رَعَاكَ اللهُ يا جَملُ
بقلم : د. فايز صلاح أبو شمالة

        أكاد أسمع الشعب الفلسطيني يقول: أهلاً وسهلاً يا حماس، تعطي لصناديق الاقتراع الثقة والمصداقية، والمزاوجة بين الزرع والحصاد، والمزاحمة على العمل الشريف، أهلاً وسهلاً بمن ضحى بالنفس، وبمن سيضحي في سبيل الاستقامة والشرف وإضفاء الضبط والربط على نتائج صناديق الاقتراع، لقد خرجت حماس من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، وبعد تقديم الدماء الطاهرة العطرة، تندفع إلى تقديم كفاءاتها وطاقاتها البشرية النظيفة الخلاقة، تزاحم على مورد الماء النقي الطهور، ثم تعاود الاحتكام بعد سنوات للجمهور، ماذا قدمت؟ وماذا أخرت من عملٍ، وماذا لم تقدم ولم تؤخر، وسواء فازت حماس، أو فاز بعض حماس، أو لم تفز على الإطلاق حماس، فإن العملية الديمقراطية التي سيعيشها شعبنا ستعطيه الشعور بالفوز على ديكتاتورية اللون الواحد، لأن تعدد المشاركة إحساس جماعي بحق الشعب بالاختصام والوئام أمام صناديق الاقتراع، ليكون الفوز ملاصق لكل من شارك في العملية الانتخابية، وبغض النظر عن النتائج، يكفي الجميع أنهم أسهموا في إطلاق يد الحرية، وفي محاسبة ومسائلة المسئولين عن فترة خلت، وفي التحضير لمرحلة قادمة.

        عشر سنوات ثقيلة خلت عن أول انتخابات تشريعية فلسطينية، تنافست فيها تنظيمات منظمة التحرير الفلسطينية مع نفسها، أو بمعنى أدق مع عناصرها التي رفضت التشكيلة التنظيمية، وآلت على نفسها إلا المشاركة ولو على هيئة مستقلين، فمنهم من فاز، ومنهم من ينتظر، ومنهم من تعلم من درس الديمقراطية التي يجب أن تسير على ساقين من سلطة ومعارضة، تفتح مجال المنافسة الحق القادرة على الفرز السليم، وعدم التلاعب بالنتائج.

        عشر سنوات عبرت على شعبنا بين مصدق وغير مصدق، بين مندهش ومكتشف لحجم الخديعة التي ألمت به، فكيف تمكن بعض المرشحين من السيطرة على مراكز الاقتراع، وجرف ألاف أصوات الناخبين، ومضوا، اصطادوا في غفلة أصوات الناس بالحق أو بالباطل، ومضوا، صاروا وزراء، وأمراء، ولم يلتفتوا إلى الوراء، ومضوا، لم يخطر في بال بعضهم وقد أخذته العزة بالإثم أن يتحسس حال الناس، تكبروا، وتجبروا، ولم يردوا تحية الصباح على من رفعهم على كتفه، وصنع منهم وزراء، فإذا بغالبية المسئولين كعاق الوالدين، وشعبنا قد بلغ عندهم الكبر، فقالوا لهم: أفٍ مرة، ونهروهم عدة مرات.

        عشر سنوات تمرغ فيها بعض المسئولين في طباعهم، وكلما حاول الشرفاء إيقاظهم من غفلتهم، وضعوا أصابعهم في آذانهم، وكلما توسل منهم الناس الرحمة والاستقامة والعدل، أصروا على طباعهم التي فطروا عليها من كِبَرٍ وتعجرفٍ ونهبٍ وسلبٍ وصلفٍ وتأففٍ.

        وجاء اليوم الموعود، صناديق الاقتراع طويلة العنق كالجمل، وتتحول بين عشية وضحاها إلى صناديق يوم الحساب، وكلٌ كتابه في يمينه، سيتململ الجمل الذي ناخ وحمل على ظهره سياط البعض، وكيد البعض، ومكر وقهر وزجر البعض، سيأتون منذ اليوم إنهم المرشحون الحالمون، يتوسلون، يترققون، يقدمون تحية الصباح، يشاركون في المناسبات، يقدمون المساعدات، والوعود بالخلاص من البطالة والفقر، وكل تلك المعسولات اللفظية التي يعرفها شعبنا، فإذا اكتملت لدى بعض المرشحين أكياس السكر والقهوة والشاي التي يقدمونها، مع ثمن فاتورة الهاتف، وثمن كرت الجوال، ووقود السيارة، وثمن الساندويتش، ظن نفسه من الفائزين، ولكن استراتيجية شعبنا هذه المرة في التعامل مع البعض تقوم على التعامل بالند، وتبادل معهم الشكليات بعد قبض الشيكات، وما في النفس يقول:

        خذ من أموالهم ما استطعت، وتبسم لهم بالطول والعرض على طريقتهم، وقدم لهم الوعود كما وعدوك سابقاً، فإذا اختليت مع نفسك أمام صندوق الاقتراع، هرول يا جمل، إلى ما يمليه عليك ضميرك ودينك، متمسكاً بطبعك العنيد الصبور الذي فطرت عليه.

         ورعاك الله يا جملُ، سيبرق حولك الأمل.

        يروى أن جملاً وحماراً قد ضاقا ذرعاً بالفلاح، وقررا الهرب إلى الغابة، وهناك عاشا يوماً جميلاً دون إزعاج وملاحقة وعمل، ودون أن يستدل عليهما الفلاح الذي ما انفك يفتش في الغابة، ويرخي أذنه لعله يسمع صوتاً يرشده إلى الحمار والجمل، دون جدوى.

         ومع فجر اليوم التالي، مد الحمار عنقه، فسأله الجمل: ماذا أنت فاعل يا حمار؟

قال الحمار: أريد أن أمارس طبعي وحقي في النهيق!

        أرجوك؛ توسل إليه الجمل، دعنا نرتع في هذا المكان الآمن، إن نهقت، وعلا صوتك جاء إلينا الفلاح، وأعادنا إلى العمل، أرجوك، اترك هذا الطبع، وتخلى عن عاداتك.

        ولكن الحمار أصر وهو يقول للجمل: هذا طبعي، ولا أقدر على التخلي عنه، ومد عنقه، ورفع رأسه، وفتح فاه، وما إن أتم النهيق، فإذا بالفلاح يمسك به من الرسن.

        كتّفَ الفلاح الحمار وربطه على ظهر الجمل، فضحك الحمار واغتاظ الجمل، إلى أن وصلا إلى المنحدر، فبدأ الجمل يخب في مشيته، وراح الحمار يتمايل يمناً ويساراً، ويتوسل للجمل، أن سر على مهلك يا جملُ، أرجوك لا تهرول عند المنحدر لئلا أقعُ عن ظهرك فأنكسر، ولكن الجمل أصر على الهرولة مهما كلف الأمر، قائلاً للحمار: ولكن هذا طبعي، ولن أتخلى عن حقي في ممارسة طبعي، ألم أقل لك قبل قليل تخلى عن طبعك في النهيق!!!!!

        ويبدو أن لشعبنا طباع الجمل، سيهرول في طريقة إلى صناديق الاقتراع، وسيوقع عن ظهره كل من أساء التعامل مع الناس، وظن بهم دهماء، وسيدوس الجمل بخفه على كل من خفت موازين عمله، وتبخر صدقه، وجفت وطنيته.

* الكاتب حاصل على شهادة الدكتوراه في موضوعة الحرب والسلام في الشعر العربي والشعر العبري على أرض فلسطين
fshamala@yahoo.com

تاريخ النشر : 14-03-2005