بلوغ البلاغة
بقلم : د . فـاروق مواسـي

د . فـاروق مواسـي

علق ابن دقيق العيد (ت 1302 م) - وهـو قاض وعالم بالأصول – على أقوال سمعها من ابن سبعين (ت 1270) - وهو من زهاد الفلاسفة في الأندلس "جلست مع ابن سبعين من ضحوة إلى قريب الظهر ، وهو يسرد كلامًا تُعقل مفرداته ولا تعقل مركباته".

تذكرت هذة الحكاية بعد أن فرغت من من قراءة مقال الكاتب صبحي شحروري–
"جسر الهوة بين الخطاب البلاغي القديم وعلم النص" ("الاتحاد" في العددين 11/4 و 18/4/1997) . ذلك لأن الكاتب لم يجسر الهوة – في رأيي – بل عمقها، وكل ما فعله- حسب تصوري- أنه جمع واقتبس نصوصًا ومقاطع من "أفق الخطاب النقدي" لصبري حافظ، ومن "دينامية النص" لمحمد مفتاح، ومن "بنية اللغة الشعرية" لجان كوهن، بالإضافة إلى عدد "فصول" – هذة المجلة التي أخذت ألاحظ في أعدادها الأخيرة – هبوطًا عن مألوفها .
كنت أستطيع أن أتفهم مُرسَلة المقال لو كانت بحثًـا علميًا أكاديميًا ، أو كانت تلخيصًا مركزًا فيه حرارة التطبيق وولادة الفكرة المستقلة ، ولكنها بدت شذرات متفرقة، تحاول تارة أن تتناول الاتجاهات الجديدة في بلاغة الخطاب ، وأخرى بنية الشكل البلاغي . تارة تتطرق إلى الاستعارة على وجه الخصوص، وأخرى إلى علم النص. ثم ينهي الكاتب المقال بما يراه لوتمان (دون ذكر المصدر) أن هناك ثلاث دلالات لكلمة (بلاغة) في إطار الشعرية والسيميولوجيا :
أ- دلالة لغوية حيث تهتم ببنية السرد.
ب- علم يدرس الدلالة الشعرية - أي بلاغة الأشكال والصور.
ج- علم يدرس شعرية النص ، ويبحث في العلاقات الداخلية للنصوص ووظائفها الاجتماعية باعتبارها تكوينات سيميولوجية.
" ويرى (فان ديجك) أن البلاغة هي السابقة لتاريخية علم النص، بسبب توجهها العام لوصف النصوص وتحديد وظائفها".
ومرة أخرى ، لا يذكر الكاتب أين قال (ديجك) هذا؟ هل في كتابه " جوانب في علم النص "أم في" النص والسياق " ، ونظرة إلى منحاه فإن ( ديجك ) يتبع طرقًا جديدة في تحليل المستويات الصوتية والتركيبية والدلالية للنص مع الوقوف على ما يعتريه من إضافة وحذف واستبدال . إنه يهتم باللسانيات والنحو، ويرى تفكيك بنية اللغة أولاً ليصل إلى نظام الحكي.
إنني أرى في مثل مقالة الكاتب شحروري تعقيدًا قد يسوقنا شططًا وإرباكًا ، فلا يُؤدى المعنى باسترسال ومنطقية وتوثيق ، فهل مثل هذا التنظير المجمّع يسوق القارىء إلى استيعاء واستيعاب. ولو جئت أخاطب طلابنا في الدراسات العليا السيميولوجية كإشارات، وكأنها مستقلة عن الدلالة اللغوية، أو أخاطبهم عن الأشكال والصور ، وكأنها مستقلة عن السيميولوجيا لنفّرتهم عن النص وتذوقه...
واقرأوا معي ما يراه كاتب آخر في كتابه "الأسلوبية ونظرية النص" :
" إن الإجابة عن أسئلة النص ظلت موضع اهتمام البلاغة ثم الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع وفق اللغة ، وأخيرًا علم اللسان ، وقد أظهر البحث في العلاقات الداخلية المتشابكة للنص تلك الحاجة الماسة إلى تناول اللغة المكتوبة - عامة – ، والأدبية خاصة تناولاً ألسنيـًا مما أدى إلى وجود مصطلح جديد هو " علم اللغة الأدبي".
واسألوا معي: هل هناك أحد منا حسب هذه المقولة يحسن " علم اللغة الأدبي" ، ولماذا هذه العلوم فقط ؟ أو لماذا هي كلها معًا؟
إننا بحاجة إلى نص نتدبره ، وعندها سيتبين أن الحديث عن المحور التركيبي والمحور الاستبدالي في اللغة هو من النافلة ، حيث لا يلائم هذا واقعنا الفكري والأدبي ، وذلك لأنه لا يمكننا رفض " مقتضى الحال " إذا اتبعنا جماليات التلقي ونظريات القراءة المعاصرة دون اغفال للمنهج التاريخي في تبنينا المنهج الوصفي . (أتراني أهوم أنا كذلك ؟)

إن الأصل في القراءة أن نصل إلى المتلقي مهما تعددت القراءات ، أن نكون في دائرة الإشعاع بين المرسل والمتلقي - إلا إذا ادعينا الفهم ، وتظاهرنا به نافجين وخارجين عن مقاسنا .
روى أبو حيان التوحيدي حكاية وقعت لأعرابي في مجلس الأخفش ، حيث كان هذا يحضر المجلس أو المناظره ، " فحار وأعجب، وأطرق ووسوس، فقال له الأخفش :
" ما تسمع يا اخا العرب ؟ "
قال : "أراكم تتكلمون بكلامنا في كلامنا بما ليس من كلامنا"
فهل يتفضل أصحاب البلاغة الجديدة أن يتحدثوا بلغة العرب في لغة العرب بما هو من لغة العرب .
ورحم الله من قال : خير الكلام ما لم يُحتج معه إلى كلام.


د . فـاروق مواسـي
تاريخ النشر : 24.09.2004

الرئيسية
سيرة إجمالية
مراسلة
الموقع
صفحة الكاتب