أقـواس أخـرى مـن سيـرتـي الـذاتيـة
د . فـاروق مـواسـي
- الـجزء التـاسع -
الـعـمرة : (7 - 20 / 8 / 2001)
عد إلى مذكراتك واقرأ علينا ما كتبت :
" عندما اتخذت قرارًا بالاعتمار كان ذلك مفاجئًا للجميع ، وأولهم زوجتي عفاف التي رافقتني .
شددنا الرحال أو على الأصح ركبنا الحافلة إلى الناصرة حتى ينضم لنا آخرون هناك ، وألفيت نفسي أصلي الظهر في مسجد فيها شأني شأن المسافرين الآخرين ، وربما كانت هي الصلاة الأولى لي بعد انقطاع طويل .
وفي مطار عمان لبسنا ملابس الإحرام (رغم أن ليس هناك مكان مخصص لذلك) ، ثم حلقنا صوب البلاد المقدسة التي يولي المصلون وجوههم شطرها ، فوصلنا مطار جدة بعد منتصف الليل ، ثم أقلتنا حافلة صوب مكة وكانت تتعمد أن تصل متأخرة لسبب ما .
وما إن أطلت علينا مكة حتى شعرت بغبطة روحية عميقة ، فهل يعقل أنني هنا في حضرة تاريخ وقداسة ، وأنني في رحاب الرسول الذي سبق وأن كتبت سيرته شعرًا ، وقلت فيها أو فيه :
يا رسول الله إني عاشق سيرة تبقى وذكرًا يُعشق
وصلنا إلى الكعبة ، فبهرتنا بمنظرها وجلالها وكانت تظهر من مبعدة ، حتى إذا وصلنا للطواف أرشدني أبو أحمد
- من قرية معاوية - إلى أن أبدأ بباب السلام ، وطفت أنا وعفاف مع الطائفين خاشعين ذاكرين ، و لمست الركن اليماني (الذي يتجه إلى اليمن) ، وقد تيسر لي كذلك أن ألمس الحجر الأسود الذي يتقاطرون عليه لتقبيله ، وصليت في مقام إبراهيم ، وهو من جهة الشرق ، كما صليت في حجر إبراهيم ، وأحسست بخشوع عظيم تصاحبه رقرقة دمعات . وشعرت - أحيانًا - أن الكعبة بما فيها من هيبة وحضور وخشوع الناس قد تلهي الزائر عن التفكر في الله ذاته - مع أن كل ذلك هو لله ، ومن أجل عبادته .
كانت حرارة الطقس متوهجة لافحة حتى في صلاتي الفجر والعشاء ، ولا تسل عن الظهيرة حيث لا تحول دون تسابق المصلين ، وخاصة يوم الجمعة - لكي يحظوا بمكان في الحرم .
سعيت بين الصفا والمروة ، وشربت من ماء زمزم .
ولعل ما يبعث على عمق التماثل أنني كنت أشعر وكأن بعض الصحابة كانوا يرافقونني في الطواف والسعي ، فاستحضرت في ذهني أبا بكر وعمر وعليًا وهارون الرشيد الذي كان يحج عامًا بعد عام ، وكان معي الفرزدق وتخيلته يجيب السائل : "من هذا ؟" وكان يطل علي عمر بن أبي ربيعة وهو يترصد الحاجات الجميلات . كنت أراجع التاريخ وتاريخ الأدب وما أحفظ من أبيات فيها ذكر مكة ، وأربط بين ذلك وبين المكان ، فأنا في مكة !!!
ومن العجيب أن أمي وأبي كانا يسعيان معي بين الصفا والمروة وكأنهما من الأحياء . وكانت أمي تبتسم لي مزهوة بي لأنني عدت إلى الله - كما كانت تلح علي أن أفعل .
وفي قراءتي للقرآن توقفت على السور المكية و على أسماء الأماكن المكية أو المتعلقة بالكعبة ، لأربط ما استطعت بين الآية والظرف المكاني ، فأجد لكل سورة طعمًا مختلفًا وجديدًا ، فاللغة تتألق هنا بشكل لا عهد لي به ، وأجد عذوبة بالغة فيما أستوعبه ، وأضرب صفحًا عن معان كنت أحاول أن أفلسفها وأخرجها ، ولكنها هنا كانت بردًا وسلامًا على فكري .
وفي اليوم الرابع أقلتنا الحافلة إلى جبل عرفات للتعرف إلى الموقع الذي لا تجد فيه موطئ قدم - في موسم الحج ، وتوقلت الجبل الأجرد ، واستحضرت في ذهني خطبة الرسول وبلاغتها .
ثم ما لبثت أن استأجرت سيارة لأتعرف إلى سائر المناسك ومواقع المشاعر ، فهنا منى ، وهنا المزدلفة ، وهنا يرمون الجمرات ، وكنت أتخيل المواقع في صور أخرى مختلفة .
ووقفت أدنى الجبل الذي فيه غار حراء ، كما عرفت أين يقع غار ثور ، ومن العجب العجاب أن الغارين عاليان جدًا جدًا ، ومن أعسر السبل أن يصل المرء إليهما ، فهما يحتاجان حتمًا إلى أجسام رياضية متميزة . قلت في نفسي ، وأنا أرنو إلى حراء :
من هنا ، من هذا الجفاف ، والأرض الجرداء ، وهذا الحر الحران ، وهذه الشدة انطلقت ( اقرأ ) ، وأخذت أقرأ السورة لأتدبر معانيها الجديدة .
جبت مكة وقرأت أسماء الشوارع التي تحمل أسماء الصحابة ، وخلت أن هناك علاقة بين المكان والاسم ، ومن يدري ؟
أشار إلي من كان يدري دراية معينة أن هذا البيت هو للأرقم بن الأرقم ، وهنا كانت دار الندوة ، وأن مكتبة " مكة المكرمة " هي مكان ولادة الرسول ، ولكن الوهابيين لا يجيزون لأي مكان ، و أي تقديس لغير الله كفر.
ولاحظت كثرة النقاب الأسود على وجوه النساء حتى كأن الأرض في بعض المساحات غطيت بالسواد ، كما لاحظت كثرة الصلوات في الكعبة ، فليس من هم لأحد هناك إلا أن يقيم الصلاة ، ويدعو الله الذي هو أقرب إليه من حبل الوريد .
* * *
غادرنا مكة وشعابها ، ومضينا في طريقنا أو في حافلتنا إلى يثرب إلى مدينة الرسول ، وهي تبعد زهاء خمسمائة كيلومتر عن مكة . في الطريق كنت أسرح نظري في جانبي الطريق ، فأجد الجبال الشاهقة والأرض الوعرة الجرداء ، وكنت أسأل نفسي عن طريق هجرة الرسول ، كيف ، ومن أين ، وكيف تعذب المهاجرون في هذه الرمال وهذه الأحوال وهذه الجبال ، أعجب ، وأعجب ، وأقلب طرفي بين الأرض والسماء ؛ فإذا بالطقس يتغير على حين غرة ، وإذا بالأمطار تتساقط عنيفة بشكل لا عهد لي بمثله ، فتذكرت وصف امرئ القيس للسيل ، وأحسست بصدق الوصف .
ومع إطلالة المدينة المنورة أخذت أنشد " طلع البدر علينا " ويشاركني في النشيد بضعة أطفال كانوا معنا ، بينما كان بعض الكبار يسخرون من هذا البالغ الذي يغني مع الأطفال .
سعدت وأنا أرى الحرم النبوي ، وتمتعت بمنظر الروضة والمنبر فما " بين منبري وبيني روضة من رياض الجنة " ، وسواء كان ذلك من الجنة أم لا ، وسواء صح الحديث أم لا ، فقد صليت بخشوع وسكينة وكأنني في جنة
حقيقية . تعرفت إلى قبر الرسول وقبر أبي بكر وعمر ، وزرت البقيع ليدلني من أظهر معرفة على بعض قبور الصحابة وقبور نساء النبي ، وهي ليس مرتفعة عن الأرض .
ثم أخذت أقرأ السور المدنية لأستشعر ما استشعرته في مكة ، ولعمق إحساسي وحبي للنبي أخذت العبرات تتسابق على مآقيّ ، ولا أذكر - في كبري - أنني بكيت كما بكيت في حضرة الرسول ، وكانت زوجتي تنظر إلي مندهشة ، وتغبطني على هذا الإحساس العارم الجياش ، ولا أدري سر ذلك حقًا ، فما هي إلا تجليات ضعف أصابتني وهزت عاطفتي . .
وكما كنت أبحث في مكة عن الأمكنة ، من أين كان الفتح ؟ أين الجبل الذي أراد النبي أن يلقي نفسه من عليه ساعة انقطاع الوحي ....إلخ - هنا أيضًا أخذت الأسئلة تهاجمني : أين موقع الخندق ؟ أين وقف كعب بن زهير يلقي قصيدته ؟ أين دار عثمان ؟ أين بيوت المهاجرين و هل بقي من الأوس والخزرج بقايا ؟
وقُدر لي أن أحضر درسًا دينيًا في الحرم ، فإذا بالشيخ يعرب خطأ ، وذلك في قوله تعالى " إنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون فيها ..." فذهب إلى أن " أربعين سنة " هي مضاف ومضاف إليه ، وهنا تدخلت ، وأعربت ، وحظيت بنظرات الرضا من طلاب الحلقة ، فيقول الشيخ "يجوز الوجهان" .
في 16 / من آب توجهنا إلى مسجد قُباء ، وهو أول مسجد صلى فيه الرسول صلاة الجمعة ، فقد بركت الناقة مأمورة ليكون موضع بروكها بناء المسجد ، ثم توجهنا إلى مسجد القبلتين حيث صلى الرسول فيه موليًا شطر المسجد الأقصى ، ثم تحولت القبلة إلى الكعبة .
وصلنا إلى جبل أحد - الذي لم يعد جبلا ، بل هو أشبه بمرتفع ، ولكن خيالي سرح ، ورسم مواقع الكفار ومواقع المسلمين ، وكيف دارت المعارك ، وكيف احتال خالد بن الوليد ليجعل من نصر المسلمين هزيمة .
في يوم الجمعة ، ورغم تبكيري إلى المسجد لم أستطع أن أجد مكانًا بين هذه الأمواج البشرية ، فصليت واقفًا .
وخطر ببالي لو أن الرسول أفاق اليوم ورأى هذه الآلاف المؤلفة ذات السحن المتباينة في ألوانها وبنياتها وصورها ؟ هل كان يصدق مبلغ هذه الكثرة الكاثرة ؟
لو أن المغنين الذين كانوا في المدينة (معبد والغريض وحبابة وفضل ولبابة و ... " ظهروا اليوم ، فهل يقبلهم هؤلاء الذين ترى أمارات الورع بادية عليهم ؟ ألسنا اليوم أكثر تزمتًا من السلف ؟ ....
أجواء كثيرة من عبق التاريخ تطل علي ، أستذكر وأعايش ، ويظل النبي محلقًا أتمثله في كل خطوة جريئًا جميلا بليغًا ومحط قلبي وبصري .
وفي فندق هلتن في المدينة قرب الحرم وقبيل الاستعداد للعودة - كتبت قصيدتي " الحج الأصغر " على نفس واحد ، وإليك القصيدة :
الحج الأصغر
بسم الله دخلت أنا مكة
أعزف شوقًـًا لنبيّ عاش بوجداني
شوقًــًا ينساب بصفو أماني
فأرى مكــه
بجبال وشعابٍ وهجير
قد تيّمها عشقٌ ليس بفانِِ
ما زالت تذكره طفلاً
ونبيًا يتدثّر أو يتزمّل
وخديجة تحنو « لا يكذبْـكَ الله»
تذكُرُ هجرتَـَه ثم الفتح
تحدو صُورًا لرجال الإيمان
يبدو من جهة أخرى كفار كأبي لهبِ
وأبو سفيان في دار الندوه...
تأتي صفحاتٌ من عهد الجهلاءْ
وتعود لتدرك معنى ألا يعبدَ زُلفى للّه
صنمٌ سمَّوه (هُبل)
تذكًُر إبراهيم
تذكر إسماعيل
والبيتَ وأمنَ الناس مثابَتهم
كيف الذرّيةُ أضحت في وادٍ من غير الزرع
كيف الثمرات تَظَلُّ هنــا مغدِقةً بالرزق
أفئدةٌ تهوي نحو المسجد
وهناك طوافٌ حول الكعبـه
هذي الكعبــه
جاءوها من كل فِجاج الأرض
تحمل كل الألوان... لغاتٍ... دعوات
مُزجاةً في حزنٍ وأمل
ويطوفون... يطوفون
الهامة تعلو تاره
أو تُخفض تاره
تعلو كي تسمو للنجم بإكبارِ
أو تُخفض تخشع للباري
ولحونُ الحبِّ .. الإيمان.. الصفو
من كل طُيوب المجدِ.. الزهو
عابقــةً جاءت تحمل نصرًا أو نصرا
أفواج حجيجٍ كالأمواج
ما أزخرَ هذا الموضعَ بالخلقِ !!!
بقلوب واجفةٍ ولْهى بالآيات
هذا أول بيت أو آخر بيت
ِقبلتُــهم أو قُبلتُــهم
لا تنسَ الحجر الأسود !
ولمستُه.....
ظلّ الأثرُ
في خاطرِ يدْ
واشرب من زمزم
يروي روحَك.
***
قلت: سأذهب نحو حراء
حتى أستوحيَ كيف أتى الوحي
مع سورة« اقرأ»
فإذا بالجبلِ
أعلى مما كنت أرى
أسأل :
«كيف رقى» ؟ !!!
قلت: سأذهب حتى أشهد (ثَور)
حتى أستوحيَ كيف أتى الوحي إليه
إذ يذكر « لا تحزنْ..»
كيف غدت أسماء بنطاقَيها
قلت :
سأمضي نحو مناسك حجاج البيت
نحو مِنى وإلى عرفات
وإلى موقع رمي الجمرات
يعلو التوحيد بكل الأجواء
يهفو القلب إلى أصداء الأصداء..
وأعود إلى الحرم
فهنا كانت أحياء قريش
إذ أطعمهم من جوعٍ
آمنهم من خوف
وهنا كانت لغتي
شعّت من آيِ القرآن
وهنا آلُ البيت...
أين الشِّعبُ...
وصحيفتهم ؟
أسأل :
أين الجبلُ ؟
- حيث نوى أن يُلقيَ نفسه
حتى أضحى الوحي...
أين الجبلُ
كان وراءه
عمرٌ يتهدّدْ
كفارَ قريشَ بسطوتهِ
ها إني أقرأ سورًا مكيــه
حتى أستلهمَ هذا الجوِّ المكيّ
أدعو التاريخ إليّ
كي أُدرك معنى الآيات
وهنا بالذات
حتى تتجلّى لي في معنى آخر
وأصلّي.
***
بسم الله دخلت أنا طَيْبَـــه
كانت تُدعى يثرب
فإذا بنبيّ نوَّرها فهي مدينتهًُ
... يتصافى الأوس مع الخزرج
ليُغنّوا « طلع البدر علينا»
وأنا حين وصلتْ
أطلقتُ مع الصبيان غنائي
« طلع البدر علينا»
حتى وصلتْ «قصوْاء»
بركتْ عند قُباء
فإذا بالعطر المُنداحِ على الأرجاء
يغمرني.. ويفوح :
ها أنت هنا
قرب حبيبٍ... أنت سمِيُّـــه
في الروضــه
صليتُ وناجيتْ
في دمعِ دعاء...
ودعاءِ الدمعات...
وقرأت « الحجرات»
طالعت هنا سورًا أخرى مدنيـــه
فإذا بي أقرأ ما لم أقرأ.
قلت لعلي آتي «اُحُدًا» حتى أذكرَ أو أتذكرْ
كان معي عمرُ الفاروق
(ولكم أحببت)
كيما يُطلعني عن كثبٍ
كيف الأمرُ... مضى
وقضى فيه الشهداء
فاتحةً يا حمزه
فاتحةً يا مُصعبْ
وسلامًا يا «أحياء»
كان النّور الوضّاء
في طيبٍ نبويّ
يختال بكل الأرجاء
وأصافحُ
كل صحابي أعرف منهم
وذكرت له ما أعرف عنه
إذ كنت أرى فيهم إشعاعَ وفاء.
من طَيبةَ سارت أعلامْ
ومراكب إيمان ومضاء
ومواكبُ فتحْ
حتى في حرَّ القيظِ الصهْد
- لا أدري كيف احتملوه -
ساروا حتى ملأوا الآفاق لواء.
ورأيتُ كذاك أبا لؤلؤة الموْتور
قلت له :
" بُؤْ في إثم وضلال
كم من مثلِك أمثال.."
.. وشهدتُ حصارًا يوم الدار
أرقبُ ..... لا أكشف بعض الأسرار
حتى أقبل معبَد
وَغَريضٌ جاء يغني
.. عن ماض باهٍ كيف مضى
وهناك أبو ذرّ وحده
يعتبُ أو يغضب
يمضي نحو الربذه
.. سلمانُ أيا سلمان !!!
يوم الأحزابِ انهزموا
وأنا أقف اليوم
قرب الخندق
(ما كان الخندق)
ها أقبل من ثَمَّ عليّ
متشحًا بالسيف المشهور
في الصوت جراء ه
والوجه وضاء ه
قبّلتُه
أكثرَ من قُبلــه
واحدةً: لم يسجد للأصنام
أخرى: للنهج.. بلاغه
ثالثة: لمعاناةٍ في دنياه.
سأعود إلى الروضـــه
فهنا المنبر
وهنا البيت
وهنا يرقد من قلنا .. منذ طفولتنا
« صلى الله عليه وسلم»
بالقربِ... أبو بكرٍ وعمر
وهنا كعبٌ أمسى يقرأ
«إن الرسول لنور يستضاء به..»
فأرى البُرده
وأرى آثار الكلمات.
***
أحمل خارطةَ الحب الأوفى
أسأل عن كل سبيل
ما أكثر ما أتساءل...؟؟
فأُناجي
وأصلي.
المدينة المنورة 15 / 8 / 2001
ترى ، ألديك إجابات اليوم عن الأسئلة التي كانت تراودك قبلاً وتلح عليك ؟ ألست أتهرب من بعض الإجابات لسبب أو لآخر ؟ أليست صلاتك ذات منهجية برمجتها لنفسك ، وألفة جعلتها سبيلك ؟
أعلم أنك تنوي الحج الأكبر ، فهل تحدثنا فيما بعد عن مشاعرك وعمق إيمانك ؟ لنرَ ما يكون من أمرك ، ومن حسن ختامك !
تاريخ النشر : 11:07 17.08.04