في القصـــة والروايـــة

ثلاث تسميات والمؤدى واحد
عن كتاب حنا أبو حنا – ظل الغيمة
بقلم : د . فاروق مواسي

      "ظل الغيمة" كتاب حنا أبو حنا أو الكتاب عنه، لون أدبي يبهرنا بفرادته، وكثر فائدته، اعتبره الكاتب سيرة، لكني وجدته سيرة – موسوعية Autobio-Pedia وإذا لم ترق لكم التسمية فلتكن سيرة وثيقية Document –Autobio ، أو حتى سيرة روائية (سيرواية).
صحيح أنها سيرة في كل، لكننا نعرف أنها ليست مجرد تسجيل واعترافات. إن فيها تصوير المجتمع بإبداعية ظاهرة، وفيها ما يحوم حول الرواية التاريخية، فيها رواية تصور حياة أسرة بشيء من التأني، وفيها وصف للحياة في شريحة زمنية – هي كلها قبيل تقسيم فلسطين. فيها عنصر الخيال مشفوعًا بتحليقات شاعرية، وفيها تحقيقات واقعية صرفة، وفكاهات، وأساطير معجونة ومطهرة بحرارة الصدق.
      أما التسمية الأولى سيرة – موسوعية فقد ارتأيتها بسبب قدرة التجميع الهائلة المدهشة التي يطلع علينا بها حنا يمتحها من بئر الذاكرة عادات، تقاليد، أمثالا، فكاهات، استخدامات عامية، أغاني، فولكلورًا فلسطينيًا، تراه يقف طويلاً على فصل الحمامة باستطرادات جاحظية (ص37) أو يستطلع عالم الجن (32, 104) أو المندل (216)، ويرافقك إلى عالم النساء (102 , 137) أو إلى لعبة الصينية (240).
      في السيرة الموسوعية هنا نجد النفس الروائي كالحلم (103) والوقوف أمام المرآة (93-94)، ونزلة البير (106) أو سلمى والمغربي (ص118)..إلخ.
      ونجد الشعر أرق ما يروق وما يحلو، فاقرأوا الوصف- "ذاكرة للعين وذاكرة للفم وذاكرة للأنف وأخرى للأذن (ص19) ، أو تعالوا بنا إلى هذه الفقرة من وصف للمياء والقبلة الأولى:
      " كانت مكتنزة الجسم، بياضها كالحليب الذي تعشقه موجة شقراء من العسل، في صوتها غنج يحتضنك فترافقه إلى حيث يشاء. وشعرها الخروبي أطفال سمر يلهون بالركض على شواطئ الجبين والخدين. ولم ير ذلك قبل زلزال تلك القبلة- حين احضتنته قبل يومين وقبلته على خديه لم يجفل عصفور ولم تتحرك حبة رمل"..
(ص227 ونماذج أخرى تجدها مثلا في 233-234،- 194- 195،ص120…)
      ونجد كذلك في هذه السيرة الموسوعية الكثير من القصص القصيرة مما تكتمل بها شروط القصة الفنية، كأن يتحدث عن البنتين اللتين تبحثان في جيبه عن قصيدة والتر (ص224) أو قصة مهيوب الذي استخدم الفأر في السجن لينقل السجائر (ص223)، أو قصة المعلم سعد الذي أحب بنت العنب، وكيف أن زوجته قالت للطالب:
      " يلعن أبوك وأبو معلمتك" (ص181) أو قصة الطفل الذي أراد أن يحلق فوجد الحلاق يستعمل البصاق بدلا من الصابون (79)، أو قصة المظاهر التي تنتهي بـ "ولم يبق من جند الله إلا ثلاثة" (ص190)، كما نجد في هذه السيرة الموسوعية النفس المسرحي من مسرحية (مونودراما) أو سكتشات كفصل الهرمزان (ص236) أو لعبة الصينية (240)، أو المندل (216) أو التغييث (108).
      ولا نعدم روح المقالة التي تكتمل رسالتها، أو فكرتها المحورية (ص37)، أو المقالة الوصفية عن بحيرة طبريا (ص200).
      أما التسمية سيرة – وثيقية فأعمد إليها بسبب الغناء الذي نراه في الحديث عن عالم القرية والمدينة عبر تنقلات الكاتب الكثيرة في ربوع فلسطين بحكم ضرورة عمل الأب .. إنه يتوقف طويلا على التراث الفلسطيني- كما ذكرنا – ولا ينسى حتى لف الدخان (ص77) أو بطح الكلاب (88). وصف الجرار (103) أو زواج الغصب (137) أو النذور والأولياء (12،115).. وغيرها كثير من الجزئيات التي لا أزال أذكرها – بل أعادني إلى طفولتي إليها – ولا ينسى أن يدون لنا الأحاجي اللغوية، النكات، الفكاهات، الإيحاءات، المواقف الفلسفية والفكرية التي نستطيع أن نقتطف منها ونحفظها أو نعلقها باعتبارها مقولات مأثورة.
      إنه يسوق آراءه الأدبية واطلاعه الثقافي العام عبر استطرادات، قلنا إنها جاحظية ،
        بيد أنها أسلوبية تراثية لم تقتصر على الجاحظ فقط. ينقلك المؤلف إلى أوضاع فلسطين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية- إلى مدنها وقراها ، فلا يغفل مظاهرة الناصرة أو القفشة (ص70) أو التبرع لجماعة الحاج أمين (ص76) أو التهديدات التي كان يرسلها بعض الثوار أو المتشبهين بهم (ص76)… الخ.
        من هنا أرى ضرورة أن يكون كشاف للكتاب - لكونه وثيقة فلسطينية لم يدون على غرارها ونمطها في كتاباتنا الأدبية المكثفة، كشاف بالأسماء وبالكلمات العامية، بالعادات والتقاليد، بالطبيعة، بالأمثال وبالموضوعات.. فإذا أراد شخص أن يتعرف إلى " المندل" مثلا فتح ص216، دون أن يرهق نفسه بالبحث، فثمة تفاصيل دقيقة وأمينة .. الخ.
        أما التسمية الثالثة " سيرواية"، فذلك لأنها سيرة تنضبط وفق مقاييس الرواية رغم ما فيها من إضافات قد تعتبر زوائد. يقول د. فهد أبو خضرة مظَهّرًا الكتاب أن المؤلف يروي سيرته، وهو بذلك يعتبرها نوعًا من الرواية - " وقد اختار المؤلف أن يروي سيرته هذه بضمير الغائب متحدثًا فيها عن الفتى يحيى منذ أن رأى النور، وقد ساعده هذا الاختيار على انتقاء التفاصيل التي يراها أكثر أهمية" .
        وقد نوقشت بعض " روايات " إميل حبيبي فاعتبر البعض أن هذه الزوائد، والإضافات والحواشي إغناء للعمل الأدبي وإثراء فيه كما يذهب د. محمود غنايم في كثير من مقالاته، بينما اعتبرتها شخصيًا إنقاصًا من المستوى الروائي الفني.. ومهما اختلفنا فإننا نتفق على كونها نصًا جميلا معبرًا .... فلا غضاضة!
        إن الكاتب في سيروايته ينقلنا من ولادة يحيى "يوحنا" /حنا إلى تلمذته وشيطنته- إلى عالم خياله، وحبه الأول للغته، وحبه للمرأة ..وصولا إلى القدس ليتعلم في الكلية العربية، إنها رحلة عمر نقلها بأمانة عجيبة، فتصور كيف يعترف أحيانا بالقصور:
"عليه صورة لم تعد واضحة في الذاكرة" (ص24) يقول ذلك رغم هذا الإبداع وهذه المشهدية المذهلة.
        ومما يؤكد النفس الروائي أيضا استعمالاته: " قال الراوي " ، " قال الشارح " وقوله " لماذا تتداعى الخواطر للفكر في سبل ملتوية … " (ص64).
أما عنوان الكاتب " ظل الغيمة "فقد عدت إلى الكتاب فوجدت الغيمة واردة فيما يلي:
1. "مثل غيمة تنقلت طفولة يحيى في سماء بلده" (18).
2. "واستلقى على فرع قوي في انتظار زوال الغيمة.." (ص131).
3. "تعانقت غيمتان ،فكان برق ورعد أصداؤه على السفوح والأودية أجفلت
      شفتاها …انحسر شعرها وارتفع شعرها" (ص226).
4. "لماذا يريد أبوه أن يبدد غيمة الحلم التي يحوم عليها في عوالم مختلفة (ص250)
      إن ظل الغيمة-تبعا لذلك يفهم في أكثر من دلالة، فالجملة الأولى مباشرة لا تشفع باتخاذها عنوانًا وكأنها لا تعني إلا التنقل.
        أما القول الثاني ففيه إيحاء بأن كل غيمة لا بد أن تزول، أو كما نقول في أمثالنا العامية "غيمة وزالت" إذن هي الماضي الذي ولّى.
        أما القول الثالث فيشي بحبيبته- الغيمة التي عانقته وظلّ ظلها في خاطره.
        ولكني أرى أن أقوى إيحاء كامن في الجملة الأخيرة، حيث الحلم هو الشاعري والأدب… إنه يحافظ عليها وعلى ظلها الذي يحمل العطاء أو الماء، ولا بدّ أن خراجها سيكون لنا وللأجيال القادمة بعدنا.
        ولم يبق لنا الا رجاء أن يكمل لنا المؤلف هذا البوح الصادق محافظًا على المستوى الفني المرموق، وأن يأخذ يحيى الكتاب بقوة وبخفة ظل مصاحبة ومواكبة.

الرئيسية
سيرة إجمالية
مراسلة
الموقع
صفحة الكاتب