عدنان كيف سافرت في جسدي ، وأنت لا تملك الأقدام ؟ عدنان يا ذاك الألم الذي لن تجففه الأيام ..
كيف سافرت في صدري ، وزرعت ملح ثراك فوق عمري ؟ وعانقت شرايني فامتزجت قطرات روحك بعرق إنتهائي وتسربت أريج قهر من مسمات جلدي .. فعدت كي تزرع الشموخ ، وتأجج نار وجدي ...
عدنان البائس ، هو ( عدنان العصفور ) ، مقعد في الثانية والعشرين من عمره ، ساقاه مبتورتان من أعلى الفخذ ، لم يكن وسيم المحيا ،و لم يكن أنيقاً ، كان عادياً ، لكنه كان إنساناً بعيداً عن حدود الجسد ، باختصار عدنان هو عدنان العصفور الذي فقد جناحاه وبقي يطير ، وفقد رجلاه وبقي يسير في كل شارع وفي كل أرض وفي كل ضمير ...
عدنان كان شاباً بسيطاً ، يتعلم في الثانوية ، ويعمل في العطل وفي أوقات الفراغ في السوق مع والده تاجر الخضار ، وكان له نغمة خاصة في النداء ، كان الجميع يحب أغانيه ، كان صوته شجياً فيه نغمة من البكاء ...
كان يحب السوق بشكل كبير ، لم يكن يعرف العلاقة بين السوق و بين فلسطين ، لكنه كان يعتقد أن السوق ، له رائحة الوطن ، ذات يوم كان ينادي في السوق وكان السوق مليئاً بالباعة والمتسوقين ، وأصوات الباعة تملأ المكان ، والخضار من كل الأنواع ، وكان عدنان ينادي بأعلى صوته ( سكر يا عنب ، خليلي يا عنب ) وكان جميع التجار يبيعون العنب السلة بعشرة شواقل ، وكانت الخليل آنذاك تأن تحت وطأة الحصار ، فجاءه رجل وزوجته واشترو ثلاث سلات ، وقالو له كم ثمنهم قال عشرة شواقل فاستغربو كثيراً وسألوه لم يا عدنان ، فقال بكل بساطة (مكل الخليل باعوها بعشرة شيكل ، اذا أجت ع العنب بسيطة)
هذا هو عدنان العصفور شاب فلسطيني ، له ثورته الحادة ببساطه ورقه ، وله عمقه الأصيل ، لم يولد مقعداً لكنهم شائوا له ذلك ، حين كان إبن السابعة عشرة من عمره ، في طريق عودته من المدرسة ، كان مبتهجاً وأحلام الطفولة تجول بين حدقتيه ، وبجانبه إثنان من أصدقائه إن كنت ما زلت أذكرهما محمد إبن سعيد الفران ، وعادل إبن الشيخ عايد ، حين إستوقف عدنان بضع من رجال الشرطة ، وبدأو يستجوبونه دون مبرر ، لسبب تافه كمثلهم أن شكله لم يعجبهم ، فهرب صديقاه إلى داخل القرية وهم يصرخون ( صادوا عدنان العصفور ، صادو العصفور ) ...
بقي عدنان مع رجال الشرطة وأدركو تهمته الأمنية الخطير وهي كونه عربي ، فأجبروه على خلع ملابسه ، كي يثبت عريه من انتماءه لأي تهمه ، ثم إنهالو عليه شتائم مصحوبة بضرب وركل وتركوه في منتصف الشارع البعيد عن القرية ينزف دماً ثم ركبو سيارتهم وداسو عليه ، وأصيبت رجلاه بنزيف حاد حيث بقى ممداً في منتصف الشارع ، فهرعت كل القرية ، حملوه إلى المستشفى ، وهناك كان لا بد من بتر رجلاه ...
عاد عدنان إلى القرية ، رافعاً رأساً ، بكل شموخ وفخر، لم يكن يشعر بالعار أو بالخجل ، كان يؤمن أنه سيسير إلى فلسطين ولو إقتضى الأمر زحفاً أو سباحة ...
عاد عدنان ، ولم يخسر سوى رجلاه ، فقد كان له محبة خاصة لدى الجميع وكان أصدقاءه يجتمعون عنده في المساء ، ويتسامرون ويسلونه ، وكان دوماً يحدثهم ، عن فلسطين ، وعن القضية ، وعن الوطن ، يحدثهم كإبن السبعين ، وكان الكل يصغي اليه ، ويستمتع بكلماته ...
لم يكن ذاك السياسي المتمرس ، ولم يكن ذاك المثقف الذي يحفظ التاريخ عن ظهر قلب لكنه وكما قال ، لكن وبكل بساطة كان يبحث عن وطن ، كانت كلماته بسيطة ، لكنها تجسد أي مسحوق ما زال متمسكاً ببقايا وطن ، كان مناضلاً صغيراً لا يعرف سوى أن هناك حق يجب أن يسترد ...
أخذوه ذات يوم إلى ( لجنة طبية ) كي تقدر ثمن الاصابة ويعوضوه من التأمين الوطني ويعطوه مساعد كي يساعده في التنقل ، دخل إلى مسؤول اللجنة ، وعاينه ، سأله عدنان دون مبالاة ، ما تقييمك ؟ قال : إنها أصابة بالغة وتستحق تعويضاً كبير ... فقال عدنان وبكل بساطة دون الالتفات إليه ، حسناً إذاً أعيدو لنا بعضاً من تراب القدس ، جن جنون المفتش نظره إليه بشفقة قال له : ( حكم القوي يا عدنان ، اعذرني ) أدار وجهه ومضى وكان بادياً الارتباك ومن بعيد رآه عدنان يخرج منديلاً ويمسح عيناه ...
ذات يوم دخل عليه رجلان ، كان يبدو عليهما الثراء ، قالا لأباه ، انهما من التأمين الوطني ، ودخلا إلى غرفة عدنان وأقفلا الباب ثم قالا :
- عدنان نحن سنفتح أبواب الحياة أمامك من جديد ، نحن سنشتري لك كرسياً الكتروني وستعود وتولد من جديد ، ستعود إلى الحياة ، وسنعطيك بيتاً وأرضاً وكل ما تحتاج ...
- ومن قال لكما أني لست حياً ؟
- المقصود أنك ستخرج إلى الناس ، إلى السوق الذي تحبه ، تتجول براحتك بين الشوارع ، غير متكئ على أي شخص ...
- ولما تفعلان ذلك ؟
- نحن لا نريد منك الكثير ، فقط حين تجلس مع اصدقائك أو حين تجلس مع بعض الضيوف ، أخبرنا بما تسمع ، ماذا يقول فلان ، ما هو رأي فلان ، وفقط ...
- نظر إليهما عدنان ، كانا يفركان يداً بيد كمن ينتظر نصراً سوف يأتي ، ثم صرخ عدنان دون تردد (انقلعو عن وجهي)
صدما ذهلا ثم قال احدهم بنبرة حادة جداً :
(حسناً عدنان نقسم ، نقسم أنك سوف تندم ، عدنان فلتعلم أنك سوف تبكي ندماً أمام كل الناس على نفسك في السوق العتيقة ... )
وبقي عدنان العصفور صلباً ، لم ينحني ، بكل بساطته ، بكل سذاجته ـ عدنان إبن الطبقة المسحوقة والمهمشة ، لم يكن عبقرياً ، ولم يتجول في أحياء باريس ، ولم يسهر في أي حانة أوروبية ، ولا يعرف الفرق بين الهمبورغر و التوست أو بين الكابتشينو والنسكافيه ، ولم يكن ذاك الشخص صاحب الأذن الموسيقية فهو لا يهوى إلا يطربه إلا أصوات الباعة ، ولا يحن إلا صوت الجرار ، لم يكن ذاك " الستايل " أو ذاك " الموديرن " لكنه كان يعرف أن فلسطين تبتدأ من النهر وتنتهي في البحر ...
تسربت القصة بشكل غريب إلى القرية ، وأصبح الكل يزور عدنان ، والكل يحب عدنان ، عدنان الشاب الذي لا يستطيع الوقوف على قدميه ، استطاع ان يقف وأن يسير في قلوب الناس التي عشقته وأحبته ببرائته ، وللملاك الذي يقف عند عينيه ، لقلبه الطيب ، ولكلماته البسيطة التي تحمل في طياتها ملامح الجبابرة ...
كان متفائلاً ، إلى حد كبير ، قرر ألا ينتظر ممن سحق قدماه أن يعيدهما ، فلن يعيد قدماه سوى الباري ، لكنه قرر أن يتحداهم كي يثبت أنه ليس بحاجة لهم ، حتى خطرت برأسه فكرة حينما كان يشاهد مسلسل نهاية رجل شجاع ...
فقرر أن يصنع عربة يسير عليها ويتنقل فأتى بالخشب وساعده بعض الاصدقاء وصمم الاطارات والعربة ، كما صممها ( مفيد الوحش ) لكنه لم يكن يعرف أن نهاية مفيد هي ذاتها نهاية عدنان ...
خرج في جولته الأولى بعربته ، برأس شامخ ، وبسواعد قوية ، وبجبين مرفوع ، كل الناس كانت تصفق ، وكل الناس تبتسم ، بعينين دامعتين وشفقة ولهفة لا يمكن اخفائهم ، وتصيح ( عدنان لن يبكي في السوق العتيقة ، عدنان لن يبكي في السوق العتيقة ... )
عدنان الشاب البائس ، الذي صنع الحياة بكل هدوء وبساطة ، أصبح رمزا للقرية ، رمزاً للثورة ، قُدماً دون قدمان ، ومرفأ دون عنوان ... عدنان الذي قرر أن يسافر إلى فلسطين ولو دون أقدام ، عدنان الذي تحدى وتصدى للعمالة بكل روعة وبكل أصالة ...
عدنان الذي أثبت أنه دون رجلين صامد ،وكل أنظمة العالم هي العاجزة ، فإن كان هو يمشي على عربة ، فالزعماء ملتصقة بعروش لا تتحرك ...
عدنان الانسان الانسان ، الذي لم يبكي يوماً ، ولم يسجد إلى للخالق ، عدنان الذي رفض أن يعوضوه رجليه بالمال ، عدنان الذي أبكى كل القرية ، وأجبرهم أن يحبوه ... عدنان ... عدنان الذي لن يبكي في السوق العتيقة ...
عدنان لم يكن أي شيء لكنه كان عدنان العصفور الذي طار في الأفق دون قيود ، وعاش في وطن لا يعرف الحدود ، عدنان العصفور ، فتى في الثانية والعشرين من العمر ، ليس له قدمان ، ولا يبكي ليس لأن عيناه جفت ، بل لأنه يؤمن أن دموعه لن تنزل إلا حين يفقد فلسطين ...
عدنان الفلسطيني الذي بتر الغدد الدمعية من جسده ، منذ أن قال له الأعداء ( نقسم أنك ستبكي في السوق ) عدنان نبرة الفلسطيني البسيط الذي لا يعرف أكثر من حدود الوطن ، ولا يفهم أنصاف الحلول ، ولا يعرف المساومة ، يفهم أن هناك حق له ويريده ...
هو عدنان العصفور ، عصفور حر في سما فلسطين ، هو ذاك البائس الهزيل الذي ارتمى فوق مقعده ، وأبى أن يظهر عجزه ، خرج ذات مساء إلى السوق ، كان هناك علاقة عشق غريبة بين عدنان والسوق ، بقي هناك فوق عربته ، جالساً لوحده يتأمل الغروب فوق تلال تغطي أنين الشمس المتبعة ...
وفي ساعات الصباح ، أفاقت القرية على صوت المؤذن يؤذن صلاة الفجر ، وامتزج صوت الآذان بأصوات بكاء مرير وأصوات تمزق تبكي وتصرخ ... : " عدنان استشهد في السوق العتيقة ، عدنان استشهد في السوق العتيقة ... "
فادي عاصلة ـ عرابة
11.09.2004