الاكاديمية البريطانية قالت كلمتها، فماذا بعد؟
بقـلم : د. جـوني منصـور *

    كلمة الأكاديمية البريطانية من الاسبوع الماضي لم تكن عفوية على الإطلاق في مسألة مقاطعة الجامعات الاسرائيلية، وعلى الأخص جامعتي حيفا وبار ايلان. لقد قام 48 الف محاضر في الجامعات والمعاهد العليا في بريطانيا بدراسة قرارهم هذا لفترة طويلة قبل الإعلان عنه رسمياً. ومن الواضح ان الاعلان عن قرار المقاطعة قد لاقى ترحيبا فلسطينيا وعربيا ودولياً من الاطراف المؤازرة لعدالة قضية الشعب الفلسطيني ولعدالة البحث العلمي الموضوعي والنزيه والشريف، ولاقى القرار امتعاضا وغضبا شديدين من الاوساط الاسرائيلية الاكاديمية والرسمية والشعبية لأنه يخرج عن نطاق الانصياع والطاعة للبيت الاكاديمي الاسرائيلي.

لسنا في صدد مناقشة القرار في حد ذاته انما يتوجب علينا الغوص في حيثياته وانعكاساته السياسية والاجتماعية والاكاديمية. فالقرار عبر عن استنكار الاكاديمية البريطانية لقيام الجامعتين المذكورتين بالتعامل بالتوافق والقبول للاحتلال الاسرائيلي للاراضي الفلسطينية من خلال انشاء مؤسسات تابعة لها في مناطق فلسطينية مثل اريئيل وسواها من المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة. والتعبير عن الاستنكار الاكاديمي البريطاني رافقه فعل عملي هو قرار المقاطعة، أي مقاطعة لهاتين الجامعتين في باب التعاون الاكاديمي. هذا التعبير العملي هو خطوة حكيمة للغاية من حيث انها تعكس عدة جوانب، في مقدمتها رفض الاحتلال بكل اشكاله بما فيه شكل التعليم العالي في الاراضي الفلسطينية المحتلة، ورفض التعاون والتعامل مع الاكاديميين الاسرائيليين في هاتين الجامعتين، على وجه الخصوص، في مجالات ومسائل علمية متنوعة.

لا بد لنا ان نذكر ان هناك عدد من الاكاديميين الاسرائيليين في الجامعات الاسرائيلية لا يمكن اعتبارهم منضوين تحت قطيع وراية الاكاديمية الاسرائيلية، بل اننا لنجد ان بعضهم من معارضي الفكر الاكاديمي الاسرائيلي، وهؤلاء يتعرضون لأشكال من الملاحقات والمضايقات في جامعاتهم، نذكر منهم على سبيل المثال وليس الحصر الدكتور ايلان بابي المحاضر والباحث من جامعة حيفا والذي عبر عن تأييده لقرار الاكاديمية البريطانية مباشرة بعد الاعلان عنه.

لقد احاطت الاكاديمية الاسرائيلية نفسها بجدارات واقية اسوة بالسياسة الاسرائيلية، فاعتبرت نفسها مرجعية علمية تزود المستوى السياسي بكل المعلومات التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية عن الفلسطينيين والعرب والمسلمين في العالم، من خلال طواقم كثيرة من ذوي الاختصاص الذين بنوا لانفسهم قواميس من التعابير والمصطلحات التي تبدو علمية لأول وهلة ولكنها في بواطنها اصطلاحية تحمل من الخبث والدهاء الكثير مما ينطبع مستقبلا في عقول وذهنيات متلقيها. هذه الاصطلاحية الملفقة تجاه المجتمع الفلسطيني والعربي جعلت من الابحاث الاسرائيلية ترتدي ثوبا من الموضوعية في حال اعتمادها على نظريات مبتدعة علميا تزود القارئ والباحث والسياسي ورجل الشارع بكل ما يحتاج اليه من معلومات وادوات تحليلية تجاه العرب والفلسطينيين والمسلمين.

الكل يدرك قوة الكلمة ومصداقية البحث العلمي لأول وهلة، فاللجوء الى استعمال مصطلحات وتعابير وكلمات بعيدة عن التعاطي اليومي الحياتي تكسب مؤيدين وتجذب اليها مناصرين وهذا ما نجحت الاكاديمية الاسرائيلية من تسويقه للرأي العام الاسرائيلي والرأي العام العالمي. فالحكومة الاسرائيلية واذرعها الامنية والاجتماعية تتوجه بصورة دائمة الى الاكاديمية الاسرائيلية بطلب اجراء بحوث ودراسات ومؤتمرات لبحث قضية ما مثل الارهاب والتكاثر السكاني لدى الفلسطينيين والتحولات الاجتماعية والتعغييرات السياسية لدى المواطنين العرب في اسرائيل وخارج اسرائيل لتُكوّن ـ أي الحكومة ومؤسساتها ـ معلومات وتحليلات بخصوص هذه المجتمعات والشرائح البشرية. وعندها يتمكن السياسيون من توجيه تصريحاتهم وافعالهم بما يتلاءم وما صدر من بحوث ودراسات. ونحن نعلم كيفية توجيه دفة هذه الابحاث لتتوافق مع رغبات الحكومة الاسرائيلية، مثلا في مسألتي الديموغرافيا والارهاب الفلسطيني، فتثار القضية في الاعلام على ان هذا هو الخطر المحدق باسرائيل وشعب اسرائيل، وان اسرائيل هي ضحية دائمة معرضة لخطر الهجوم والتعدي عليها، بينما في الوقت ذاته تقوم الاذرع الامنية والعسكرية الاسرائيلية بتنفيذ هجمات تصفوية للفلسطينيين مقاومي الاحتلال الاسرائيلي.

التغطية الاكاديمية الاسرائيلية تنسجم مع متطلبات الامن الاسرائيلي على طول الطريق. هذا الامن بحاجة ماسة الى غطاء موضوعي لكل ما يقوم به من خطوات وافعال تجاه الفلسطينيين والعرب عامة. وبناء عليه اصبحت الاكاديمية أسيرة القرار السياسي واصبحت الحكومة أسيرة الاكاديمية الاسرائيلية. بمعنى آخر فإن التوافق بين الطرفين متفق عليه ضمنا ولا حاجة الى التوصل الى تفاهم بين الطرفين. فالمحصلة الاخيرة ان الاكاديمية الاسرائيلية مسيسة ومعسكرة وليست مستقلة عن القرار السياسي او الفعل العسكري.

لقد نجحت الحكومات الاسرائيلية عبر العقود الستة الاخيرة ـ أي من يوم الاعلان عن اقامة اسرائيل ـ من تجنيد الاكاديمية الاسرائيلية الى جانبها وعدم ترك هذه الاكاديمية تنعم برياح التحرر الفكري وحرية العمل العلمي أسوة بأكاديميات اخرى في العالم. ولجأت هذه الاكاديمية الى تبني عدة خطوط في البحث العلمي، منها خط تقديم الرواية الاسرائيلية (ناراتيف) وفق أسس تساعد السياسة الاسرائيلية بالتمام. فما حدث للفلسطينيين في العام 1948 لم تكن اسرائيل هي المسبب له، فالفلسطينيون قد تركوا ديارهم بمحض ارادتهم دون أي ضغط سياسي او عسكري من جهة اسرائيل الا بما له علاقة بالدفاع عن الييشوف اليهودي. وان الفلسطينيين والدول العربية هم المسؤولون عن النكبة التي يدعي الفلسطينيون انها جرت على يد اسرائيل. ان الخط المتبنى من قبل الاكاديمية الاسرائيلية هو رفض وضحد الواقع التاريخي والحقيقة التاريخية بكل اشكالها. ما زال عدد كبير جدا من الاكاديميين الاسرائيليين يرفض استعمال مصطلح "نكبة " وكثيرون منهم لا يعترفون بالمجازر التي اوقعتها المنظمات الصهيونية في عشرات من القرى والمدن الفلسطينية بهدف التخويف والترهيب والاقتلاع. ونحن نعرف ان بحثا علميا قام به تيدي كاتس حول ما جرى في الطنطورة من مذابح ومجازر ذهب ضحيتها مئات من ابناء هذه القرية الآمنين قد وصل الى قاعات المحكمة. والفلسطينيون ليسوا في حاجة لمن يؤكد لهم وقوع تلك المجازر البشعة فذاكرتهم الشخصية والجماعية ما زالت تحتفظ بصور هذه المجازر والمذابح. ولكن ان يجرؤ كاتس وغيره على تقديم بحث علمي لنيل درجة جامعية هي في حد ذاتها خطوة متقدمة، الا انها لاقت معارضة شديدة من قبل الاكاديمية الاسرائيلية التي جردته من درجته بعد ان منحته اياها بذريعة تقديمه حقائق ومستندات غير دقيقة. والواقع ان كاتس قد خرج عن القطيع الاكاديمي الاسرائيلي ولم يقبل ضميره ما تفرضه الاكاديمية استباقيا من اراء وتوجيهات لكتابة بحثه وإخراجه بالشريط السينمائي الذي تريده هذه الاكاديمية. فشنت الاكاديمية الاسرائيلية،خاصة جامعة حيفا التي قُدم البحث الى هيئتها العلمية،حربا ضروس لكل من يتعدى معبد الإجماع العلمي والتوافق البحثي. وكان الباحث والمحاضر في جامعة حيفا د. ايلان بابي قد ارشد كاتس في بحثه الى ان عُزل بقرار من الجامعة لاراءه التقدمية والمنفتحة والمعارضة للإجماع الاكاديمي والطاعة الاكاديمية الاسرائيلية. ورغم ان كاتس قد تراجع عن بعض ما كتبه بفعل الضغط الا انه ما زال متمسكا بصدق بحثه الاساسي(كما صرح لكثيرين شخصياً). وواقع الامر ان بابي يقدم نموذجا صارخا لضمير اكاديمي اسرائيلي حقيقي وواقعي يبين من خلاله ابحاثه ومحاضراته زيف البحث التاريخي والسياسي الاسرائيلي. فدعوته المستمرة الى تبني الحقيقة كما هي والاعتراف بالجرائم والمجازر التي ارتكبتها المنظمات العسكرية اليهودية والجيش الاسرائيلي فيما بعد تجاه الفلسطينيين والعمل من اجل اقامة دولة واحدة ثنائية القومية ،كل هذه لا تتوافق مع الفكر الاكاديمي الاسرائيلي اسير الخط السياسي الصهيوني. ومن هنا ما زال بابي يتعرض الى ملاحقات ومضايقات من قبل الاكاديمية الاسرائيلية ومعارضة شديدة لكل ما يكتبه وينشره من وثائق ومستندات وتحليلات حقيقية وواقعية يترجمها بفعل ضرورة التقارب مع الفلسطينيين على اساس شركاء متساوين وليسوا مكسورين ومهزومين.

التوجهات المتبناة من قبل الاكاديمية الاسرائيلية والمسيسة شكلا وضمنا لم ترق للاكاديمية البريطانية، التي تريد الحقيقة بكاملها وكما هي دون تزييفها والتلاعب بها. واكثر من ذلك فإن هذه الاكاديمية التي تعتمد البحث العلمي الموضوعي تدرك تماما ان كل بحث علمي انما يسير في طريق تبيان الحقيقة وكشفها وعرضها كما هي.

ومما يثير التقزز والاشمئزاز مبادرة وزيرة التربية والتعليم(ليمور ليبنات) في الحكومة الاسرائيلية الى طرحها مشروع تحويل كلية اريئيل الاستيطانية في الضفة الغربية المحتلة، الى جامعة معترف بها من قبل مجلس التعليم العالي في اسرائيل. هذه القحة تشير بكل وضوح الى تبني المؤسسة السياسية الاسرائيلية لمؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي.وصدر قرار عن الحكومة الاسرائيلية بالموافقة على الاعتراف بكلية اريئيل الاستيطانية جامعة ،وهذا يعني انضمام جامعة اضافية الى مجموعة الجامعات الاسرائيلية ولكن هذه بميزة اخرى ،اي ميزة تكريس الاستيطان من الناحية العملية بمزيد من الخطوات التي ستعيق دون شك مسيرة تسوية او اتفاق مع الفلسطينيين.

وواضح ان خطوة الوزيرة هذه وموافقة الحكومة الاسرائيلية بالاجماع تأتي في ظروف القرار البريطاني الصادر عن الاكاديمية البريطانية من الاسبوع المنصرم. والاقتراح من الوزيرة اعلاه وموافقة الحكومة الاسرائيلية على تحويل الكلية المذكورة الى جامعة هو تحدٍ للقرار البريطاني. ويبين هذا الاقتراح مدى رفض الحكومة الاسرائيلية لفكرة الانسحاب من الاراضي الفلسطينية والاعتراف بإقامة دولة فلسطينية الى جانب اسرائيل. ما زال اقطاب السياسة في اسرائيل متمسكين بالسيطرة على الاراضي الفلسطينية بإعتبارها جزء من ارض اسرائيل الكاملة ولا حق للفلسطينيين فيها. والغريب في الامر ان كلية اريئيل مدعومة من الجامعات الاسرائيلية ومن الحكومة الاسرائيلية، وهذه الحكومة وسواها قد رفضت اقامة جامعة عربية مستقلة تجيب على احتياجات المجتمع العربي الفلسطيني في اسرائيل. وواضح لنا ان هناك معارضين داخل الحكومة (من اعضاء حزب العمل) وخارجها لهذه الخطوة بكونها لا تنسجم مع الدعوة الى الانسحاب من الاراضي الفلسطينية المحتلة والتوصل الى تسوية مع الفلسطينيين تنهي الصراع، فيما لو تم التوصل الى مثل هذه التسوية.

كشف قرار المقاطعة البريطاني حقيقة زواج الاكاديمية الاسرائيلية بالقرار السياسي وخضوع الطرفين بعضهما لبعض بالتراضي والتفاهم المسبق.

خلاصة الامر، فإن القرار الصادر عن الاكاديمية البريطانية هو خطوة اولى في مواجهة زيف الاكاديمية الاسرائيلية وتبديل الحقائق وتهميش البحث العلمي الفلسطيني(كجزء من عملية الصراع). وحان الوقت للاكاديميين الاسرائيليين الشرفاء واصحاب الضمير الواعي الخروج من بيت الطاعة الاكاديمي الاسرائيلي والانطلاق نحو عالم الحرية العلمية في البحث العلمي ورفض الرضوخ لقيود الاكاديمية التي تمننهم بالمال والمكانة . ومن جهة اخرى ان موقف الاكاديمية البريطانية المشرف يجب استثماره فلسطينيا وعربيا لمصلحة تجنيد فكر مستنير ومنفتح يعمل من اجل نشر الحقيقة التاريخية بوجهها الناصع غير المزيف والمشوه. اعتقد ان خطوة من جانب باحثين اسرائيليين وفلسطينيين موضوعيين ومستقيمين واحرار كفيلة بإعادة صياغة اسس البحث العلمي المتعلق بكل ما يبحث ويدرس ويكتب في القضية الفلسطينية والصراع الاسرائيلي ـ الفلسطيني ـ العربي.

د. جـوني منصـور
* مؤرخ وباحث من حيفا
تاريخ النشر : 04/05/2005