"أم الشرايط" .. عمل مسرحي يستدعي
الماضي الفلسطيني بتأكيد الثوابت التاريخية

بقـلم : د. جـوني منصـور *

    شكلت النكبة الفلسطينية منبعاً واسعاً لحركة ابداعية في المجالات الادبية والمسرحية والكتابة التاريخية وسواها، خاصة الزيادة المطردة في الانتاج المسرحي والمنشور بعد النكسة. فكأن النكسة جاءت لتعزز ادب النكبة، فيما لو جاز لنا استخدام مثل هذه التعابير الايجابية لمآسي الشعب الفلسطيني. رغم كل هذا الا ان القضية الفلسطينية بكافة محطاتها الزمنية تبقى منبعا ـ كما اشرنا الى ذلك ـ لأعمال فكرية متنوعة. وامامنا عمل مسرحي بعنوان " ام الشرايط " من تأليف الفنان محمود صبح واخراج خليفة ناطور وتمثيل مونودرامي للفنانة سلوى نقارة ـ حداد.
ما يهمني على وجه الخصوص في هذا العمل المسرحي هو الجانب التاريخي وهو محور اهتماماتي ومراقباتي ومتابعاتي الخاصة. طبيعي الا يمنع هذا الاهتمام نظرتي نحو الشأن الفني الذي سيعكس دون اقل شك المحمول التاريخي في مثل هذا النوع من المسرحيات.
وعرض هذا العمل المسرحي عدة مرات خلال العامين الماضي والحالي ،ولاقى استحسانا من قطاعات واسعة من المشاهدين والناقدين واصحاب الاهتمام في الحقل المسرحي. ومما لا شك فيه ان هذا العمل قد ركز على الذاكرة الجماعية الفلسطينية التي ما زالت تبحث لها عن مكان يضمها ويجمع شتاتها، ويبدو ان هذه الذاكرة ما زالت تتفاعل في عقول ونفوس ابناء الشعب الفلسطيني سواء ممن عاشوا النكبة وولدوا قبلها او اولئك الذين ولدوا من بعدها واصبح كثيرون منهم بعيدين زمنيا عنها. المميز لهذه الذاكرة الفلسطينية انها ليست مقولبة في اطار مرسوم لها، او انها سجينة قيود معينة ومخطط لها وفق معايير ومقاييس علمية مدروسة. الواقع ان هذه الذاكرة نتاج تاريخ طويل صنعه الشعب الفلسطيني او نتاج مصائب حلت بالشعب الفلسطيني. ان القضية الفلسطينية ما زالت ام القضايا في العالم ما لم تصل الى حل عادل وسلمي. وتبقى هذه القضية بكل تراكماتها هي المتصدرة لكل قضايا وتحركات العالم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. ورغم كل ما حل بالفلسطينيين من مصائب وخراب لكل اسس حياتهم الا انهم ما زالوا يحملون في حياتهم حلم العودة وأمل اعادة بناء حياتهم المدمرة. وتحمل النكبة وما تلاها من نكبات ومصائب حلت بالشعب الفلسطيني خلال العقود الستة الاخيرة الكثير من ذكريات الماضي، هذه الذكريات التي ترفض مبارحة ديار الفلسطينيين الفكرية والثقافية وتترك بصماتها وآثارها على مسرى حياتهم اليومي. النكبة التي أدّت الى تشتت الشعب الفلسطيني في اصقاع الدنيا وكانت السبب في تحويل مسرى ومجرى تطورهم التاريخي الى الاهتمام بلقمة العيش والكفاح من اجل العودة. هذه النكبة وما تلاها تؤكد اصرار الشعب الفلسطيني على العيش والمضي قدما نحو اعادة صياغة تاريخه وبناء ذاته النفسية والاجتماعية والحضارية ليكون في عداد الشعوب التي تصنع الحضارة الانسانية والعالمية.
" أم الشرايط " نص مسرحي يعكس حدث النكبة وما تلاه من احداث عينية وقعت جراء النكبة، ومحمول كبير من مركبات ومكونات الذاكرة الفلسطينية الشخصية والجماعية التي ما زالت ترافق حياة وهواجس كل فلسطيني اينما كان بنسب متفاوتة، ولكن دون ان تغيب عن الساحة الحياتية.
قصة "صالحة" الملقبة في المسرحية "ام الشرايط " تشبه كثيرا عشرات القصص والاحداث التي وقعت لفسلطينيين افرادا كانوا او عائلات. فصالحة ما زالت تنتظر عودة خطيبها خليل الذي بارح القرية والوطن ووقعت النكبة. وتقوم صالحة بانتظاره في القرية وفي المدينة وعند الشاطئ والميناء. وتعتقد انه سيعود لا محالة في باخرة ما، وتعتقد انه سيعود بعد اسبوع او اثنين على الاكثر، ولكن تمضي السنين ولا يعود خليل ولا اثر له. وتعيش صالحة في ذكريات لها توقفت تقريبا عند حدث فراق خليل ولا تقبل ذاتيا ما كان يدور من حولها من تغيرات في سبل الحياة ومفاهيم الناس.
وتنقل المسرحية مشاهد من تعامل المنظمات اليهودية ـ دون الاشارة الى اسماءها في سياق النص ـ مع القرى والسكان في عام النكبة وفي ظل الحكم العسكري الذي تلا نكبة عام 1948 والذي استمر حتى عام 1966.
مشهد ترويه ام الشرايط (صالحة) كشاهدة عيان عما وقع في عام النكبة لها ولأهل بلدتها من تدمير منازل الاهلين على معظم محتوياتها، وهروب عائلات كثيرة ولجوئها الى قرى قريبة لم تطلها يد التدمير او لجوئها الى خارج حدود الوطن.
مشهد اخر تنقله صالحة وهو المتعلق بالمتسللين. مصطلح "المتسللين " استخدم مباشرة بعد الاعلان عن اقامة اسرائيل واغلاق الحدود وتصريح الحكومة الاسرائيلية ان كل من يحاول من الفلسطينيين العودة عبر الحدود يعرض نفسه لاطلاق النار. ولكن كثيرين من الشباب الفلسطيني صمموا على العودة الى الوطن مهما كان الثمن. منهم من استشهد ومنهم من القي القبض عليه ومنهم من نجح في مهمته هذه واستقر في بلدته او غيرها واقام له عائلة ويعيش فيها هانئا ومستريحاً. ومشهد اخر تنقله صالحة في حوارها الذاتي متعلق بمصطلح " كب " وهذا يعني سياسة القاء الفلسطينيين غير المرغوب فيهم الى مناطق خارج حدود اسرائيل المعلن عنها، خاصة انهم كانوا " يكبون " الفلسطينيين عند مناطق جنين. وهذا مصطلح ينسجم ضمن القاموس التاريخي الشعبي الفلسطيني والذي ما زال مستخدما الى يومنا هذا.ولفت نظري ايضا استخدام مصطلح " الاستحلال " وهو تعبير يستعمله غالباً فلسطينيو الداخل ـ أي الذين بقوا تحت الحكم الاسرائيلي ـ وهو مضاد لمصطلح " الاستقلال " الذي استعملته اسرائيل بكون اعلانها عن الاستقلال المصحوب بإعتراف دول كثيرة في العالم بإقامتها على جزء من اراضي فلسطين التاريخية. ولهذا، ما زال الفلسطينيون يستعملون هذا المصطلح للدلالة على احتلال بلادهم من قبل المنظمات اليهودية في العام 1948.
ويتخذ مفهوم الزمن حيزاً مركزياً في نص المسرحية، اذ ان حدث النكبة هو المركزي والمفصلي في رسم حياة صالحة التي تعكس دون ادنى شك قضية فلسطين بأكملها. فلم يعد باستطاعة صالحة التمييز بين الايام والسنوات فكل الايام تشبه بعضها، وهذا الجانب يدل على ان حدث النكبة ما زال مصاحبا الحياة الفلسطينية بكل مركباتها دون ان يحدث أي تغيير في جوهر وشكل حياة الفلسطينيين " الايام مثل بعضها ... اليوم زي امبارح زي اول امبارح زي اللي قبله..." وكأن شيئا لم يتغير في حياة الفلسطينيين رغم مرور ستة عقود على المأساة التي حلت بهم. ومن جهة اخرى هذا التفكير المسيطر على الفلسطينيين يدفعهم الى التمركز حول ذاكرتهم الجماعية وكيفية السعي الى التعامل معها والحفاظ عليها.
لقد تعرضت صالحة الى تشريد من قبل المحتلين فلجأت الى بيت ام راجح حيث عاشت فيه مدة من الزمن الى ان جاء اولاد ام راجح بعد وفاتها مطالبين بالبيت فحدث تشريد اخر لها. وهي ـ أي صالحة ـ تشير بألم وحزن وغضب الى كيفية معاملة الفلسطينيين الباقين في قراهم وبيوتهم للاجئين بإعتبارهم ـ أي اللاجئين ـ غرباء ولاجئين في قرى فلسطينية. والواقع ان هذا التعامل ما زال مسيطرا على العقلية الفلسطينية في الداخل على وجه الخصوص، اذ ان سكان قرية ما يعتبرون الذين لجأوا الى قريتهم " لاجئين " و " غرباء" حتى لو مرت فترة زمنية طويلة ( " انا لاجئة في بلادنا..."). ويستعمل هذا التعبير لكل ابناء اللاجئين بما فيهم اولئك الذين ولدوا بعد العام 1948.
ومحاولة صالحة العودة الى قريتها بعد تشردها الثاني بأمل ان تعيد بيتها وتعيد بناء حياتها وترميمها من جديد. هذه المحاولة تبوء بالفشل لكون المحتلين قد احدثوا تغييرا في معالم قريتها ومواقع البيوت التي ازيلت انقاضها عن وجه الارض، واحتلت مكان المشهد الفلسطيني التاريخي مشاهد جديدة وحديثة مثل مزارع وحظائر الابقار والسياج حولها. ورغم هذه التغييرات الا انها تصر على البقاء في ارض بلدتها وتتعرف على موقع بيتها. الا ان القادم الجديد الساكن على ارض اباءها يطردها بحجة ان هذه "املاك غائبين". وببساطتها تحاول صالحة ان تعزي سبب طردها لغياب خليل عريسها وعدم عودته الى بيته واهل ديرته. مفهومها البسيط دلالة على غرابة قانون " املاك الغائبين" الذي استنته الحكومة الاسرائيلية لتسيطر على املاك الفلسطينيين الذين هُجّروا وشردوا عن اوطانهم بالقوة والعنف.
ورغم تجريدها من بيتها وقريتها وطردها الا انها تحاول استعادة بيتها وحياة بلدتها واهلها بالعودة الى ذكريات الماضي فتربط بين ذكرياتها الشخصية وذكريات بلدتها وشعبها. وخلال استعادة هذه الذكريات تسرد اسماء شخصيات كثيرة لعبت دورا في حياتها الخاصة وفي حياة مجتمعها القروي البسيط. ولا تفارقها مشاهد التحضير ليوم زفافها والخطط المستقبلية التي كانت تخطط لها لوحدها او بالشراكة مع عريسها خليل الذي انقطعت اخباره عنها. وتستذكر ندى بنت جابر وزكية ام خليل وبطرس جنوفة وهو تاجر اقمشة وام حسين التي حضّرت لها اقراص طاولة وام صابر الحاسدة لها لانها ـ أي ام صابر ـ كانت تريد خليل لابنتها فاطمة. ونايلة بنت خديجة المفلح والدكتور موفق البيروتي والشيخ رضوان طارد الشياطين والارواح وغيرها من الشخصيات التي لها علاقة بصالحة مباشرة او عن قرب. وتستذكر شخصيات لعبت دورا في حياة مجتمعها منها المختار ابو سليمان العارف الذي اعتقد ان تسليم بواريد الشباب سيمنع من العسكر القاء القبض على الشباب ومحاكمتهم وهكذا تصان البلدة. ولكن حصل عكس ذلك اذ القي الشباب ما وراء الحدود(أي كبوهم)،وفرض الحكم العسكري على اهالي البلدة، وبدأ الجيش يبحث عن احد الشباب الابطال محمد ابو دقة دون ان يجده الا بحيلة تعذيب شباب البلدة بعد تعليقهم على اعمدة خشبية والسماح لامهاتهم بإطعامهم، وكان قائد العسكر يعرف من هي ام محمد ابو دقة، ولما اقتربت منه القى القبض عليه وصلبه على مئذنة جامع البلدة حتى اسلم روحه واصيبت امه بالجنون وهامت على وجهها. ان حادثة محمد ابو دقة ظهرت في نصوص ادبية متنوعة كثيرة بأسماء مختلفة، ويبدو ان المشترك بينها هو من فعل المحتل الذي كان يتصرف بنفس الاسلوب في كل القرى والمدن لإلقاء القبض على المقاومين والابطال.( سلمان ناطور يورد قصة عبد الحسن المشابهة لقصة محمد ابو دقة في كتابه " وما نسينا أو سيرة الشيخ المشقق الوجه").
وتعود صالحة الى محاولتها عيش حياة الفرح فترتدي ثوب زفافها وسط تخيلها بالفعل انها تزف الى عريسها خليل فالزغاريد تلعلع في السماء وتسمعها وتتفاعل معها والكل يرقص ويفرح لفرحها، كما كانت تصور لنفسها الى ان جاء من يعكر صفو فرحتها هذا بالاعلان عن قيام العسكر بتعذيب الشباب ورغبة هؤلاء العسكر في قتلهم. فتقرر صالحة انه حان دورها في تقديم نفسها للوطن وللشباب امل المستقبل ليكونوا فتيلة نضالية، فتقدم جسدها للعسكر بدلا من الشباب الذين يفرج عنهم. هذا المشهد الذين تنتهي به مسرحية " ام الشرايط" يعكس واقعا تاريخيا في اغتصاب فلسطين والهتك بالاعراض والشرف واستعداد الفلسطيني للتضحية في سبيل بقاءه على ارضه مستعدا لدخول مستقبل مغاير ومختلف دون ان يكون بعيدا عن ارضه.فالارض تتحول الى المكان الاول في سلم القيم الهامة في حياة كل فلسطيني اينما كان وفي اي ظروف يعيش.
نهاية مؤلمة شخصيا وذاتيا ولكنها تعبير واضح لما حل بفلسطين وسط لا مبالاة من الاشقاء والقريبين الذين وقفوا متفرجين على ما كان يحدث لفلسطين. هكذا وقف اهالي بلدة صالحة يتفرجون عليها فقط غير مهتمين بمستقبلها وما يمكن فعله لانقاذها من براثن العدو القاسية.
مسرحية " ام الشرايط " في عبارة مختصرة تحمل مخزون التاريخ الفلسطيني الخاص بالنكبة وما واكبها من احداث وتحركات مجتمعية وعسكرية وسياسية وانسانية. وبالتالي تعكس حاجة ماسة لبحث كيفية الحفاظ على زخم الذاكرة الجماعية الفلسطينية وكيفية نقلها الى الاجيال القادمة وسط متغيرات سياسية وحضارية وثقافية كثيرة تترك اثرا على حياة وتطلعات الفلسطينيين.
باعتقادي ان هذه المسرحية تحمل الكثير من الذكريات والتخبطات النفسية لكل فلسطيني فقد ارضه وبيته وجاره وعائلته ويبحث في الوقت ذاته عن مخرج من مأساته ونكبته ليعود الى وطنه ويعيد بناء ذاته وحياته.
لقد حقق محمود صبح انجازا في تجنيد الحدث التاريخي وعرضه على خشبة المسرح، ولم يكن بالامكان توفير محيط لنجاح هذا العمل لولا قيام الفنانة القديرة سلوى نقارة بتمثيله. لقد اجادت ـ وهي دائما هكذا ـ تبني شخصية صالحة وحمل كل العبء التاريخي للقضية ومركباتها. وجاء تمثيلها عاكسا بكل وضوح لمضمون المسرحية. عاشت سلوى وعايشت الحضور بكل احداث المسرحية ونقلتهم عبر آلة الزمن الى الماضي مع الاحتفاظ بعودتهم الى حاضرهم ومواجهته.

د. جـوني منصـور
* مؤرخ وباحث من حيفا
تاريخ النشر : 07/05/2005