غَطِّي حَبيبي، فَإنّ ثيابي مُبَلَّلةٌ بِدَمِهْ
بقلم : د. فايز صلاح أبو شمالة

        الشاعر الفلسطيني محمود درويش لا يكتب شعراً، إنما يُصدّر مشاعر وأحاسيس استورد مادتها الخام من الحياة، فهو يصور بالكلمات موقفاً يتكرر في كل زاوية وحارة ومخيم من الوطن، يلتقط الشاعر ما يراه على الحواجز التي أقامها قطاع الطرق الإسرائيليون بين المدن الفلسطينية المحاصرة، وما يراه من الحواجز التي أقامها قطاع الطرق الإسرائيليون بين الأم وحبيبها في السجون، وبين الأب وأولاده خلف الحدود، يعبئ صدره من نكد الحواجز التي أقامها قطاع الطرق الإسرائيليون بين الندى وعشب الأرض، وبين الحمامة وهديلها، وبين العين وامتدادها، وبين زهرة اللوز والثمر، وبين موجة الحنان وشاطئ الكرامة، من كل كثبان التعنت والتغطرس والتجبر والإرهاب الإسرائيلي، يلتقط الشاعر مشاهد الكتابة.

        يعصر الشاعر حامض التجربة الفلسطينية على جُمله الشعرية، فإذا بها تتجاوز مذاق المألوف من الكلام، وتحمل دلالة المتعدد من التعبير، لتضرس أسنان القارئ بفعل الحالة الانفعالية التي عبرت على الشاعر قبل أن يُعبَّر عنها بالشعر، وكأن شعر هذا الرجل تخصص في الرد على أولئك الذين أفقدوا الشعر مذاق التجربة، ونصاعة الحكمة، وتجدد الرؤية، أولئك الذين قصوا لحاء الشعر عند حدود ذاتهم الضيقة، فباعدوا بين الفِكْرةِ والمُفكِّرِ، وبين المُلْقِي والمُتَلقْي، وبين عمق المخزون وما يظهر عل السطح، ثم راحوا يلومون القارئ على عدم قدرته على تفهم أشعارهم، وحل طلاسمهم، ويشكون انعدام القراء الخبراء للشعر اللغز، ويبكون قلة ذكاء المجتمع وانعدام الشعور لديه، بينما القارئ في لهفة لكل جملة شعرية حنونة تحرك فيه وجدانه، وتنادي على إنسانيته، لها معنى يُدرك بالقلب والروح، وتوحي بمتعدد الدلالة، كما يقول محمود درويش في جملة شعرية صغيرة، تصارع على سطحها الحزن والأمل، وتصالح في جوفها اللفظ والمعنى، وتصارح فيها اللون مع الواقع، يقول:

                قالت امرأةٌ للسحابة: غَطِّي حَبيبي،

                فَإنّ ثيابي مُبَلَّلةٌ بِدَمِهْ

        هذا هو الشعر الذي تعبأ في كلمات وتعدد في الدلالة والإيحاء، فمثلاً، إن لفظة (امرأة) في الفقرة السابقة نكرة، ولا أحد يهتم أو يلتفت إلى النكرة، بينما لفظة (السحابة) معرفة بما تميزت به من عطاء وخير ومطر، وضمن السياق العام لم تكتسب لفظة (السحابة) معرفتها لمجرد اقترانها بأل التعريف، بل بما عرف عن السحاب من فعل العطاء والتضحية، وبهذا يكون الحكمُ الفني في إعطاء صفة المعرفة والنكرة للأشياء قائم على التأثير، وهذا الذي جعل (امرأة) وهي لفظة نكرة تخاطب السحابة وهي لفظة معرفة بفعل الأمر (غطّي) على غير المألوف، ولكن المرأة هنا قد صارت معروفة بعطائها الذي تزامن مع عطاء ابنها الذي بلل بدمه ثيابها، فتساوت بالسحابة.

        غير ما سبق من تحليل، قد يُخرج فعل الأمر (غطّي) إلى الرجاء والتوسل، لأن (امرأة) لا تأمر السحابة فتطيع، وإنما ترفع رأسها إلى السماء وتستجير، بعد أن تخلى عنها كل من على الأرض، وهذه الحالة لا تتطابق مع الفلسطينية التي احتضنت ابنها، حبيبها، وهو ينزف دماً، فهي لا تستغيث وإنما تنفث حمم الغضب، ولا تصرخ في عالم صم أذنيه إلا عن رطن اليهود، فهي تعرف بالتجربة ما معنى أن يشفق عليها الآخرون، لذا فهي تخرج الصرخة عن المحيط الأرضي، إلى أعالي السماء، فلا يتحول فعل الأمر إلى نداء استغاثة، أو توسل، أو طلب النجدة، إنما توعد بالمزيد، ووعيد بأشكال من الصبر الجديد. 

        إن ما سبق من تحليل بلاغي لا يستوفي الغرض الشعري الذي قصده الشاعر، وهو

 يبدع مشهدين، في الفقرة السابقة:

        المشهد الأول: امرأة وحيدة ملهوفة تغرق في دم حبيبها النازف، ولا مغيث لها، هذه الحالة تسهم في تحول المرأة وانقلابها من ربكة الضعف إلى عنفوان القوة، وما كان ذلك ليتم لولا فعل الدم النازف، الذي بمقدار تدفقه إلى الأرض كان ارتفاع راعيته إلى مستوى السحابة، بل والندية في التعريف مع السحابة بعد أن كانت نكرة، لقد تصلبت المرأة، وهجرت الوهن، فحضرت بعد غياب، وانتقلت من الإهمال إلى الاهتمام، فهل أراد الشاعر أن يقول لكل فلسطيني: إن هذه الدماء التي تسيل على التراب، تدوي صرختها في السماء، وترفع من شأن القضية التي من أجلها سالت، وما زالت تسيل؟

        المشهد الثاني: الأم، أو الحبيبة في هذا المشهد قد تخلى عنها الجميع، فهي وحيدة، وهذه من أصعب الحالات التي يمكن أن يتعرض لها إنسان، لاسيما بعد أن يخترق الرصاص جسد حبيبها، ويموت في حجرها دون مساعدة أحد، المرأة ارتجفت من حرارة دمه على جسدها، تلتفت يميناً ويساراً، فلم تجد من يمد لها يد العون، فتحركت هي على قدر المشهد، ترفع رأسها إلى السحابة وتقول بلغة الآمر: (غطّي حبيبي)، لأن ثيابها ما عادت تصلح للغطاء، ولا عادت تصلح للدواء، ثياب المرأة في حاجة للتجديد، والذي سيعطيها ذلك هو المطر الذي تحمله السحابة، وهنا للسحابة مهمتان؛ الأولى: تغطية الحبيب، والثانية التلقيح، ومن ثم التكاثر، الذي ما انفك يحرك في الفلسطينية الرغبة في مواصلة الحياة، ورفض الموت، فالتكاثر فيه التعويض عن الفقد، وفيه مكمن السطوة لشهوة الإنجاب، يقول الشاعر:

                نعزي أباً بابنه: " كرّم اللهُ وجْهَ الشهيدْ "

                وبعد قليلٍ، نُهَنِّئُهُ بوليدٍ جديدْ.

        هذا هو موت الفرد الذي صار ميلاد أمه، وصار فيه التجدد إعلان للتحدي، وتأكيد للحضور، وصار الموت بعث للحياة، وما برح الفلسطيني يطلبها رغم رصاص الموت الإسرائيلي الذي يلهب صدره، ويكشف ستره.

        يطل علينا ثانية مشهد المرأة التي تعرى حبيبها من كل مساعدة، ويحتاج إلى غطاء من نوع خاص، فبعد أن نزف دم حبيبها ساخناً، وبلل ثيابها، تحتاج إلى من يعيده إلى الأرض، يزرعه فيها شهيداً، وبالتالي فهو يحتاج إلى غطاء من المزن يعيد له الإخصاب، ويؤكد على تجدده في الحياة، لذا كانت الاستعانة بأشياء خارقة، خارجة عن محيط الأرض التي يسيطر عليها الإنسان، فكان اللجوء إلى السحابة، التي ستحمل دم الشهيد إلى عميق التراب، وفي ذلك دلالة على التشبث في الأرض، للنماء من جديد، وفي ذلك دلالة على عدم اليأس رغم الظلم السائد على الأرض.  

         جاءت الفقرة التالية بلسان الأم بمثابة توصية إلى أصدقاء ولدها الشهيد، وحضاً لهم، وتقبلاً لما أقدم عليه ولدها، وتقبيلاً لجبينه، وحسماً لأمرٍ تردد فيه الآخرون، تقول الأم لولدها؛ بعد أن لم تترك له حرية الخيار، إلا فيما حددت معالمه إليه كي يختار، وبعد أن رسمت له المسار ليكون قمراً يتلألأ في أحلام الحبيبة، تقول:

                إذا لم تكن مطراً يا حبيبي، فكن شجراً

                مُشْبعاً بالخصوبة...كن شجراً

                وإن لم تكن شجراً يا حبيبي، فكن حجراً

                مُشْبعاً بالرطوبة...كن حجراً

                وإن لم تكن حجراً يا حبيبي، فكن قمراً

                في منام الحبيبية....كن قمراً

                (هكذا قالت امرأة لابنها في جنازته)



د. فايز صلاح أبو شمالة
- تاريخ النشر : 21-02-2005