حجر ... علم
بقلم : د . فاروق مواسي

كانت المستشارة الحسناء تلقي أمام طلابي سؤالاً فرضيًا :
- تصوروا أنفسكم بعد عشر سنين ، فماذا تتخيلون عن حياتكم ؟
كان طالب يسرح بخياله فيثير ضحكات الطالبات بَعَبثه وسخريته .
لكني كنت أمعن النظر في المستشارة الحسناء.....
تشبه من ؟ من ؟
اَه . صديقتي المقدسية .
أما أنا فبعد عشر سنين لن تكون رجولتي أمامها مقنعة ، ربما ستهزأ المقدسية بنظرة احتقار سريعة ، وأنا أغالب نفسي ، وهيهات .
عندها قد أفكر بقطع ... ولن أبالي . احتضن المقدسية . تغني لي بصوتها الرخيم أغنية فيروزية . تحتضني . نتغدى أكلة سمك . تقوم الأمور معافاة ، وكان الله بالسر عليمًا.
تأخذني المقدسية – واسمها ثناء – بسيارتها . نركب . نتجول قرب البريد شارعًا شارعاَ . تقود وأنا أتابع عينيها الملونتين الواسعتين . كلما اقتربتُ من موجة ضيعّتني موجة أكبر .
وقفنا أمام مكتب " العودة" . صعدنا الدرج بنَفَس لاهث ... الله يعين الموظفين !
رياضة تنحيف . يا الله !
كان رضوان أبو عياش والمتوكل طه وشخص غريب لا أعرفه يتحلقون حول ركوة القهوة .
الشخص الغريب أحرجني ، إذ عرفني أصلا وفصلاً . ولكنه أبى أن يُعَرَّف نفسه ، ولم يتبرع رضوان ولا المتوكل .
قال رضوان : غدًا ستكون ذكرى الانتفاضة المباركة - التي بسببها قامت دولتنا الفتية.
انتبهت إلى العلم الصغير الملون بألوانه الأربعة على الطاولة . كان يراقبنا بحنان وشكر . (مرحبًا يا علم !)
علينا أن نكتب كيف كانت القدس تغلي كالمرجل . الإطارات مشتعلة . الحجارة من سجّيل . الزجاجات حارقة . لم تكن انتفاضة ، " كانت ثورة " .
وكرر : " كانت ثورة " .
قال الشخص الذي لا أعرفه ، وكانت نظرته نحيلة شاحبة مبهمة كأنها اَتية من ضباب بعيد :
" كانت القيادة الوطنية الموحدة تنظيمًا دقيقًا استقطب الجماهير . لا تنسوا كانت هناك ضحايا . " تحسس جبينه وكأنه يستذكر أمرًا : " قتلوا أخي ابن الخامسة . كانت لعبته بيده . احتضنها وأغفى " .
قال المتوكل وقد ظهرت عليه مساحة من الغضب المشوب بحرارة الانتصار :
" أغلقوا المدراس . اعتقلوا : قتلوا . دفنوا الأحياء . ضربوا بأنواع العصي . داهموا . جرحوا . قطعوا الأشجار . كان الله معنا . هز رأسه :
كان الله معنا حتى انتصرنا . "
قال الشخص الذي لا أعرفه :
" لن أنسى منظر الجندي الذي كان كالفأر في المصيدة . كان بإمكاننا قتله . يهرب من عزرائيل فيلقاه قابض الأرواح . ألقى سلاحه وهو يرتجف . بال في سراويله ثم رفع يديه للشباب بإشارة " في ...،" وصاح : " تعيش فلسطين " .
قال رضوان بعد أن أشعل سيجارة وسحب نفسًا طويلاً :
" ها هم يتجولون سياحًا معززين مكرمين " .
قالت صديقتي : " هم يبحثون كثيرًا عن التين البلدي وعن الثياب المطرزة ، وعن الأدوات النحاسية وعن الخرز الملون " .
قال لي رضوان : أما أنت فبالإضافة إلى قصيدتك الوطنية نريد منك قصيدة أخرى غزلية . فالمرأة هي نعيم الحياة الذي أنعم الله به علينا ، ومن أحبها أحب الكون . أتسمع " ؟
نظرتُ إلى سيدة الحضور . كان ما تحت إبطها مكشوفًا . استرقت النظر الى خالٍ مختبئٍ في ناحية أبعد . عندها احببت أن أنفرد بها لأقول لها سرًا .
رصدت الجماعة شرودي . كان خيالي يعربد ولا يني . يرضع شهدًا خالصًا ، والقدس يترامى إليها نور بعد نور . وعيون الصبايا فيها صارت أنطق وأشوق .
قرع الجرس . كانت المستشارة الحسناء –التي تشبه صديقتي ثناء – تجمع الأوراق . ويبدو أنها طرحت سؤالاً إضافيًا على طلابي لاحظت أنني ساهمٌ ، فاعتَذَرت لأنها أزعَجَتني . وتركت – بعد مصافحتها – في يدي طراوة ناعمة بقي أثرها بعض الوقت .
---
توجهت من باقة نحو طولكرم لشراء بعض الكتب من مكتبة الشحروري . على مطالع شويكة كانت طريق مغمورة بالحجارة الكبيرة . وإطارات مشتعلة . دخان كثيف . مجنزرات الجيش المصفحة تجوب ، وأطفال يتجمعون في ناحية أخرى بعضهم يحمل علمًا ، وبعضهم يحمل حجرًا .

د . فاروق مواسي
تاريخ النشر : 29.12.2004