عرفات والبقاء ودبلوماسية الرقص والغناء
بقلم : د.إبراهيم حمامي

د. إبراهيم حمامي

خلال زيارة رمضانية قصيرة هذه الليلة لأحد الأصدقاء، وفي خضم النقاشات الهادئة أحيانا والحامية أحيانا أخرى حول آخر المستجدات خاصة ما يتعلقة بتدهور صحة عرفات ومعركة تقاسم الحصص التي بدأت مبكرة بهرولة دحلان وعباس وسهى الطويل للمقاطعة، وإحتمالات تفجر صراعات داخلية دامية على السلطة، فاجأني صديقي برسالة بريدية إلكترونية وصلته صباح اليوم (28/10/2004) من ممثل سلطة أوسلو في لندن تحتوي على دعوة لحضور حفل العيد يوم 14/11/2004 في أحد مطاعم لندن من مؤسسة تدعى (International Arab Charity).

إلى هذا الحد بدا الأمر طبيعي ولا مشكلة فيه، ولكن ما أن بدأت قراءة برنامج الليلة المذكورة حتى صعقت وأصبت بالصدمة فالترويج والدعاية هي لحفلة راقصة لرقصات الفلامنكو والرقص الشرقي"هز الوسط" أو كما وصف في الدعوة (Gorgeous Belly Dancing) !

لم يكن الأمر ليستلزم التوقف عنده لو أن الرسالة الإلكترونية صادرة عن البريد الشخصي لممثل سلطة أوسلو، أو كانت دعوة فردية لهذا الشخص أو ذاك لمشاركة الداعي الرقص والغناء، لكن الدعوة والدعاية "الراقصة" إنطلقت من البريد الرسمي لممثلية سلطة أوسلو في لندن وتحت إسمها وعنوانها ومباركتها وتزكيتها وللقوائم البريدية الرسمية، والتي أعتقد جازما أن المدرجة أسماؤهم عليها إرتضوا ذلك ليتواصلوا مع هموم وقضايا الشعب الفلسطيني وللتضامن معه وليس لتلقي رسائل "هز الوسط" في مطاعم لندن، خاصة إذا علمنا أن أغلب من بالقائمة هم من المسؤولين والمتعاطفين الأجانب مع قضيتنا.

ما يثير الدهشة أيضا أن الدعوة "الهزازة" تزامنت مع أنباء تدهور صحة عرفات - رئيس سلطة أوسلو- بشكل يشبه سكرات الموت وبعد أن إستلزم الوضع حضور كل الطامعين في الإرث العرفاتي من سلطة أو نفوذ أو مال، وإستدعى إجتماعات اللجان والمجالس التنفيذية والمركزية والثورية وغيرها وعلى كافة الأصعدة ووصلت إلى حد تسفير عرفات لباريس لتلقي العلاج هناك، رغم كل ذلك إنطلقت الرسالة البريدية الإلكترونية (إيميل) لما يزيد على 1500 إسم هم من على قائمة ممثلية أوسلو، دون أي إحساس تجاه ولي نعمتهم الذي عيّنهم في مناصبهم بشكل مباشر أو غير مباشر، والذين يفترض أن رواتبهم تدفع من ميزانية هذه السلطة (وبالتالي من قوت وعرق ودم الشعب) والذين لولا سلطة أوسلو لما كان لهم وظائف أو مناصب أو رواتب، بغض النظر عن رأينا في فساد السلطة وإفسادها.

لقد كان من باب أولى أن تنطلق رسالة بريدية توضح للمتلقي آخر مستجدات الوضع على الساحة الفلسطينية وبشكل يفند إشاعات الإحتلال وحكومة شارون التي ظهرت بمظهر الحريص على صحة عرفات "لأسباب إنسانية" أكثر من ممثليه، وبأسلوب علمي واضح وبرنامج متكامل لا يحتوي بالتأكيد على رقصات "البطون العارية الهزازة".

ترافقت الدعوة المذكورة أيضا - وياللصدف- مع تشكيل فاروق القدومي (وزير خارجية فلسطين لعام 1988 تمييزا له عن نبيل شعث وزير الخارجية لعام 1994) للجنة تقصي حقائق مهمتها التحري حول وجود ممارسات فساد في "سفارات" السلطة بالخارج والتي ضمت في عضويتها كلا من جمعة الناجي السفير بالدائرة السياسية وأحمد جرار مدير مكتب عرفات بغزة، والتي ستكون أولى مهامها التوجه إلى أوروبا للتحقيق في تقارير الفساد الذي إستشرى في "سفارات" السلطة، بعد أن تحولت إلى إقطاعيات خاصة و"ممالك" فردية مدى الحياة للقائمين عليها دون رقيب أو حسيب.

لم يكن الحفل "الساهر" ليسترعي إهتمامي لو أنه إحترم خصوصية شهر الصيام والعبادة الكريم وعيد الفطر الفضيل، الذي إستخدم كشماعة لتبرير البرنامج "الراقص".

حقيقة لا أدري كيف يمكن تبرير ما يجري وما جرى في السابق من تناسي لهموم شعبنا وجراحه سواءا الأسرى والمعتقلين، أو المهجرين والمشردين، أو المحاصرين المشتتين أوغيرها من عذابات لا حصر لها، والتي لم تحظ بشيء من الإهتمامات البريدية من عيار "نص ونص" والتي كادت أن ترتقي لمستوى "رقصني يا جدع".

ما كنت لأعترض لو أن الليلة المذكورة كانت ليلة تراثية فلكلورية تأكد على أصالة وعراقة شعبنا، بل ربما كنت أول من ينزل إلى ساحة "الدبكة"، وما كنت لأعترض لو أنها دعوة عامة لنشاط لا دخل لفلسطين به حتى وإن كان ليلة من ليالي ألف ليلة وليلة، لكن الدعوة أتت بإسم فلسطين ومن يدعي تمثيل فلسطين في يوم تصادف فيه كل ماسبق ذكره وأفطر فيه الصائمون في جنين وطولكرم تحت حراب الإحتلال ومنع التجول وفي يوم لم تتوقف فيه قوافل الشهداء في كل فلسطين الجريحة .

الفرح مشروع بل مطلوب ومحبب ليبقى شعبنا حيا وليستمر في عطائه، الإعتراض على الليلة المذكورة ليس من باب كراهية الإحتفالات أو الأفراح ولكن للإحتفال قواعد وأصول غابت بالتأكيد عن هذه الدعوة. لقد إعتاد شعبنا على الفرح رغما عن الإحتلال وقسوته فهو رغم جراحه ومعاناته يقيم الأعراس ليلا بعد أن يشيع الشهداء نهارا، وهذه هي عظمة شعبنا .

إن المستوى الذي وصل إليه من يدعون تمثيل الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج أصبح من الصعب القبول به، أو التعاطي معه، أو مهادنته والسكوت عليه، فشعبنا أكبر من كل هؤلاء، والكلام المعسول المنمق والمتكرر لم يعد يجد نفعا، وعليهم تغيير أسلوبهم وطريقتهم قبل أن يفقدوا القليل مما تبقى لهم من إحترام .

ما هكذا تورد الإبل يا "سعادة السفير" فالوضع لايحتمل الرقص الشرقي ولا غيره، ولجان القدومي - إن صدق- باتت قاب قوسين، ورئيسكم وولي نعمتكم ينازع المرض وربما الموت، وشهر رمضان المبارك بصومه وصلاته وعيد الفطر وفرحته لم يشرّعوا كي تقام حفلات الرقص وتبادل النخب والأقداح في الليالي الملاح، أليس كذلك ؟

إن كنت تدري فتلك مصيبة وإن كنت لا تدري فالمصيبة أعظم.

وللحديث بقية...

د. إبراهيم حمامي

لمراسلة د. إبراهيم حمامي

28-10-2004