشيات خاصة لتحقيق مآربهم وغاياتهم المخزية.

لايتعلم هؤلاء الفاشيون في الأجهزة الرسمية الأوسلوية من دروس التاريخ، فقد كان لصوت فرد واحد في وجه الفساد والطغيان أثراً كبيراً، وأكبر أثراً بعد إخماده، ويكفينا أن نذكر الشهيد ناجي العلي الذي لازال بيننا بقلمه وريشته وحنظلته الذي غدا شعاراً لكل رافض لنهج التفريط والتنازل والمساومة، في حين رحل قاتلوه غير مأسوف عليهم وبالكاد يذكرهم أحد.

مافيا الفساد في فلسطين وأسلوب العصابات من تهديد اللئام ومحاولات خفافيش الليل إرهاب شرفاء الوطن، لن تكون أقوى وأنجع من أساليب المافيا الحقيقية التي اسقطتها إرادة فرد واحد أخذ على عاتقه كشف الحقيقة ليدفع حياته ثمناً لتلك الحقيقية، ولتسقط المافيا في وطنه ويبقى اسمه محفوراً في ذاكرة ذلك الوطن، ولمن يتساءل عن ذلك الشخص وتلك القصة، أسرد تفاصيلها:
القصة هي للقاضي الإيطالي والمدير العام لمكافحة المافيا جيوفاني فالكوني الذي اغتيل عام 1992 في مدينة باليرمو، فبعد مقتل القاضي كوستا وبعد شهور من العمل المضني والجاد إستطاع فالكوني مع زميله المخلص القاضي باولو بورسيللينو التقدم وتحقيق الكثير من النجاح في مواجهة المافيا.

في خضم ذلك، وفي إطار حملات الإرهاب المنظمة الموجهة لـكل من يعمل في قضايا المافيا، تم إغتيال روكو كينيتشي , رئيس المكتب الذي يعمل فيه فالكوني وزميله باولو وبقية الشرفاء المخلصين بل إنه قبل ذلك تم إغتيال الجنرال كارلو دالا تشيزا مع زوجته الذي قدم للتو من روما لمساعدة المسئولين في إجتثاث ذلك السرطان , وقبل ذاك أيضا وأيضا تم إغتيال بيو لاتوري عضو البرلمان ورئيس الحزب الشيوعي الصقـلّي والذي كان سيجعل من الإنتماء للمافيا جريمة يعاقب عليها القانون.

حرب منظمة على كل من تسول له نفسه مجابهة المافيا أوحتى التفكير بذلك
تهديدات القتل لم تثن فالكوني حتى عندما إقتربت المافيا منi أكثر وأكثر، وإغتالت صديقه الذي تعاون معه ومع زميلهم المشترك باولو بورسيللينو الضابط نيني كاساري، قتلته أمام زوجته وإبنه.

لم يتوقف حتى اغتيل هو الآخر لكن موته حرّك الشعب الإيطالي برمته فخرج بملايينه ووقف في وجه المافيا ليُعتقل أعضاؤها بالمئات وتتخلص صقلية من وبائهم، وهكذا كان موت فالكوني أشد تأثيراً من حياة الكثيرين لأنه أخلص في خدمة قضيته رغم الصعوبات، فهل تتعظ مافيا فلسطين من مافيا إيطاليا؟ وهل تتعلم أن إسكات صوت لا يعني سوى خروج أصوات أكثر وأشد قوة وصلابة؟ وأن إرهابها لن يجدي فتيلا؟

حادثة اليوم تؤكد ما سبق وذهبنا إليه من انحراف هذه الزمرة وانغماسها في مستنقع الفساد والوقوف ضد مصالح شعبنا وشرفاء هذا الوطن، وهذه ليست فرضية بحاجة للإثبات، لكنها واقع ملموس ومثبت دون شك وأصبح واضحاً للعيان حتى أن الكثيرين ممن طبلوا وزمروا للعهد الجديد بدأوا في الصحوة من وهم السلطة ووعودها لينضموا لباقي الأصوات المعارضة لنهج الفساد والإفساد وممارسات العصابات.

لن تنجح محاولات تكميم الأفواه في التستر على جرائم وممارسات أوسلو التي ارتضت لنفسها حراسة المحتل وهاهي الأنباء تطير الينا لتحدثنا اليوم أيضاً عن نشر قوات لحدية فلسطينية إضافية في شمال قطاع غزة لحماية المستوطنات من "القصف" بعد أن صدرت اليها الأوامر بذلك بسبب استياء "الرئيس" من "الأعمال المنفلتة"، دون أن يرى أو يسمع "انفلاتات" الآخرين في اجتياح المدن الفلسطينية وفي الهجمة الشرسة على الأقصى المبارك يوم أمس، وكأنه لايرى إلا بعين واحدة في سياسة عوراء خرقاء.

محاولات المس بالبروفيسور عبد الستار قاسم أو غيره من الرافضين الإنغماس في مستنقع أوسلو لا يجب أن تمر دون حساب أو عقاب، فالبروفيسور عبد الستار قاسم لايمثل نفسه، بل يمثل كل صوت حر شريف داخل فلسطين، وكل رافض للهيمنة والإستبداد، وكل معارض لنهج أثبت فشله ودمويته، ومن هذا المنطلق أوجه نداء لكل الشرفاء في الوطن المحتل وخارجه أن يقفوا وقفة رجل واحد لايخشى في الله لومة لائم، وأن يعلنوا رفضهم التام لمحاولات تكميم الأفواه، متعاهدين الإستمرار في طريق فضح وتعرية الفساد ورموزه مهما كانت العقبات والصعاب، دون "طبطبة" ودبلوماسية في تناول أوضاع وطننا المحتل، لأنه لم يعد هناك مجال للمجاملات، ويحان وقت تسمية الأمور بمسمياتها.

ان الواجب والأمانة تتطلب تكاتف الجهود والأصوات والأقلام وبشكل جماعي في رفض التهديد والإعتداء بكل صوره وأشكاله، واستنكار ما جرى ومن حرّض عليه ويقف وراءه، ولايكفي موقف الصحافيين اليوم الذين قرروا مقاطعة تغطية "النشاطات الرئاسية" في غزة بسبب تصرفات قوات القمع الأوسلوية، بل يجب أن يتعداه إلى اتخاذ موقف صارم بمقاطعة كل افرازات أوسلو.

أما البروفيسور عبد الستار قاسم فأذكره ونفسي بقوله تعالى: "قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ"، فامض على بركة الله، فما تقوم به يبعث فينا قوة وطاقة وأملاً ومثالاً يحتذى به، فأنت في الداخل تحت سمع وبصر وسطوة وجبروت أجهزة القمع، تقول ما تقول، وتتعرض لما تتعرض، دون كلل أوملل أو وجل أو خوف، فكيف بنا ؟ هل نسكت؟ هل نخاف؟هل نساوم؟ قسماً لن نفعل حتى وان سقطنا الواحد تلو الآخر في سبيل ما نؤمن به، وقسماً لن نسمح لهم بارهابنا حتى لو اجتمعت معهم قوى الأرض، وليتهم يدركون تلك الحقيقة فيكفوا عن تهديداتهم الرخيصة ومحاولاتهم البائسة.

تحية لكل صوت شريف حرٍِ أبي، وعهداً أن تبقى الكلمة والقلم والصوت والريشة سيفاً مسلطاً على رقاب رموز وأزلام الفساد والإفساد مهما طال الزمن، ومهما اشتدت الهجمة، وما على هؤلاء النكرات ممن يتحركون في الظلام إلا أن يراجعوا التاريخ ليتبوأوا مكانهم في مزابله.

د. إبراهيم حمامي
DrHamami@Hotmail.com
27/04/2005