الإنتخابات وبرمجة العقول
بقلم : د. محمـد احمـد النـابلسي *


      ما الذي يحدث عندما يشاهد المرء برامج التلفزيون السياسية والغبية أو السخيفة؟ إنها ببساطة تقوم بتدريب وتمرين عملية التفكير لدى المرء. ويستنتج الباحثون أن التلفزيون يقود الى غسل أدمغتنا. وغسيل الدماغ الذي يجري عبر مشاهدة التلفزيون مغاير عن غسل الدماغ التقليدي. ولا أحد ينتبه اليه عندما نصبح مربوطين بالتلفزيون. ومع ذلك دعونا نتمعن ونتحسس ما يحدث لنا كمشاهدين أمام برنامج ما. ألا نجد أننا نبتسم أو تظهر على ملامحنا علائم الحزن أو الانفعال حين نكون منغمسين بانتباهنا نحو مشاهد محددة ومختلفة؟ هذا هو النوع الذي يطلق عليه غسيل دماغ (سوفت). أي عبر التأثر بالمشاهد وما توحي به وتحركه من ردود أفعال داخلية. ولأن التلفزيون أصبح موجوداً في كل بيت فقد تكونت قاعدة أو أساساً لعملية غسل أدمغة المواطنين. وهذه العملية تجري من خلال مبدأ «التوتير» وما فيه من شحنة انفعالات ثم «إطلاق» هذه الشحنة. ولا شك أن خلق توتير ما ضمن مناخ مسيطر عليه عادة ما يزيد من نسبة التوتر وهذه الخطوة تتلوها خطوة أخرى توفر سلسلة من الخيارات التي تؤدي إلى إطلاق شحنة التوتر التي يشعر بها المرء أمام مثل هذه الحالات. وطالما أن المشاهد / الضحية يعتقد أن الخيارات المقدمة هي الخيارات الوحيدة المتوفرة فإنه سيجد نفسه مضطراً لتقبل أحدها حتى لو لم يكن يقبل به للوهلة الأولى. وفي ظل هذه الظروف التي تجري فيها عملية غسل دماغ المشاهد وضمن المناخ المسيطر عليه لا يمكن اعتبار ما يختاره ضمنياً يرتقي إلى التجربة العقلانية. ومثل هذه الحالة لا تتضمن استخدام المرء لقواه الذهنية الخلاقة ويصبح خاضعاً للشرط الواقع أمامه مثل الحيوان لأنه يرد على التوتر بالبحث عن المخرج وإطلاق توتره نحو المخرج نفسه.

ويمكن القول أن المخططين للبرامج التلفزيونية وعرضها يطلقون على المناخ أو الأجواء المليئة بالتوتر تسمية: «الاضطراب الاجتماعي». وهذا «الاضطراب الاجتماعي» يولد أزمات في داخل مفاهيمنا ويتسبب بفقدان التوجه الذي يستبدل التفكير بتقبل الأفكار الجاهزة التي يعرضها التلفزيون. فحين يكون المرء مستسلماً داخل هذه المشاهد والبرامج والتوترات التي تثيرها لا يتوفر له الوقت للجوء إلى دراسة عقلانية أو تأمل عقلاني لهذه المشاكل المعقدة، فالتلفزيون أمامه يصبح الناقل الحساس في تقديم التوتر وخيارات الخروج منه. فهو الذي يعرض لنا صور التوتر ويقدم الأجوبة البسيطة عليها. فيصبح التلفزيون في عالمه شبه الواقعي وبعالم الوهم والهروب من الواقع هو بحد ذاته المخرج الوحيد والهام من وجودنا المتوتر. ويعرب الاختصاصي في غسل الأدمغة عبر التلفزيون (بيكر ) عن اعتزازه بنفسه لأنه يعرف عقول ضحاياه من مشاهدي التلفزيون. ولذلك يطلق عليهم اسم «الساذجين» وفن غسل الأدمغة بواسطة التلفزيون يجري من خلال قوة «الإيحاء» وتلعب قوة الاعتياد عليه بشكل تدريجي بعد تواصل الإدمان عليه قابلية لدى الجمهور في تقبل ما يعرض من صور وأخيلة كواقع. فما يوحي به التلفزيون على أنه «الواقع» يتحول إلى واقع فعلي في أذهان المدمنين المتلقين.

      وبمراجعة الحملة الإنتخابية التي إستندت على الإتجار بدم الرئيس الحريري نجدنا أمام حملة إنتخابية ترتكز على غسيل الأدمغة وتصرف ملايين الدولارات الانتخابية لهذا الهدف. ختى أمكن القول أن المال السياسي في هذه الإنتخابات قد صرف مقدماً في هايد باركات المعارضات اللبنانية المتنافرة. التي لا تلتقي إلا بأوامر السفير فيلتمان.

لقد تم إستغلال المناسبة أبشع إستغلال وتم غسل الادمغة عبر مصادر التوتير التالية:
1. خلق مشاعر الذنب لدى الجمهور بالإيحاء بمساهمته في إغتيال الحريري (يسميها الإختصاص مشاعر الذنب لدى الناجين من الكارثة) مع الإيحاء بأن المشاركة في المظاهرات هو التعويض الوحيد لهذا الذنب.
2. تخصيص برامج تلفزيونية لعرض ردود الفعل لدى مرضى هيستيريين على الحدث. حيث الأطباء النفسيين المشاركين لم يقدموا الدعم (طلبوا من المرضى المجيء الى عياداتهم). بل إكتفوا بتعميم الهيستيريا الجماعية. ومن قواعد الإختصاص تجنب عرض هذه الحالات. لأن عرضها يوحي بأنها واجبة الحدوث لدى جميع المشاهدين. الأمر الذي يعني التسبب بالإضطراب لدى قطاعات واسعة من الجمهور بما يخالف أخلاقيات المهن الطبية.
3. تركيز العدوانية وتوجيها نحو المتهم الجاهز أو المجهز مخابراتياً وهو السلطة برجالاتها ورموزها.
4. الإيحاء بإحتمال بعودة شبح عودة الحرب الأهلية.
5. تفجير المشاعر السلبية ضد السلطة بوصفها بديلة للأب الذي يقمع.
6. التخويف من الإنهيار الإقتصادي.
7. إصابة القوى الأمنية بالشلل ومنعها عن القيام بدورها في السيطرة على ردود الفعل الخاطئة. وذلك عبر إتهامها بالإغتيال. مما ترك الساحة السياسية اللبنانية مفتوحة أمام المظاهرات الأميركية التصنيع على غرار تيميشورار وجورجيا وأوكرانيا وغيرها.
8. جلب التعاطف بفتح الساحة مجالاً لطرح كل المطالب الإعتراضية على حساب المناسبة. مما حول المناسبة للإستغلال على شتى الصعد.
9. تجميع الهامشيين بإيحاء إستمداد القدرة على الفعل عبر هذه الحرب النفسية. خاصة وأنهم كانوا مدفوعي الأجر. ومدعوين لمشاركة الطرف الأقوى المدعوم خارجياً. الأمر الذي خلق منافسة فوضوية بين هؤلاء الهامشيين.

      هكذا وعبر هذه الحرب النفسية التي صرف عليها ملايين الدولارات تمت عملية تعميم الهيستيريا الجماعية في لبنان. مما قمع طرح الأسئلة ومحاولة التفكير وبات على اللبنانيين أن يبدلوا أفكارهم وقدراتهم العقلية بالآراء الإيحائية الصادرة عن التلفزيونات وبقية وسائل الإعلام. فإذا ما جاءت الإنتخابات تحولت الهيستيريا الى سلطة بديلة تقوم بتعيين النواب بدون إنتخاب. وهنا سؤال لا يقبل الإهمال وهو: هل يجوز إستبدال السلطة ( على علاتها) بالهيستيريا؟. فإذا ما حدث فكم تدوم هذه الهيستيريا وماذا نفعل بعدها؟.

      الجواب في هذه الحكاية: كان أحدهم يخاف القطط فهرب من غرفة فيها قطة الى غرفة أخرى فوجد فيها ذئباً. فما كان منه إلا أن عاد الى غرفة القطة. لكن الذئب لعب لعبة ليلى والذئب وأقنع سكان المنزل بالبقاء في غرفته. وهو يستعد لإفتراسهم!!!...

      الجمهور اللبناني سيدرك عاجلاً أم لاحقاً أن الذئب ليس جدته وأنه لايسعى سوى لإفتراسه. فهل يدرك الجمهور ذلك قبل فوات الأوان؟. فالذئب يريدنا ان نقتتل ونحول بعضنا الى جثث كي يتمكن من افتراسها بصورة مشروعة دون ان يتهم هو بقتلها. فمحاصرة دوري شمعون هي تكرار لإغتيال داني شمعون بصورة أخرى. وإستهداف عمر كرامي بقانون الألفين هو إغتيال جديد لرشيد كرامي وبقية إغتيالات الذئب آتية فهل نتفكر في بلد تصل ديمقراطيته الى إعلان قياداته عجزها عن تقرير موعد الإنتخابات وتعديل قانونها وسيرورة إجرائها لغاية تسليمها الى المال السياسي المتحالف مع الذئب.

      ما هو مصير الديمقراطية في بلد يقع تحت السيطرة الإعلامية الكاملة فتترك رسم سياساته للمذيعين والمذيعات المبرمجين مخابراتياً مع إقصاء زعاماته السياسية والعمل على تدميرها دون إعطائها حق الرد!. فالحزن على الحريري لا يعني بحال القضاء على الرموز الفاعلة في السياسة اللبنانية. والبحث عن الحقيقة في إغتياله لا يعني إهدار دم رشيد كرامي.

      ها هو الجنرال عون منبوذ لمجرد سؤاله عن المسؤولين عن إغتيال الإقتصاد اللبناني. وها هي الزعامات الكبيرة مثل كرامي وسلام والحص وفرنجية وشمعون... الخ تعزل لحساب هيستيريا الذئب والمال السياسي. ولم يعد للرأي الآخر من وجود في لبنان فالجرائد اليومية ومعظم التلفزيونات ترفض أي رأي مخالف. وتسايرها في ذلك بقية التلفزيونات.

المسألة تستأهل دراسة حول تكتيكات الحرب النفسية المعتمدة في هايد باركات ساحة الشهداء لأنها فتحت الأبواب أمام تدفق الهامشيين الى السلطة عبر إنتخابات مدفوعة سلفاً.

* الدكتور محمد احمد النابلسي / رئيس المركز العربي للدراسات المستقبلية
19/05/2005