على اليرموك
بقلم : د . فاروق مواسي

د . فاروق مواسي

في يفاعتي حفظت قصيدة أخذت بمجامع قلبي، اهتديت إليها وأنا اتصفح كتب المطالعة التي كان والدي - رحمه الله - يزودني بها. وكان مطلع القصيدة :

على اليرموكِ قِفْ واقرا السلاما        وكلًّمْـــهُ إذا فهم الكلاما

كنت أترنّم بالقصيدة وأوقّعها بتنغيم يتفق مع مزاجي، ولم أكن أعرف من هو الشاعر، كما أن فعل الزمن طوال عقود إنساني أين قرأتها، ومن الذي استعار هذا الكتاب؟!
هربَتْ أو تسَّربتْ بعض الأبيات من ذاكرتي. وما كان بوسعي إلا أن أؤلف كما يحلو لي، بما يتفق مع البحر الوافر.
ولكًم بحثتُ في المصادر، وسألتُ أهل الأدب، فما اهتديتُ ولا عثرتُ على طائل. وافتقدت القصيدة حقًا يوم أن وقفتُ على ضفاف اليرموك (قرب الحمّة السورية) قبل بضع سنين، وأخذتُ أردد على مسامع الماء بعض ما أحفظ، وأتغّنى بإيقاع أحسبه جميلاً، وكان الماء القليل ( ينساب في الوادي كأفعى)- كحال الوصف في القصيدة .

***

واتفق أن وجدت ضالتي - بينما كنت أتصفح كتب القراءة والمطالعة التي عُمل بها في زمن الانتداب البريطاني. ومن العجيب أنني، وقبل أن أفتح كتاب أنيس المقدسي- الدروس الحديثة في القراءة والحفظ والإملاء- (الطبعة الثامنة، بيروت 1937)- تذكّرت، بل أيقنت، أن ((على اليرموك)) ستكون هنا، بل لجأتُ إلى نهايات الكتاب (ص 161) لأنني واثق أنها ستكون هناك.
إن ذاكرة الصغار مدهشة، ولكن ما الذي طمأنني على ذلك؟
ربما يكون شكل الكتاب الخارجي،وربما شكل الحروف أيامها، ولون الورق أو... لا أدري.
لن أحدثكم عن فرحتي، فلعل في وصفي لذاك مغالاة قد لا تهمّكم. فالأهم أنني أقول هنا ، وباليونانية كذلك ((يوريكا))!.

إليكم قصيدتي الضالة- ضالتي- أرجو أن تجدوا بها " بعض ما أجد"- (بالمعنيين).

.
على اليرموك

على اليرموك قف واقرا   السلاما
وقل  يا نهر هل  هاجتك   ذكرى
قطعت  سهول  حوران   وشوقي
وسار بنا  القطار  على   رحابٍ
فلمّا   أن   أطلَّ  عليك    ظهرًا
جرى  ينساب  في الوادي كأفعى
هبوطًا   نحو    غورٍ    أشعلته
تحيط   به     وهاد     كالحات
وماء   النهر    يرمقنا    بلطف
فينسينا       لوافحه      ويحيي
بنو الصحراء هل يصغون أم هم
ألا    هبّوا    أحدثكم     بمجدٍ
إلى اليرموك  إن  تبغوا المعالي
هنا  الإسلام  ضاء  له   حسام
وهبَّ  أبو  عبيدة   مثل   ليثٍ
فأصلى الرّوم حربًا أي   حربٍ
وسار على روابي الشام  يخطو
بربك   أيها    النهر    المفدّى
أيشرق نجمهم   من  بعد   ذلّ
أرى في الأفق نورًا من   بعيد
وأسمع في ربوع الشرق صوتًا
وأيقظ في العراق صدى عظيمًا
أجبني، هل يفيق الشرق حقًا ؟
يحطم    كل    تقليد     قديم
أسوريا   أرومُ   لك   المعالي
ولكن   أين   هذا   من   بلاد

وكلمه    إذا     فهم     الكلاما
شجت   قلبي  وهيجت   الغراما
إليك   يثير   في  نفسي  ضراما
تفيض    بخيرها  عامًا    فعاما
وفي  واديك   سيلُ  الماء   شاما
يروم  الورد  كي  يطفي  الأواما
حميا الصيف فاضطرم اضطراما
تصد   الريح   إن   ترُمِ انهزاما
من   الوادي    ويبتسم   ابتساما
بذكرى    المجد   قلبًا   مستهاما
على  الفلوات  قد   باتوا   نياما؟
لكم   غشي  الجزيرة    والشآما
وفوق   ضفافه  فاجثوا   احتراما
غداة    استلَّ    خالده   الحساما
يقود     وراءه  الموت   الزؤاما
وفلَّ     بعزمه    الجيش  اللُّهاما
تخرُّ     له   الربا   هامًا  فهاما
بربك   قل  ولا  تخش   الملاما
ويعلو  بعد  أن  لحق   الرغاما؟
يلوح ، فهل ترى يجلو الظلاما ؟
أثار  سماعُهُ     البلد   الحراما
وحرك  في    قبورهم   الرماما
وينهضُ  بعد  أن  أغفى  وناما؟
فيحيا     أهله    فيه     كراما
وعيشًا     مستقلاً     وانتظاما،
أبت   إلا   انشقاقًا   وانقساما؟!


القراءة :

أما شاعر القصيدة فلم يكن مدوَّنًا في نهايتها إلا بالحروف الأولى من اسمه (أ.خ.م.) وليس عسيرًا عليَّ بعد أن اهتديتُ إلى الكتاب أن أوقن أن الشاعر ما هو إلا أنيس الخوري المقدسي نفسه. وأنيس المقدسي ولد في طرابلس اللبنانية سنة 1885 وتوفي سنة 1977 . وكان قد تعلم في المدارس التبشيرية، وعمل أستاذًا للغةِ العربية في الجامعة الأمريكية، وكان عضو المجمع العلمي العربي في دمشق. وكذلك عضو مجمع اللغة العربية في القاهرة منذ سنة 1961. ومن كتبه ((تطور الأساليب الشعرية في الأدب العربي)) و (( أمراء الشعر العربي ي العصر العباسي)) و (( تطور الأساليب النثرية في الأدب العربي))، كما عُرفَ بأنه شاعر مُقل .

***

جدير بالذكر أن بعض الأدباء العرب النصارى كانوا ينظمون الشعر الوطني، ومنهُ ذو الطابع الإسلامي، باعتبار أن ذلك لا يتجزأ من تاريخهم وحضارتهم وعنصر لغتهم. فنيقولا فياض ( 1873- 1958) صاحب ديوان (( رفيف الأقحوان)) له قصائد تتحدث عن السجايا والمناقب العربية، ومنها قصيدته (( الوفاء عند العرب))، وإبراهيم اليازجي (1847- 1906) كان شاعرًا مجلّيا وخاصة في قصيدته البائية :

تنبَّهوا واستفيقوا أيها العربُ
          فقد طما السَّيلُ حتى غاصتِ الرُّكَبُ

ورشيد سليم الخوري (1887- 1984) الشاعر القروي الذي تمجّد بالرسول العربي، وغيرهم وغيرهم كثير.
ويضاف إلى هذه الكوكبة أنيس المقدسي، وخاصة في هذه القصيدة العصماء. إنه يتّغنى بالمجد والمعالي، وكيف أن الحسام ضاء للمسلمين فانتصروا انتصارًا ساحقًا على الروم . وهو يتحسّر على تلك الأيام المشرقة، ويتساءل : هل تعود الأيام النيّرة المشرقة؟ وهل ينحسر الظلام والاستعمار؟ إنه يؤمن بوحدة عربية ( ذكر العراق البلد الحرام، ربوع الشرق...) حتى يفيق هذا الشرق من كبوته وغفوته، فيحطم كل (تقليد) ذميم عن الغرب، وذلك ليعيش الأهل بكرامتهم وعزّتهم. ويختم القصيدة بموقف يبين ألمه مما يحصل في سوريا في عصره، حيث سادت الفرقة. وإزاء ذلك ينشد لوطنه المعالي والعيش المستقل ( الاستقلال) والنظام. ويراد بسوريا هنا سوريا الكبرى التي تضم في كيانها سوريا ولبنان وفلسطين والأردن،أي بلاد الشام .

أتساءل : ترى ما الذي حبّب إلي هذه القصيدة، وكيف اكتشفت روعتها؟

* غالب الظن أن الجو الديني هو الذي طغى عليَّ في صغري. ولذا فلوقع اسمي خالد وأبي عبيدة هزّة عميقة في نفسي نشأت معي. ثم إن معركة اليرموك التي انتصر فيها خالد بن الوليد (15 هـ- 636 مـ) على الروم، كانت تثير وجداني واهتمامي، فالعدد متفاوت ( أربعة وعشرون ألف مسلم يقاتلون مائتي ألف جندي روماني) ومع ذلك يقول القائل: (( ما أكثر المسلمين وما أقلَّ الروم!)). ردّا على من قال : ((ما أكثر المسلمينَ وما أقلَّ العرب)).

***

* ثم إن الأساليب الإنشائية جعلت النص في زخم عاطفي وإثارة متلاحقة، فالنداء والاستفهام والعرض والقسَم والتعجُّب والأمر والنهي وتكرارها أحياناَ، خلقت جميعها، وبخطابيتها، جوًا من المشاركة الفعّالة. ولنقرأ نموذجًا :

بربّكَ أيّها النًهرُ المُفَدَّى

          بربّكَ قُلْ ولا تخشى المَلاما

أيُشرِقُ نجمُهًم مِن بعدِ ذُلًّ

          ويعلو بعدَ أن لحِقَ الرُّغاما؟

والمشاركة التي أعنيها- أنك تحس بتشخيص النهر، وأنك مطالب لأن تجيب على السؤال بدلاً من النهر، بل كأنك أنت الذي تبحث عن خلاص من الذل الذي لحق بك، وتنشد السموَ بعد أن نكد العيش.

* ولا يخفى أن النَفَس القصصي بحركة الأفعال وتواصل هذه الحركة مما يحفز على إنشاء جو تسترسل فيه الخواطر والأشجان : قف، اقرأ، قل، قطعت، وسار، فلما أن أطلَّ، أجثو....

* ولعل الوصف فيه تشبيهات واستعارات، وبحدود فهمي لها أيام قراءتي الأولى، من شأنها أن ترسم الأجواء وتثير الوجدان حركيًا وصوتيًا :
- جرى ينساب في الوادي كأفعى
- تحيط به وهاد كالحاتُ تصدُّ الريح ......
- وماء النهر يرمقنا بلطف
- وهبَّ أبو عبيدة مثل ليث

أما الشكل فله أثره البين ، فبحر الوافر فيه موسيقا متميزة ، والقافية بروي الميم المفتوحة المنتهية بألف تنغم في مدها وإطلاقها - الصوت المنساب مع المياه . وكذلك نهاية الصدور في الأبيات - وهي المنتهية غالبًا بنفس الصوت التنغيمي : ليثٍ
حربٍ بمجدٍ ذلٍّ   ذميمٍ بلادٍ
صوتًا حقًّـا ظهرًا ... إلخ .

أرجو أن تكون قصيدة اليرموك قد أوصلتك إلى حكاية اليرموك - حكاية مجدٍ ضاع و لا أدري إن كنا نبحث عنه .
ومهما يكن ، فأرجو أن تستمتع بالنص ، ولهذا كتبت .

د . فاروق مواسي
تاريخ النشر :18:23 29.08.04

الرئيسية
سيرة إجمالية
مراسلة
الموقع
صفحة الكاتب