قناعة الشاعر في معنى الشعر
آراء للشعراء عامة ولأبي سلمى خاصة

بقلم : د . فـاروق مواسـي

د . فـاروق مواسـي

عندما يتحدث الشاعر،ينظم،ينقد،أو يعترف في معنى الشعر ومفهومه لديه فانه –عمليًا- يتحدث عن خط مساره أو منطلقه أو رؤيته التي تختزل تجربته.
وقديمًا رأى المتنبي أن الدهر من رواة قصائده :
فسار به من لا يسير مشمرًا وغنى به من لا يغني مغردا
وسيرورة شعره حتمت شعر الحكمة والوصف والأسلوب المتميز الذي وصفه :
"قد ضمن الدر إلا أنه كلما"...
وكان المعري يردد:

               يكررني ليفهمني رجال       كما كررت معنى مستعادا
               كأني في لسان الدهر لفظ       تضمن منه أغراضًا بعادا
وهكذا عبر عن هذه المواءمة بين مقولته وبين شعره الذهني . ونمضي قدمًا إلى شوقي:
               والشعر ما لم يكن ذكرى وعاطفة         أو حكمة فهو تقطيع وأوزان
فجاء شعره غالبًا ضمن هذه الأطر الثلاثة، ولا يكاد يعدوها.
ثم ما لبثت بواكير المدرسة الرومانسية أن قالت على لسان شكري:
ألا يا طائر الفردوس إن الشعر وجدان
ويستطيع الباحث أن يستقصي آراء المازني وأبي شادي والزهاوي والرصافي والشابي، وكلها تتماثل إلى حد بعيد مع ما وصفوه.ونظرة إلى شعراء الواقعية والواقعية الاشتراكة والبرناسية والرمزية،عربًا وغربيين،فسرعان ما يتبين صدق هذه النظرة وانعكاسها في النص.
لننتقل قليلاً إلى الغرب فهذا شكسبير في مسرحيته "ثيمون اليوناني" يصف دور الشاعر وكأنه يصف كتابته وطريقته:
Our peosy is a gum which oozes
From whence t` is nourish`d: the fire i` the flint
Shows not till it be struck; our gentle flame
Provokes itself,and , like current flies                
Each bound it chafes
يقول :
(شعرنا كقطعة الصمغ التي تنـز من حيث تجد غذاءها كالنار الكائنة في الصوان لا تظهر إلا عند القدح.ولهبنا الهادئ يستثير نفسه ويتخطى كالتيار المندفع كل العوائق التي تواجهه).
(المجموعة الكاملة لأعمال شكسبير ،ص086)
هنا نجد إشارة إلى وجود قوة علوية من الإلهام ، وأن الفن بنبع من مصدر داخلي يغذي النفس...
لنمض إلى كولردج إذ يرى الشعر أنه: "أجود الألفاظ في أجود نسق"،
وإلى فروست:     "الشعر أداء لفظي"
وإلى إيليوت:     "تسلية راقية"
وإلى ييتس:     "القصيدة هي نفسي".
وبالطبع نستطيع أن نسجل عشرات الآراء لأبرز الشعراء...وهي في تقديري محور هام للنص، وفي أغلب الحالات.
ولو عدت إلى شعرنا العربي الحديث إلى نزار الذي يرى الشعر رغيفًا ساخنًا من الكلمات الذي نقتسمه معًا،ثوبًا بديعًا من المشاعر والانفعالات التي نلبسها معًا...
لاحظوا كلمة معًا ....، وعندها ستفهمون سر "المباشرة"أو/ التوصيل لديه ،إنه يرقص باللغة ، ويتجول داخل النفس ...يحمل أحيانًـا أجوبة لا أسئلة لها وأحلامًـا لا تفسير لها...
ويستطيع الباحث أن يستقرئ آراء سعيد عقل والبياتي وعبد الصبور والحيدري وحجازي ودنقل ودرويش و... وكلهم كتب عن شعره وعن تجربته، وستجدون هذا التلازم-مرة أخرى إلى حد بعيد-بين المقولة وبين النص.
وبالطبع لا أنكر أن هناك من كانت له مقولتان في أكثر من مرحلة كالعقاد والفيتوري-وقد كتبت عن مقولتين له...المسافة الزمنية بينهما ربع قرن ،ورأيت هذا التعاقب بين كل مقولة ونصها الذي يدور في فلكها- ( انظر مقالتي : " الفيتوري يصف تجربته بين مرحلتين " ، مجلة الجديد 3-4 /1990 ، وأ‘يد نشرها في مجلة الدستور ( لندن ) حزيران 1990 ) .
ولماذا اذهب بعيدًا،فشاعرنا محمود درويش يقول أولاً:
  • قصائدنا بلا لون ولا طعم ولا صوت
  • إذا لم تحمل المصباح من بيت إلى بيت
  • وإن لم يفهم البسطا معانيها
  • فأولى أن نذريها
  • ونخلد نحن للصمت..
  • تلك المرحلة كانت قصائده واضحة المؤدى،فيها نفس شعبي ...لغتها للبسطا – كما يصفهم بحب ودون تعالٍ ...
    ولكن إليك،المقولة الثانية له :
    "القصيدة لا بد لها أن تكون حاملا لمحيط فكرة لا فكرة ،لمجال حالة أو منطقة شعور،لكن هذا كله يحتاج إلى محوّل داخلي...قد يكون منطلق القصيدة فكرة أو حالة أو حدثـًا....قد يكون سؤالا ميتافيزيقيـًا،فالقصيدة أشبه بغيوم لها أشكال يجب أن تتحول إلى صور...والصور تتكون عندما تجد إيقاعها"...،(مشارف،العدد الثالث،ص103).
    بعد أن قرأت هذه المقولة عد إلى قصائد محمود الأخيرة ....فستجد لغة أخرى وغموضًا هو مجال حالة،هو محيط فكرة لا فكرة.
    وثنائية الموقف لدى الشاعر لا ينفي ما نقوله،وإنما يؤكد على ضرورة البحث عن آراء الشاعر نفسه لأنها تضيء العملية الشعرية،وبالطبع فأنا لا أوافق على هذا الفصل التعسفي المتعمد بين الشاعر وآرائه وبين النص ، مدركًا أحيانا بإيجابية استقلال النص عن الشاعر ...وذلك في حالات خاصة ليس هنا مجال ذكرها.

    من هنا أصل إلى شاعرنا أبي سلمى وسأقرأ لكم بيانه/موقفه الهام ،لا اقل من شعره:
    "أي قيمة للشاعر إذا كان لا يجلو شعره صور وطنه الجريح؟
    أي قيمة للشاعر إذا لم يكن فردًا من مجتمعه،يضيء في شعره كفاح شعبه وجهد فلاحيه وعماله ومآسي مشرديه وآمال لاجئيه؟
    أي قيمة للشعر إذا كان الشاعر لا يصف صبايا الحي ،وقد حملن سمرة التربة الفلسطينية وتأود ريحاننا ...وما أغلى الشعر الذي تترقرق به دموع الأيتام ودماء الشهداء وعرق المجاهدين!
    إن الشاعر هو خاطرة شعبه ، ورائد أهله ، والرائد لا يكذب أهله ، ويخوض معهم معركة الحياة ، يهدر دمه قبل أن تُـهدَر كلمته ،يدافع بالكلمة المقاتلة عن الحرية والوطن والشعب...
    من تلال فلسطين نرى الكون ،من سماء فلسطين ونجومها نتعرف إلى نجوم كل السماوات،من عيون أطفالنا المشردين نتطلع إلى عيون أطفال العالم ،ومن دماء شهدائنا تتدفق شلالات الأنهار تنصب في انهار دماء كل شهداء الحرية .وحينما ترتفع يد الإنسان الفلسطيني للدفاع عن حقه إنما تصافح يد كل إنسان في الدنيا يدافع عن الحق ،وفي أغاني قريتنا تتلاقى أغاني وأهازيج كل قرى العالم ،والشعر الفلسطيني من أجل ذلك ... تتجاوب فيه أنغام الشعر القومي والعالمي".
    (أبو سلمى زيتونه فلسطين " إعداد :علي حسين خلف-منشورات الأسوار –عكا،ص32.)

    وماذا يتبين لنا من خلال هذا التوصيف:
    1. أنه أول شاعر عربي طرح رؤية واضحة المعالم لها اتصال وطني إنساني ...ذاكرًا بها العمال والأطفال والشعب...وهذه من التعابير الجديدة في قاموس الشعر العربي.
    2. أنه أول شاعر من الشعراء المحافظين على عمود الشعر نظر إلى هذا المزج بين الأرض والحبيبة:
    "أي قيمة للشعراء إذا كان الشاعر لا يصف صبايا الحي وقد حملن سمرة التربة الفلسطينية وتأود ريحاننا؟"
    3. أنه شاعر يساري يبحث عن سعادة الإنسان - هذا الذي يخوض في الدم والدموع والعرق.
    4.أنه من الشعراء القلائل الذين نظروا بعين الرؤية الشمولية :
    "من تلال فلسطين نرى الكون، من عيون أطفالنا المشردين نتطلع إلى عيون أطفال العالم ".
    5. أنه من الشعراء القلائل الذين ربطوا بين الفرد والمجتمع ،والشاعر هو الفرد الرائد...الذي له وظيفة ودور ،هو المعبَـر إلى الإنسانية ،والمعبّـر عن آلام الجماهير وآمالها ...إنه ابن الحرية والوطن والشعب...هذا الثالوث المقدس.
    ويبقى أن نفتح ديوان أبي سلمى ونصنف قصائده ضمن هذه العناصر الخمسة...وما أيسر ذلك!
    ونلاحظ في بيان الشاعر انه أغفل ذكر المفردة ووظيفتها الشعرية شكلانيًا...
    وكأن هذا الأمر بالنسبة له لا يعدو النهج نهج التراث ،فاقرأ معي هذا الحفاظ على نصاعة اللغة الكلاسيكية:
    سأل الفجر : أين خولة فانهلّت       طيوبٌ ، وتمتمت كيف تسأل ؟
    هي في كل زهرة في بلادي         عبـقٌ في صميمنا  يتغلغل
    ...................
    أقبلت لا الربيعُ أحلى ولا الخمر بأشهى ولا الصباح بأجمل
    إنها أشهبية وتغار الشهب منها         وساكب النور يخجل
    ألف نجم يضيء من خلف عينيها ومن خلف ثغرها ألف منهل
    كيف لا؟بعدما جلتها فلسطين         ضياءً من السماء تـنزّل
    وتهادت ما بين شوق وعطر         وشباب وبين مجد مؤثّل
    ديوان أبي سلمى ، دار العودة ، ص 293

    ولو مضيت في هذه القصيدة التي بدأ بها ديوانه"من فلسطين ريشتي" لرأيت هذه العناصر الخمسة من مضمون القصيدة:

    *     *     *
    يوم كرموا أبا سلمى لحصوله على جائزة اللوتس... قال له محمود درويش :
    "أعطني يدك لأرى البيدر الذي كنت ألعب فيه...فيا أيها الممسك بناصية الذاكرة بيد،وبذارع المستقبل بيد ، أعطني يدك لأهزها فتسّاقط مدنـًا وموانئ وقمحًـا وصيادي أسماك".(ن.م،ص30)
    وفي كلمات درويش تلخيص لهذه العناصر الخمسة التي أشرت إليها:
    فهنا الرؤية الإنسانية الواضحة ،وهنا المزج بين الإنسان والأرض ،وهنا ما تحمله ناصية الذاكرة من الماضي المشبع بالدم والدموع والعرق،وهنا ذراع المستقبل الذي يسمق كالنخلة تسّاقط رطبًا جنيًا،ولكل الكون مدنًـا وقمحـًا... وهنا الفذ أبو سلمى في خدمة الجمع حيث نراه رائدًا ، والرائد لا يكذب أهله( مثل قالته العرب ويعني أن الرائد هو الذي يتقدم القوم لطلب الماء والكلأ لهم ، فإن كذبهم أفسد أمرهم و أمرَ نفسه معهم.
    هذا هو دور الشاعر كما تصوره أبو سلمى،وهذه هي رسالته...

    د . فـاروق مواسـي
    تاريخ النشر : 18-12-2004


    الرئيسية
    سيرة إجمالية
    مراسلة
    الموقع
    صفحة الكاتب