تحرير الأسواق كطريق للتنمية
إلهامي الميرغني ـ باحث مصري

بداية أود التأكيد على إنني اختلف مع مفهوم الإصلاح الاقتصادي لأن كلمة ( الإصلاح ) تعني فساد كل ما كان سائداً قبل ذلك ولكن الحقيقية أن ماحدث هو تغير فى التوجهات والسياسات الاقتصادية ، وقد تعرض العديد من المفكرين الاقتصاديين لهذا المفهوم ، وقد كان الدكتور جلال أمين على حق حين تسأل: " لماذا الإصرار على إطلاق وصف ( الإصلاح الاقتصادي ) علي هذا البرنامج والإجراءات مادام تعبير ( الإصلاح ) يفيد بالضرورة عملاً مرغوباً فيه؟ إن شيئاً مماثلاً يمكن قوله عن تعبيرات " تحرير" التجارة أو " تحرير" الاقتصاد أو " تحرير" الاستثمار، وهي تعبيرات تحمل كلها معاني طيبة ومحمودة، مادام" تحرير" أي شئ يبدوا أفضل دائماً من وضع القيود عليه. ويمكنني بالطريقة نفسها أن أصف قيامي بقتل شخص ما بأني قمت ب "تحرير " روحه من جسده!"([1])

لقد دافع آدم سميث عن تحرير الأسواق تحت الشعار الشهير الذائع الصيت " دعه يعمل ، دعه يمر " والذي يدعوا إلى تقليص تدخل الدولة فى الحياة الاقتصادية إلى أضيق الحدود بينما كان التجاريون يدافعون عن تقييد التجارة.ورغم أن الفيزيوقراطيون هم أول من دعي إلى حرية الأسواق من أجل نمو الصناعة الإ أن الاقتصاديين الكلاسيكيين من أمثال أدم سميث ودافيد ريكاردو وجون استيورت ميل أيدوا نفس المبدأ من أجل دفع التنمية . ولكن هناك فرق بين السوق الحرة التى عرفتها بريطانيا فى القرن التاسع عشر عند نشأت الرأسمالية وبين السوق الحرة العالمية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية فى ظل منظمة التجارة العالمية ومؤسسات العولمة الدولية الجديدة.

لقد وصف الاقتصادي الإنجليزي جون جريي أكذوبة السوق الحرة بقوله:
" الحقيقة أن مذهب " دعه يعمل " – أي اقتصاد تحرر فيه الأسواق من الضوابط ، ويصبح خارج إمكانية السيطرة السياسية والاجتماعية – لا يمكن أن يبتدع من جديد ، بل أنه حتي فى عنفوانه كان أسم على غير مسمي . فقد خلقه قهر الدولة ، وكان يعتمد عند كل نقطة فى مجرياته على سلطة الحكومة". ( [2] )
عندما ندقق فى المقصود بتحرير الأسواق نجده عند منظريه يستهدف تقليص الدور الذي تلعبه الدولة فى الاقتصاد وقد وضعت منظمات التمويل الرأسمالية الدولية برامج لتحقيق ذلك عرفت ببرامج التثبيت الاقتصادي والتكييف الهيكلي وهى تضع عدة أهداف لها من بينها :

--> تخفيض حجم العجز فى الموازنة العامة
--> إلغاء دعم أسعار السلع والخدمات
--> تخفيض الإنفاق الحكومي
--> تخفيض سعر صرف العملة الوطنية
--> تحرير التجارة الخارجية
--> رفع أسعار الفائدة
--> تحويل ملكية وإدارة المشروعات العامة إلى القطاع الخاص
--> جذب الاستثمار الأجنبي

لقد بشرتنا منظمات التمويل الدولية بأن تحرير الأسواق سيحقق النمو وهو ما يعمل على تحسين أوضاع الفقراء على المدى البعيد لكن التجربة العملية وبعد ربع قرن من الزمان أوضحت زيادة التدهور فى توزيع الدخل وازدياد حدة الفقر وزيادة التفاوت فى توزيع الدخول مرتبطاً بتفجر المديونية المحلية والخارجية وتفجر التضخم والبطالة وانهيار قيمة العملة الوطنية وإغراق الأسواق بالسلع الترفيهية وعجز المصانع المصرية عن المنافسة وتعثر المشروعات وهروب الاستثمار وربما إذا تأملنا مؤشرين فقط من مؤشرات أداء الاقتصاد المصري خلال الربع قرن الماضى وهما سعر صرف الجنيه مقابل الدولار الأمريكي والذي كان لا يتجاوز 84 قرش قبل بداية البرنامج ووصل إلى 5.78 قرش في يونيو 2005 وكذلك تطور الديون الخارجية خلال الفترة الماضية تعطي صورة أفضل عن وضع الاقتصاد المصري فى ظل تحرير الأسواق ، وسوف نعود لهذه المؤشرات بشئ من التفصيل فى أجزاء تالية من الدراسة.
تطور سعر الصرف والمديونية الخارجية خلال مرحلة تحرير الأسواق

السنوات سعر صرف الجنيه مقابل الدولار الأمريكي الديون الخارجية بالمليار دولارالديون الخارجية بالمليار جنيه
1980 1.4313.719.6
19851.43 36.151.6
19903.3030.5100.7
19953.3931.0105.1
20003.6527.9101.8
20014.0626.6108.0
20024.6328.7132.9
20036.1328.7175.9
20046.1828.9178.6
المصدر : الديون من 1980 وحتى 1996 من كتاب سياسة وإدارة الدين العام فى البلدان العربية – صندوق النقد العربي – أبوظبي 1998 – صفحة 191 . واعتباراً من 1997 وحتى 2004 من التقرير السنوى للبنك المركزي المصري، سعر الصرف من النشرة الاقتصادية للبنك الأهلي المصري والتقرير السنوى للبنك المركزى المصري.





يتضح لدينا من الجدول والأشكال السابقة ما يلي:
ـ مر سعر الصرف بعدة متغيرات رئيسية فعند بداية البرنامج كان سعر الصرف حوالى 84 قرش للدولار ، ومع بداية تطبيق البرنامج كان سعر صرف الجنيه مقابل الدولار يبلغ 1.43 واستمر كذلك حتى نهاية الثمانينات.
ـ أرتفع سعر الصرف فى مطلع التسعينات إلى 3.4 جنيه للدولار عام 1990 ثم وصل إلى 3.6 جنيه للدولار عام 2000 ثم وصل إلى المرحلة الحالية منذ عام 2003 حيث وصل إلى 6.1 جنية فى عام 2004
ـ فقد الجنيه أكثر من 50% من قيمته مع التعويم الأخير بما فجر موجة جديدة مستمرة من ارتفاع أسعار كافة السلع والخدمات.ورفع من تكلفة الإنتاج خاصة في ظل الفجوة الحالية وتزايد الاعتماد على الخارج في الواردات المقومة بالدولار.
ـ اعتمد برنامج التثبيت الهيكلي خاصة خلال المرحلة الأولي على الديون الخارجية لتمويل التنمية وبلغت الديون الخارجية عند بداية البرنامج 13.7 مليار دولار عام 1980 ثم ارتفعت إلى 30.5 مليار عام 1990 ثم ارتفع لأكثر من 31 مليار دولار وحتى منتصف التسعينات ولكن نتيجة مشاركة مصر فى حرب تحرير الكويت قامت الولايات المتحدة ودول التحالف بإسقاط جزء كبير من الديون المصرية كمكافأة على دعم القوات الأمريكية ودخول برنامج التثبيت الهيكلي مرحلة جديدة.
ـ رغم ذلك استمرت الديون الخارجية عند 27.9 مليار دولار عام 2000 ووصل إلى 28.9 مليار دولار عام 2004
ـ تمثل الديون الخارجية أكثر من 32.8 %من الناتج المحلي الإجمالي عام 2004.
ـ باحتساب قيمة الديون الخارجية بالجنيه المصري مرتبطاً بتطور سعر الصرف سنجد المديونية قد ارتفعت قيمتها من 19.6 مليار جنيه عام 1980 إلى 104.6 مليار جنيه عام 1991 ثم انخفضت إلى 101.8 مليار عام 2000.
ـ بعد الانخفاض الأخير في سعر صرف الجنيه المصري قفزت قيمة الديون الخارجية مقومة بالجنيه المصري لتصل إلى 178.6 مليار جنيه عام 2004

تعكس البيانات السابقة بعض حقائق التدهور الاقتصادي الناتج عن تطبيق برنامج التثبيت الهيكلي أو ما يسمونه " الإصلاح الاقتصادي " وسوف نعود للعديد من مؤشرات الأداء خلال مراحل تالية من الدراسة .ولكن قبل الدخول فى تفاصيل أداء الاقتصاد المصري خلال ربع القرن الماضى سوف نعرض لنتائج تطبيق سياسات الليبرالية الجديدة فى بعض الدول لنعرف نتائج تطبيق السياسات التحررية للأسواق فى هذه البلدان.

السوق الحرة داخل الولايات المتحدة الأمريكية
قد يكون من المنطقي وجود نموذج اقتصادي ناجح يفترض الإقتداء به للوصول إلى مستوي محدد من التنمية ولكن للأسف أن المبشرين باقتصاد السوق يتحدثون عن بعض الجوانب ويغفلون الجوانب الأخرى حيث يرصد جون جرايي معاناة الطبقة الوسطي الأمريكية من إنعدام الأمان الاقتصادي واعتمادها علي وظائف يقل أمانها بدرجة مطردة وانحدارها إلى مستوى البروليتاريا الكلاسيكية فى أوروبا فى القرن التاسع عشر ، كما دفعت الأسرة الأمريكية ثمناً باهظاً لحرية الأسواق يصفه جرايي بقوله:
كم عدد الأسر الأمريكية التي يتناول أفرادهم طعامهم معاً كما تفعل الأسر المألوفة ؟ وكم عدد الأبناء الذين يعيشون فى نفس المجاورة السكنية أو المدن التي يعيش فيها أباؤهم؟ وإذا تعرض أحد الأمريكيين للتعطل عن العمل ، فهل يستطيع أن يجد مساندة من أسرة ممتدة على نحو ما يجده الأسباني والإيطالي فى الدول الأوروبية .( [3] ) ويرجع جرايي ذلك إلى أسواق العمل المتحررة من الضوابط التي تفرض حتمية التنقل وربما إلى انفصال الزوجين وذهاب كل منهم فى اتجاه بحثاً عن العمل هل هذا هو نموذج التنمية الذي نريده فى مصر؟!!
كما تشهد الصناعة حالات من التوسع والتقلص والاندماج وتعيد هيكلة أوضاعها بحيث أن الموظف لا يضمن إذا كان سيعود إلى عمله فى اليوم التالي أم لا ؟ !!
كما أدي اقتصاد السوق فى الولايات المتحدة إلى زيادة الفوارق الطبقية وارتفاع معدلات الجريمة بمعدلات غير مسبوقة ووجود أحياء للفقراء يسكنها الزنوج وبعض الجنسيات الآسيوية والفقراء بينما يسكن 28 مليون أمريكي فى فيلات وقصور عليها حراسة خاصة وتحيطها الأسوار والبوابات وأنظمة الأمن . وفى نهاية عام 1994 كان هناك أكثر من خمسة ملايين أمريكي تحت قيود قانونية منهم 1.5 مليون فى السجون المحلية والفدرالية ،وكان واحد من كل 193 أمريكي بالغ مودع فى السجن .وفى أواخر عام 1994 كان معدل إيداع الأمريكيين فى السجون أربعة أمثاله فى كندا ، وخمسة أمثاله فى بريطانيا ، وأربعة عشر مثله فى اليابان ، وبحلول عام 1997 كان هناك واحد من بين كل خمسين من الأمريكيين البالغين محتجز وراء القضبان ، وحوالي واحد من كل عشرين أخلي سبيله تحت شرط أو رهن الاختبار وهو عشرة أمثال نظيره فى البلدان الأوروبية. هل هذا هو نموذج التنمية الذي نريده فى مصر؟!!

يختلف جرايي مع القائلين بإمكانية إصلاح السوق الحرة الأمريكية فيري " إن أمريكا اليوم ليست هي النظام المتسم بالتساوي الديمقراطي الذي وصفه دي توكفيل وأشاد به . كما أنها ليست مجتمع الفرص المتزايدة الذي جسدته سياسة " النيوديل " لفترة مابعد الحرب . وإنما هي بلد زاخر بالنزاعات الطبقية ، والحركات الأصولية ، والحروب العرقية التي لم تصل بعد إلى حد الانفجار . والحلول السياسية لهذه الآفات تفترض مسبقاً إصلاح السوق الحرة . ومن المشكوك فيه أن يكون هذا الإصلاح ممكناً من الناحية السياسية فى أمريكا اليوم.( [4] )

كما جاء ضمن مقدمة جيمس ولفنسون لتقرير البنك الدولي السنوى عام 1997 المعنون "تقرير عن التنمية فى العالم ، 1997 ، التنمية فى عالم متغير " إن معجزات النمو في شرق آسيا فى فترة ما بعد الحرب لم تأخذ بنهج الدولة التي تقوم بأقل دور ممكن ، بل أثبتت أن التنمية تحتاج إلى دولة فعالة ، تقوم بدور الحافز والميسر للتطور ، وتشجع أنشطة الأفراد ودوائر الأعمال وتكملها ويقول الأستاذ أحمد فؤاد بلبع مترجم كتاب الفجر الكاذب : إن التنمية التي تسيطر عليها الدولة قد فشلت ، ولكن فشلت أيضاً التنمية التي تتم بغير تدخل الدولة – وهي رسالة تصل إلينا بوضوح تام من خلال معاناة سكان الدول التي إنهارت مثل ليبريا والصومال . وقد أثبت التاريخ أن الحكومة الجيدة ليست من قبيل الترف ، فهي ضرورة حيوية فمن غير دولة فعالة يتعذر تحقيق التنمية المستدامة ، سواء فى جانبها الاقتصادي أو الاجتماعي.

السوق الحرة وإنعكاساتها فى بريطانيا
تختلف الدول الأوروبية عن الولايات المتحدة فى مستويات الضمان الاجتماعي المرتفعة التي تحققت بفضل كفاح وتضحيات الطبقة العاملة الأوروبية،لكن مع صعود نجم المحافظين الجدد فى العالم ووصول مارجريت تاتشر لرئاسة الوزراء بدأ إحياء مبادئ تحرير الأسواق كوسيلة لتحديث بريطانيا لتستعيد مكانتها الدولية المتميزة.وتم تقليص قوة نقابات العمال ، وإلغاء ملكية المجالس البلدية للمساكن الشعبية ، وخفض الضرائب المباشرة.وقد رأت تاتشر أن التنسيق الثلاثي في شئون السياسة الاقتصادية بين الحكومة ورجال الأعمال ونقابات العمال قد أصبح مرتعاً للشقاق فى ميدان الصناعة حول توزيع الدخل القومي ، بدلاً من أن يكون أداة لخلق الثروة أو ضماناً للتماسك الاجتماعي.
الطريف في التجربة التاتشرية هو معاداتها للإصلاح الدستورى رغم إصرارها على تنفيذ ما أسمته الإصلاح الاقتصادي وتحرير السوق ، فقد حدث تمركز كامل للسلطة فى أيدى الحكومة المركزية ( ونحن اسبق من بريطانيا العظمى فى هذا المجال ) ، ويصف بعض المحللين ما حدث بأنه اضعف الحواجز بين مؤسسات الدولة والحكومة وحزب المحافظين ( ونحن أيضاً اسبق فى هذا المجال ) وبعد أن كانت الحيدة السياسية للموظفين العموميين ( موظفى الحكومة ) أمراً مسلماً به ، أخذت الشكوك تنال منها. ويقول جون جرايي " لقد استعمر ـ محاسيب ـ حزب المحافظين من الرجال والنساء مؤسسات الدولة " ( زى عندنا يعني !!!) وأصبحت الهيئات الوسيطة التي كانت ذات يوم مؤسسات مستقلة ذاتياً، ملكية طائفة منغلقة من بطانة حزب المحافظين. ( صفحة 41 ) وانتهت علاقة الثقة بين الحكام والمحكومين التي كانت سائدة قبل تاتشر .

على قيادات الحزب الوطني أن تفاخر بأنها كانت متقدمة على بريطانيا العظمى فى هذا الفساد الذى تملك البرجوازية البيروقراطية المصرية فيه تراث عريق وتقاليد راسخة تمتد لأكثر من نصف قرن.
أما الخصخصة فقد بدأت قبل وصول تاتشر للحكم وعلى يد حكومة العمال فى عهد دينيس هيلي ببيع جانب من حصة الدولة فى ملكية شركة البترول الوطنية ، ولم يبدأ خطاب الخصخصة سوى فى عام 1982 بعد عجز الحكومة عن توفير الأموال اللازمة لتحديث صناعة الاتصالات السلكية واللاسلكية مما أدى إلي تفكيرها في خصخصة مرفق عام رئيسى هو قطاع الاتصالات.وبين عامي 1983 وعام 1997 تم تحويل ملكية العديد من المرافق الحكومية إلى القطاع الخاص.وأعيد تنظيم الخدمات الصحية والمدارس والجامعات والسجون وإدارة القضاء وهيئة الشرطة بما يواكب العصر الجديد.
طبقاً لفهم تاتشر لدور الدولة ، تكون مهمة الدولة هي تقديم إطار من القواعد واللوائح التي فى ظلها تصبح السوق الحرة بما فيها سوق العمل ذات دور حاسم ـ ذاتية التنظيم ـ ومن هذه الزاوية يتعين تغيير وإضعاف دور نقابات العمال كمؤسسات وسيطة بين العمال والسوق. وتم تعديل قانون العمل مستلهماً النموذج الأمريكي من حيث المرونة الشديدة فى تخفيض الأجور بما يخفض التكاليف لأصحاب العمل . ( زى ما حصل عندنا ).

لكن ما هي النتائج التي تحققت من هذه التنمية والتحديث من خلال تحرير السوق فى بريطانيا التي كانت عظمي :
لقد زاد حجم العمل الجزئى ، وأخذ عمال كثيرون من ذوى المهارة المحدودة يتكسبون أقل من الحد الأدنى الضرورى لإعالة أسرة .وعادت أمراض الفقر مثل الدرن الرئوي وشلل الأطفال وغيرها. وتحول العديد من أفراد الطبقة الوسطي إلى متعاملين فى الأوراق المالية.وتقلصت مزايا الرعاية الاجتماعية وأصبح الغرض من إعانة الباحثين عن عمل التي أقرت عام 1996 هو إجبار المستفيدين منها على قبول العمل طبقاً للأجر الذي يحدده السوق. وازدادت هشاشة الأسرة التقليدية وتدني شأنها.كما هبطت نسبة المتزوجات اللاتي تتراوح أعمارهن بين الثامنة عشر والخامسة والأربعين من 74% إلى 61% ، على حين أرتفعت نسبة المعايشة علي طريقة الأزواج من 11% إلى 22% خلال نفس الفترة.وزادت حالات الولادة خارج الزواج إلى أكثر من الضعف خلال الثمانينات ، وزادت نسبة الأسرة وحيدة الوالد من 12% عام 1979 إلي 21% عام 1992، وازدادت نسبة العنوسة. وبحلول عام 1991 كان هناك حالة طلاق لكل زيجتين فى بريطانيا.
كما شهدت الطبقة الدنيا نموا كبيرا ، فقد زاد عدد الأسر البريطانية التي لاتتقاضى معاشاً تقاعدياً وكل أفرادها بلا عمل من 6.5% عام 1975 إلى 16.4% عام 1985 والي 19.1% عام 1994. وبين عامي 1992 و1997 حدث ارتفاع يقدر بحوالي 15% في عدد الوالدين الوحيدين العاطلين عن العمل.ويوجد أسرة من بين كل خمس اسر لايعمل اى فرد من أفرادها( 20% من الأسر ) . كذلك أرتفع عدد نزلاء السجون بين عامي 1992 و 1995 بما يقرب من الثلث ليصل إلى أكثر من 50 ألف نزيل.
وارتفعت معدلات الجريمة التي يوجد لدى الشرطة فى إنجلترا وويلز علم بها من 1.6 مليون جريمة عام 1970 ارتفع إلى 2.8 مليون جريمة عام 1980 ثم بلغ 4.3 مليون جريمة عام 1990 ووصلت إلى 5.6 مليون نسمة بحلول عام 1992.( [5] )
كما ازدادت حدة التفاوت الطبقى فمنذ عام 1977 زادت نسبة السكان الذين يقل دخلهم عن نصف متوسط الدخل إلي أكثر من ثلاثة أمثال ما كانت عليه. وخلال الفترة 1984 ـ 1985 كانت حصة 20% الأكثر ثراء من السكان أكبر مما كانت عليه فى أي وقت بعد الحرب.
إن منطق السوق الحرة يفضل الخيار الشخصى على أي منفعة عامة ، ويتجه لجعل العلاقات بين الناس مؤقتة وقابلة للانفراط.إن منطق السوق الحرة يعمل على تحويل كافة العلاقات إلى سلع استهلاكية . فهل هذا هو نمط الحياة الذي نسعى إليه في مصر ؟!!!

السوق الحرة وإنعكاساتها فى روسيا
إن انتقال روسيا إلى اقتصاد السوق اعتمد على العلاج بالصدمة ومن خلال اتخاذ تدابير سريعة وراديكالية بعيدة الأثر وليست إصلاحات تدريجية . لذلك يصبح من المفيد أن نتعرف على مافعلته السوق الحرة فى روسيا.
لقد بدأت التجربة الروسية بتحرير الأسعار اعتباراً من 2 يناير 1992 حيث تم إلغاء الضوابط المفروضة على 90% من السلع المتداولة فى التجارة ، وفى اليوم التالي اختفت الطوابير من أمام المتاجر وارتفعت الأسعار بنسبة 250% ولم ترتفع الأجور إلا بنسبة حوالي 50%. كما بدأ برنامج الخصخصة في يوليو 1992 وبنهاية عام 1994 كان قد تم خصخصة 75% من المؤسسات الصناعية الروسية الكبيرة والمتوسطة الحجم ، وأصبح نصف الناتج المحلي يتم توليده من خلال القطاع الخاص.وباع العمال الأسهم التى أمتلكوها ليحصلوا على النقد السائل اللازم لمواجهة متطلبات الحياة. كما تم خفض المشتريات العسكرية بما يقرب من 65%

يقول بيتر تروسكوت فى المسح الذي أجراه لآثار إصلاح السوق " كان للإصلاحات الاقتصادية الروسية أثر مدمر علي غالبية الشعب" ففى الفترة ما بين ديسمبر عام 1991 وديسمبر عام 1996 زادت أسعار السلع الاستهلاكية 1,700 مرة ، ونتيجة لذلك لم يعد لدي 80% من الروس مدخرات من أي نوع. وأصبح أصحاب الدخل المنخفض يمثلون حوالي ثلث السكان وهم مهددون بالسقوط إلى فئة المعوزين ـ أى الفئة التي تشغل نسبة ما بين 15 و 20 % من السكان والتي لا يستطيع أفرادها شراء أدوية أو ملابس جديدة . وهناك مابين 5 و 10 % من السكان يعانون الحرمان الشديد وسوء التغذية .( [6] )

وتقدر بعض المصادر سقوط 45 مليون شخص فى براثن الفقر بينما استفاد حوالي 3 إلي 5% فقط من السكان من هذه الإصلاحات .وفي عام 1996 كان ربع سكان روسيا يعيشون تحت مستوى الكفاف ( 70 دولار شهرياً ) وانخفض الدخل الحقيقى للسكان بنسبة 40% وازداد عدم التكافؤ الاقتصادي بصورة مثيرة.كما ارتفعت معدلات البطالة لتصل إلى 9.5% عند منتصف عام 1996، كما يوجد كثير من العمال الذين لم يحصلوا على أجورهم منذ شهور ، وكان يوجد خمسة ملايين روسي يعملون لبعض الوقت، وكان 20% إلى 35% ممن لهم وظائف ثابتة يرغمون على ترك وظائفهم.

كما يرصد تقرير منظمة العمل الدولية أن أكثر من ثلث السكان ينتمون إلى من يسميهم التقرير " متعطلين لا يعلن عنهم " ويصف الأرقام الروسية الرسمية عمن لا عمل لهم بأنها "حيل إدارية" تخفي المستوي الحقيقي " بأشد الطرق قسوة".

لقد انكمش النشاط الاقتصادي بنسبة 40% وتوقفت الدولة الروسية عن دفع مرتبات الكثير من المستخدمين ومن يعولونهم ، ويقر " مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية " واشنطن أن الحكومة لم تكن تدفع مرتبات مستخدميها والقوات المسلحة والعلماء.وكانت المرتبات والأجور والتحويلات لما يتراوح بين 65 و 67 مليون مواطن في صورة متأخرات فى نهاية عام 1996. أما عن المواطنين أصحاب المعاشات التعاقدية ، البالغ عددهم ستة وثلاثون مليوناً ، فإن معاشاتهم لم تكن تدفع فى مواعيدها، هذه بعض بركات حرية السوق.

أنعكس ذلك على الوضع الاجتماعي حيث أرتفع عدد من يموتون قبل الأوان ، ارتفع عدد الأشخاص فى سن العمل الذين ماتوا بسبب تعاطي الكحول بين عامي 1990 و1995 بأكثر من ثلاثة أضعاف. وزاد عدد حالات الانتحار بين الرجال فى سن العمل فيما بين عامي 1989 و1993 بنسبة 53%. وتم الإبلاغ عن 30 ألف حادثة قتل عمد ، أي ثلاثة أمثال المعدل بالنسبة للفرد في الولايات المتحدة ، وعشرة أمثال المعدل البريطاني والأوروبي .كما نشرت صحيفة ذي إيكونومست أنه بعد مرور خمس سنوات على الإصلاح الروسى انخفض العمر المتوقع منذ عام 1992 من 74 سنة إلى 72 سنة للنساء و من 62 سنة إلى 58 سنة للرجال ، بما يضع روسيا على قدم المساواة مع كينيا.وانخفض الإنفاق على الرعاية الصحية من 3.4 % إلى 1.8% مما أدي إلى انتشار الإصابة بالدرن الرئوي والالتهاب الكبدي والزهري والإيدز.

لقد تميزت التجربة الروسية بظهور ما سماه بعض المحللين بالرأسمالية الفوضوية كنظام اقتصادي يتميز بوجود دولة منهكة فاسدة، وفى بعض المناطق والبيئات ليس لها وجود من الناحية الفعلية ، وبضعف سيادة القانون أو غيابها ، بما فى ذلك عدم وجود قانون للملكية ، وانتشار الجريمة المنظمة فى مجمل مناحي الحياة الاقتصادية.لقد أصبحت الجريمة المنظمة فى كل مكان . وأرغمت 75% من المؤسسات والبنوك التجارية التى تمت خصخصتها علي دفع مابين 10 و20% من رقم أعمالها للمافيا. وأصبح يوجد فى روسيا حوالي 150 منظمة للمافيا تسيطر على أكثر من 40 ألف مؤسسة و400 بنك. هل هذا هو نموذج التنمية الذي نريده فى مصر؟!!

الأسواق الحرة العالمية أسوء أنواع الرأسمالية
يعتبر جون جرايي أن قانون جريشام للأسواق ينطبق على السوق العالمي حيث أن الرأسمالية الرديئة تتجه إلى طرد الرأسمالية الجيدة وهو نفس الوضع الذي يمكن مشاهدته فى الأسواق الوطنية لدينا. إن الصراع الحالي ضد مصالح الرأسمالية المنتجة الجادة التي تتعثر وتجبر على الخروج من السوق بينما يبقى الطفيليين والمضاربين والمغامرين والجزء الفاسد من البرجوازية البيروقراطية هم من يطلق عليهم تعبير نيولوك وهو " رجال الأعمال " تميزا لهم عن الرأسمالية المنتجة التي تعاني المنافسة غير المتكافئة وويلات الفساد الحكومي والسوق المفتوح وطمساً للمفاهيم الطبقية بتوصيفات غير محددة.فبدلاً من الحديث عن الفئات الطفيلية من الرأسمالية الحاكمة يتحدثون عن رجال الأعمال كتعبير غير طبقى .
إن إغراق السوق بالسلع المقلدة و" المضروبة " حسب التعبير الشائع هو نابع من فوضى السوق الحرة التى تعلى قيم المكسب والأرباح على أى اعتبارات أخري اقتصادية أو اجتماعية أو بيئية وتخفف من رقابة الدولة وتعلي قيم الربحية على أي قيم أخري.
أن تلوث العالم عل يد الولايات المتحدة الأمريكية وانسحابها من التوقيع على اتفاقية ( كيوتو ) الخاصة بالحفاظ على البيئة هو المثل والقدوة التى يتبناها حيتان رجال الأعمال الجدد فى كافة بقاع العالم ولعل عبد العظيم لقمة وتلوث الأسبستوس لمثال واحد من مئات الأمثلة على كيف تلعب الرأسماليات التابعة دورا هاماً فى تلوث البيئة سعياً وراء تحقيق أعلي ربحية على حساب الآلف العمال الذين يفتك بهم السرطان وأمراض الرئة تحت سمع وبصر النظام التابع فهذه قواعد السوق الحرة.
إن حرية إنتقال رأس المال تجعله يبحث عن البلدان التى تكون الشروط الاجتماعية والبيئية بها عند أدنى مستوي والأرباح عند أعلى مستوى. إن انتقال رأس المال على المستوي العالمي هو إبطال لمذهب الميزات النسبية لريكاردو.فبدلاً من إن يكون الاقتصاد فى خدمة احتياجات المجتمع ، يصبح المجتمع فى خدمة السوق.
إن الحرص على الكفاءة الاقتصادية دون اعتبار للتكاليف الاجتماعية هو أمر غير معقول ، فهو يعطي لمطالب السوق أولوية على احتياجات المجتمع وذلك هو الذي يدفع المنافسة فى السوق الحرة العالمية .وقد أصبح من حتميات النظام بأسره تجاهل التكاليف الاجتماعية ، وذلك تشويه مهني لمهمة الاقتصاديين.
إن الحديث عن اليد الخفية التي تعمل على توازن السوق هو أكذوبة وخدعة كبري تدحضها الوقائع فى شتى أنحاء العالم.وتؤكد حقائق الاقتصاد فى كافة الدول دور الدولة فى ضبط الأداء الاقتصادي حتى داخل الولايات المتحدة معقل اقتصاد السوق . ولعل الحروب التجارية بين الولايات المتحدة ودول أمريكا اللاتينية ، وبينها وبين دول الاتحاد الأوروبي من ناحية وبينها وبين الصين من الناحية الأخرى ودعاوى الإغراق لهى دليل على أكذوبة السوق الحرة الخالية من أي تدخل
إن حرب الصلب وحرب الموز لهي الساحات الجديدة للمعارك بين الدول الكبرى للسيطرة على السوق العالمي خدمة لمصالح الدول الكبرى والشركات الدولية النشاط التى تتحكم فى مسيرة الاقتصاد العالمي.
لقد حاولت التعرض لبعض آثار الأسواق الحرة فى بعض الدول للكشف عن مدى صلاحية هذا الأسلوب للتنمية فى مصر ومدي بشاعة الأوضاع التي يخلفها فى الدول الصناعية المتقدمة . والآن نعرض فى عجالة لبعض تأثيرات تحرير السوق على مصر

الحالة المصرية
تعتبر الحقبة " المباركية " هي حقبة تحرير السوق والذي كانت له تأثيرات متعددة من بينها تفجر البطالة بشكل غير مسبوق كظاهرة مصاحبة للإصلاح الاقتصادي حيث بلغ معدل البطالة 9.2 % من قوة العمل ( [7] ) ، وقدرت دراسة لمركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام عدد العاطلين بحوالي 1.5 مليون عاطل([8]) منهم 23.7% يحملون مؤهلات متوسطة و13.6% يحملون مؤهلات فوق المتوسطة ، و13.6% يحملون مؤهلات جامعية.بينما يقدر الأستاذ عبد الخالق فاروق عدد العاطلين بما يترواح بين 5.5 مليون و6.1 مليون عاطل يمثلون ما بين 22.5% و27.5 % من قوة العمل. ([9]) ويقدر الأستاذ عبد الفتاح الجبالي مستشار وزير المالية عدد العاطلين بحوالى 2 مليون عاطل .([10]) وسوف نعود فى جزء تالى للحديث بالتفصيل عن البطالة كظاهرة مصاحبة للإصلاح الاقتصادي. كما كشف تقرير أحوال المرأة المصرية الذي أصدره المجلس القومي للمرأة أن هناك 76 ألف حالة امرأة عاملة فقدت وظيفتها منذ بدأ برنامج الخصخصة مقابل 370 ألف وظيفة فقدها الرجال.
( جريدة نهضة مصر ـ 25 / 2 / 2004)


كما انتشر الفقر وسوء توزيع الدخل كمظهر مصاحب لتحرير السوق حيث بلغت معدلات الفقر التي أعلنها البنك الدولي وتقارير التنمية البشرية أن الأشخاص الذين يقل دخلهم اليومي عن 1دولار ( 5.8 جنيه يوميا أي 174 جنيه شهرياً ) هم فقراء فقر مدقع ويقدر عددهم بنحو 2.1 مليون شخص وقد ارتفع عددهم بحوالى 205 ألف شخص تدهورت دخولهم خلال الفترة الماضية. وبالنسبة لمن يقل دخلهم اليومي عن 2 دولار ( 11.6 جنيه يومياً أي 348 جنيه شهرياً ) فيقدر عددهم بنحو 35.8 مليون شخص وأنه خلال الفترة الماضية تدهورت أوضاع 7.8 مليون انخفضت دخولهم الحقيقة إلى مستوى أقل من 2 دولار يومياً.

كذلك يوجد تفاوت كبير في توزيع الدخل بين الطبقات حيث أوضح تقرير التنمية البشرية أن أغني 20% من السكان يحصلون على 43.6% من الدخل القومي بينما أفقر 20% لا يتحصلون سوي على 8.6% من الدخل القومي بما يعكس التفاوت الطبقي وسوء توزيع الدخل وتركز الثروات وانتشار الإنفاق الترفي في مواجهة انتشار الفقر .هذه بعض الآثار الاقتصادية لتحرير السوق .
أما على المستوى الاجتماعي فنجد لدينا تسعة مليون عانس وفق بعض التقديرات . ( [11] ) فقد قامت الدنيا ولم تقعد في مصر عند إعلان التقرير الإحصائي للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء الذي كشف عن ثلاثة حقائق خطيرة بشأن تزايد نسبة العنوسة بين الشباب المصري، وارتفاع نسبة الطلاق السنوية، وتأخر سن الزواج. ووصل الأمر إلى حد تقديم نواب في البرلمان أسئلة للحكومة يطلبون فيها الكشف عن الخطط الحكومية للتعامل مع ظاهرة تزايد نسبة العنوسة.
فقد قدم النائب محمد العدلي عضو جماعة الإخوان المسلمون سؤالاً لرئيس الوزراء بشأن ما أعلنه جهاز الإحصاء من أن عدد المصريين الذين بلغوا سن الخامسة والثلاثين ولم يتزوجوا بعد وصل إلى 8 ملايين و962 ألفًا بينهم 3 ملايين و731 ألفًا من الإناث، والباقي من الذكور، وما أورده التقرير من أن عدد المطلقين والمطلقات بلغ 264 ألف حالة خلال عام واحد.
كما فجر د.أحمد عكاشة رقماً مزعجاً آخر حين قرر أن ربع الشعب المصرى قد وقع فى فخ الإكتئاب ( 17.5 مليون شخص ). ( [12]) كذلك يشير الدكتور يسري عبد المحسن أستاذ الطب النفسي في جامعة القاهرة، إلى وجود خمسة ملايين مكتئب، و19 مليوناً يحملون علامات الاكتئاب في مصر. ومن المعلوم أن الاكتئاب قد يلعب دوراً في ظواهر مثل الإدمان على المخدرات والعنف المنزلي والمدرسي و...الانتحار. و قبل أشهر، أشارت إحصائية رسمية إلى أن 282 مصرياً تخلصوا من مشاكلهم بالانتحار في عام 2002،تركز معظمهم في القاهرة، وتلتها الجيزة، ثم الإسكندرية. وشكك أكثر من أستاذ في الطب النفسي بذلك الرقم. واعتبروه مخففاً. وفي العام 2002، ظهرت دراسة اجتماعية عنوانها «أسباب الانتحار في مصر»، عزت الظاهرة إلى الأسباب الآتية: البطالة بين الشباب، الديون، غلاء المعيشة، عدم قدرة الشباب على الزواج والتجارب العاطفية الفاشلة. ( جريدة الحياة 10/ 4 / 2005 ) هذه هي نتائج تحرير الأسواق.
ويطالب بعض الخبراء بنظرة رعاية من الدولة علي الطبقات المتوسطة بالذات ومحاولة دعمها وعدم الضغط عليها من المنبع وعند الصراف وفتح مجالات الرزق الشريف أمام أولادها من الخريجين العاطلين وإيجاد حلول غير نمطية وغير تقليدية في مدن جديدة وفي استصلاح أراض وفي بناء مساكن سهلة وغير مكلفة وحتي في شق ترع وفتح طرق وتخصصات تصنيعية مطلوبة من عمالة المتعلمين وخريجي الجامعات‏،‏ وليس هذا عيبا بل شرف البناء والتشييد واللقمة الحلال‏.‏ ولأن الطبقات المتوسطة أصبحت طبقات تكافح وتناضل حتي لا تهوي إلي الطبقات الدنيا أو تضطر لتنازلات لو استمرت‏،‏ فلا شك أن المجتمعات ستفقد أغلي وأعز ما يبني ويحافظ علي القيم والعرف والأخلاق ويتحول المجتمع وكيانه إلي مسخ مشوه مكون من رأس كبير ومتضخم من أثرياء كبار يسير علي قدمين متشققين حافيتين بلا جسد وبلا روح ولا مستقبل فالمسخ لا يعيش كثيرا ولا يعمر طويلا‏..‏( الدكتور محمد حسن الحفناوي ـ الأهرام ـ 17 / مارس /2003)
أما العشوائيات فهي أحد نتائج تحرير سوق الإسكان والعقار وقوانين الإيجارات الجديدة وقد قدرت أحد الدراسات عدد سكان المناطق العشوائية في مصر بحوالي 9 ملايين نسمة، أما وزارة الإسكان فقد أكدت أنهم 12 مليون نسمة، موزعون علي 1,109 مناطق في 20 محافظة، والدكتور محمد سامح وكيل لجنة الإسكان بمجلس الشورى يري أن عددهم لا يقل عن 18 مليون نسمة، بخلاف سكان أهل الريف المصري.
وقدرت احدي دراسات معهد التخطيط القومي، بالتعاون مع إحدى هيئات المعونة الألمانية، عدد سكان العشوائية في المحافظات، بنحو 17.7 مليون نسمة منها 3.5 مليون يعيشون في محافظة القاهرة فقط. وأضافت الدراسة أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين الفقر والأمراض، فهناك 47% من المصريين مصابون بأمراض سوء التغذية بخلاف أمراض الضغط النفسى والعصبى، وارتفاع ضغط الدم والشعور بالحرمان، وإصابة 30% من الأطفال بالتيفود، بسبب تلوث مياه الشرب، كذلك وجود حوالى 7 ملايين معوق وإصابة 21% من النساء الحوامل بالأنيميا، و31.2% بفقر الدم، لنصل في النهاية إلي أن 70% من حالات العدوي، منها 13.5% مصابون بفيروس " سي" لتصل نسبة العدوي والإصابة سنوياً إلي 2% ( جريدة الوفد ـ 20 أكتوبر 2004 ).
هذه لمحة سريعة على نتائج تحرير السوق في مصر كأسلوب للتنمية ، وكيف تم رفع يد الدولة عن بعض القطاعات وتركها للقطاع الخاص الباحث عن الربحية دون النظر للاعتبارات الاجتماعية . لذلك نرفض هذا الأسلوب ونرى أنه لا يناسبنا كطريق للتنمية لذلك نقول لا لمبارك رائد تحرير الأسواق وإطلاق يد القطاع الخاص ، لا لمبارك وسلطة رأس المال التابع الفاسدة التي رفعت الرقابة وأطلقت الفوضى تلتهم ملايين المصريين وتدفع بهم إلى بئر الفقر والبطالة والمرض والعشوائيات والعنوسة والجريمة . وسوف أحاول في الأجزاء التالية إلقاء الضوء على أداء مختلف قطاعات الاقتصاد المصري لنعرف ماذا فعلت بنا سياسات تحرير السوق وتوصيات صندوق النقد والبنك الدولي.

            إلهامي الميرغني
            5/6/2005
            elhmy55@yahoo.com

[1] - الدكتور جلال أمين ـ العولمة والتنمية العربية من حملة نابليون إلى جولة الأوروجواي 1798- 1998 ـ مركز دراسات الوحدة العربية ـ بيروت ـ الطبعة الأولي ـ سبتمبر 1999 ـ صفحة 145.
[2] - جون جريي – الفجر الكاذب – أوهام الرأسمالية العالمية – ترجمة أحمد فؤاد بلبع – مكتبة الشروق - القاهرة – الطبعة الأولي – 2000 – صفحة 13.
[3] - جون جريي – مرجع سابق – صفحة 154.
[4] - جون جريي – مرجع سابق – صفحة 180.
[5] - بلغ عدد سكان بريطانيا 56.3 مليون نسمة عام 1980 وارتفع إلى 59.1 مليون نسمة عام 1997- البنك الدولي – مؤشرات التنمية في العالم 2000 – الناشر ميريك مركز معلومات قراء الشرق الأوسط .
[6] - جون جريي ـ مصدر سابق ـ صفحة 205.
[7] - وزارة التجارة الخارجية – النشرة الاقتصادية الشهرية – مايو 2003 – صفحة ( 1 )
[8] - مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام ـ تقرير الاتجاهات الاقتصادية الاستراتيجية _ 2002 – القاهرة – يناير 2003 ـ صفحة ( 244 ) .
[9] - عبد الخالق فاروق – البطالة بين الحلول الجزئية والمخاطر المحتملة – مركز المحروسة للنشر والخدمات الصحفية والمعلومات – 2004 – صفحة ( 104 ).
[10] - عبد الفتاح الجبالي - الركود والنمو مشكلات في الاقتصاد المصري المعاصر - مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام – القاهرة 2004 .
[11] ـ محمد جمال عرفه ـ موقع المركز العربى للمصادر والمعلومات حول العنف ضد المرأة ـ 28 أغسطس 2002 .وكذلك عمرو سليمان ـ أرقام العنوسة لا تكذب ولا تتجمل ـ موقع مصريات دوت أورج ـ 28 يونيو 2005
[12] ـ د. خالد منتصر ـ إكتئاب وطن.... وباء الإكتئاب ـ هل مصر تعيش حالة إكتئاب جماعى؟ مصر فى عيادة الطبيب النفسى ـ موقع إيلاف على الإنترنت ـ الخميس 18 سبتمبر 2003.