رمال بلون الدماء

في تلك الليلة وكعادتها في كل ليلة ، لملمت بقايا آمالها ولفتها بشذا مدامعها ووضعتها تحت وسادة نومها وراحت تنتظر .
هو ، وكما عودها في كل ليلة أيضاً ، جاء مسرعاً وركن بندقيته في إحدى زوايا غرفة نومها ومن ثم ألقى برأسه على صدرها واحتضن بجسده المُنهك جسدها النحيل وغط في نوم عميق .
هي ، وكما هو الحال في كل ليلة ، راحت تستنشق عبق أنفاسه فذابت مواجعها في دموع فرحتها بعودته .
مع إنبلاج النور من الظلام استيقظت من أوهامها ونظرت حولها فلم تجده ولم تر بندقيته في مكانها المعهود ، فبدت وكأنها كانت مستلقية إلى جوار نفسها التائهة بين عذابات السنين .
عندها ، وجهت نظراتها صوب سيناء وأرسلت مع نسيم الصباح آهاتها المليئة بالحسرة وأخذت وبذات العبارة التي ظلت ترددها مع بزوغ كل فجر ومنذ ذلك اليوم من عام 1967 ، الذي ذهب فيه ولدها الوحيد إلى جبهة سيناء لمقاتلة العدو والذود عن مصر .. دون أن يعود ، تتمتم :
ولدي ، وإلى أن تعود ، فأنت مازلت وكأنك هنا !


الخلفية التاريخية للخاطرة أعلاه :
في ثالث أيام حرب عام 1967 أرسلت إحدى الوحدات العسكرية الصهيونية رسالة عبر جهاز اللاسلكي إلى قياداتها العليا والتي كانت وقتها تتمثل في كل من ، عزرا وايزمن ، شيمون بيرز ، شارون ، بنيامين نتانياهو وأيهود باراك ، لتخبرها بأن طاقم باخرة التجسس الأمريكية (ليبرتي) ، رصد جريمة حرب إرتكبتها تلك الوحدة العسكرية الصهيونية حين أجبر أفرادها 60 أسيراً مصرياً مكبلين بالسلاسل على الإصطفاف إلى جدار مسجد مدينة العريش ثم قاموا بإطلاق الرصاص عليهم ، لدرجة أن لون الرمال صار داكن الحمرة من دماء هؤلاء ، حسب ما ورد لاحقاً في تقرير كان طاقم باخرة التجسس الأمريكية أعده وتم نشر أجزاء منه في كتاب بعنوان ، جسم الأسرار ، للكاتب البريطاني جيمس بامفورد .
للتغطية على تلك الجريمة النكراء أصدرت القيادة العليا لكيان صهيون آوامرها بتدمير باخرة التجسس الأمريكية (ليبرتي) ، وهذا ما حدث بالفعل وأدى إلى مقتل 34 عنصراً من طاقم الباخرة فيما تم إنقاذ 171 مصاباً آخر من قبل سفن حربية أمريكية كانت تتواجد قريباً من سواحل مدينة العريش بهدف مساندة جيش الكيان الصهيوني في هجومه على مصر .
الرئيس الأمريكي آنذاك ، جونسون والذي كان يتطلع للفوز بفترة رئاسية ثانية بمساعدة أصوات اليهود الإنتخابية ، أمر بإسدال الستار على الموضوع ، كما اتضح فيما بعد .
في عام 1995 وفي إطار حملة تشهير متبادلة بين جنرالات الحرب الصهاينة ، قام أحدهم بتسريب معلومات إلى الصحف العبرية عن تفاصيل جريمة حرب إرتكبها خصمه اللواء أرييه يسحاقي ، فإضطر يسحاقي للإعتراف بـإعدام 300 أسير مصري ودفن بعضهم أحياء .
هذا الإعتراف أثار غضب الجانب المصري وخصوصاً رجال الإعلام والمثقفين فبدأ العديد من هؤلاء بحملة إعلامية هدفها ممارسة الضغط على حكومتهم للكشف عن خفايا ملفات قضية إعدام الأسرى المصريين وبالفعل فقد أثمرت تلك الحملة عن إكتشاف 12 قبراً جماعياَ تحتوي على رفاة 2700 أسيراً مصرياً تم دفنهم أحياء ، وكما أثبتت تقارير الطب الشرعي لاحقاً .
على إثر ذلك تحمس المحامي المصري محمود سعيد لطفي ورفع قضية ضد شارون أمام محكمة جنايات مدينة العريش ، مطالباً شارون دفع مبلغ 60 مليار جنيه مصري كتعويض لأهالي الأسرى الشهداء .
عندها دخلت الإدارة الأمريكية على الخط وبدأت بممارسة الضغوط على الحكومة المصرية ، وكما هو معمول به في سائر بلدان العرب ، في حال ما تعارضت مصلحة العرش مع مصلحة الشعب ، فإن تقديم الأولى على الثانية هو الشيء الطبيعي من حيث أننا كشعوب لا نساوي شيء دون أصنامنا ، ويبدو أن ذلك هو ما حدث بالفعل ، فقد تكممت أفواه كل من رفع صوته مطالباً بالعدالة لإمهات مصريات ، مازال بعضهن ينتظر عودة الإبن الحبيب من الجبهة .

احمد منصور ـ المانيا