مـحمد رمضـان

أمة "منظمة" و دويلات "فوضوية"
بقلم : محمد رمضان


لعل من أهم وظائف الدولة و أحد أركان مبررات قيامها هو العمل على تنظيم "الأمة" أو "الشعب" و ذلك من أجل الارتقاء بهذه الأمة نحو مستقبل أجمل و أفضل و أكثر ازدهارا مما كان عليه قبل قيام "الدولة" أو "الدويلة" إن جازت التسمية. و حال أمتنا العربية و الإسلامية ينطبق عليه القول المشهور "لا تحسد عليه" أو القول الآخر "يرثى له" و ذلك حين النظر إلى وضع "الأمة" و "الدولة" و هما مصطلحان شائعان في الفقه السياسي عموما و الفقه السياسي الإسلامي على وجه الخصوص, و ذلك لكينونة هذين المصطلحين يلتصقان جغرافيا و ثقافيا و حضاريا بوجود الأمة منذ بزوغ فجر الحضارة الإسلامية و حتى يومنا هذا.

و لعل المتفحص بتؤدة و أناة إلى الحال الذي تحياه أوطاننا اليوم على طول امتدادها الجغرافي و واقعها الجيوبوليتيكي يجد مفروضا عليه من باب المنطق أن يفرق بين واقعين يتباعدان كل يوم حتى أصبحت الزاوية بينهما مساوية للصفر و ذلك لأن كل واقع يتجه في اتجاه معاكس للآخر, هذان الواقعان هما واقع "الامة" و واقع "الدولة". فالأمة حسب مفهومها السياسي و المنبثق من التعريف القرآني لها إنما هي "أمة واحدة" و إن اختلفت الألوان و الأجناس و اللغات و حتى الدين, فشمولية الإسلام تضم أبناء الديانات الأخرى تحت كنفها و وارف ظلالها و ذلك في مساواة ندر أن وجدت في حضارات الكون الأخرى سواء المدثورة منها أو تلك القائمة اليوم بين ظهرانينا. و "الامة الواحدة" إنما هي الحصن الحصين الذي يلوذ به الحاكم قبل المحكوم من أجل نيل شرعية وجوده و بناء "الكيانية" المتمثلة في دولة قوية راسخة لها مهابتها بين الدول الجارة أو تلك التي تبعد عنها جغرافيا آلاف الأميال, و بغض النظر عن قدرات هذه الدولة أو تلك من الناحية العسكرية أو السياسية, إذ أن الاحترام المتبادل و عدم الاعتداء على الحدود أو الرعايا هو الأساس في حفظ العلاقات و استمراريتها.

و الناظر إلى مفهوم "الامة" و محاولة تطبيقه على واقعنا المؤلم اليوم, يجد أن الأمة في كيانها الجمعي من الناحية السياسية و الاقتصادية و العقدية و الثقافية و الاجتماعية و التعاونية, إنما هي أكثر وعيا من حكامها في التعامل مع هذه القضايا, و غيرها من القضايا سواء الأساسية أو الفرعية الأخرى, و لعل الجزء الأكبر من الحرب العالمية "الثالثة" إذا جازت لنا التسمية بالنسبة لحرب "العراق و أفغانستان و فلسطين" إنما هي حرب ضد الشعوب و التي تكون في مجموعها ما نطلق عليه "الأمة" و ليست ضد النظام أو الدولة أو الدويلة و إن كانت في ظاهرها تأخذ هذا المنحى باستثناء الحرب الهمجية العرقية التي تخوضها عصابات صهيون في فلسطين. إن هنا العديد من الأدلة التي تثبت أن الحرب انما هي ضد إرادة "الأمة" و ليست ضد هذا الحاكم أو ذاك, و هو نوع من المماحكات السياسية و الكذب المكشوف الذي أثبتته لجان تحقيق أمريكية و بريطانية و ليست لجان عربية أو حتى منحازة إلى العرب.

إن مفهوم "النظام" أو "التنظيم" في الأمة أو بصياغة أخرى و حسب ما ورد في عنوان المقالة " الأمة المنظمة" إنما يُعنى به أن هناك العديد من المظاهر الاجتماعية و السياسية و الدينية و التي تمارسها الأمة بوعيها الثقافي و عقليتها الجمعية و أخلاقياتها الموروثة, تنساب و بطريقة سلسة في اتجاه " الأمة المنظمة". هذه المظاهر هي التي تخوض أمريكا على وجه الخصوص , و أوروبا عموما حربها من أجل القضاء عليها, لأنها تنبثق من روح الأمة و من روح حضارتها و من عميق انتمائها و أصالة ثقافتها. فهم و قبل حرب العراق الأخيرة يعملون جاهدين من أجل حرب ما يسمونه "الإرهاب" أو جذوره و منابعه و يعملون جاهدين من أجل بتر هذه الجذور و تجفيف هذه المنابع و ذلك بالترغيب تارة و بالترهيب أخرى سواء على صعيد الحكومات أو الجماهير في مؤسساتها الخيرية أو الغير حكومية. من أهم مظاهر هذه الحرب القضاء و التضييق على عمل الجمعيات الخيرية و التي تمثل أحد أهم مصادر الدعم الدائم للعمل الجماهيري الخيري و الذي كانت تدعمه معظم الحكومات ذات التوجه المعتدل مثل الحكومات الخليجية في وقت سابق, و التي فتحت هذا الباب قبل الغزو السوفيتي لأفغانستان, و زاد نشاط هذا النوع من العمل الجماهيري بناء على دعم حكومي بطريقة مباشرة أو غير مباشرة, مع تأييد أمريكي و غربي كامل أو شبه كامل, بل و عملت بعض الحكومات الغربية على العمل مباشرة مع العمل الجماهيري العربي و الإسلامي في تلك الحقبة و ذلك في مجالات متنوعة.

ما يهمنا هنا هو أن القائمين على هذا العمل الجماهيري أو الشعبي, و المنطلق من حضارة و ثقافة تضربان عميقا في التاريخ, هؤلاء كانوا يتمتعون بقدرة غريبة و فائقة على العمل و الإدارة و التنظيم , وكان بعضهم يعمل ساعات طويلة دونما كلل أو ملل, أو حتى أن يتسرب الوهن إلى عظامه. كان هؤلاء يشكلون شبكة خيرية منظمة تمتد في كل أصقاع العالم العربي و الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه و يقومون ببناء المستشفيات و حفر الآبار و محطات التحلية و بناء المساجد و ترميم المنازل الآيلة للسقوط, و شق الطرق و تقديم المساعدات العينية و المالية للمحتاجين و تقديم إعانات و قروض تعليمية لكافة المستويات من التعليم الأساسي و حتى الجامعي على مختلف تخصصاته. إضافة إلى العديد من الأنشطة الأخرى و التي ربما لا تدخل في إطار أو صميم عملهم, لكن يتم تقديرها ميدانيا و زمنيا و حسب الحاجة.

كل هذه الأعمال إنما تدل على قدرة فائقة و رائعة في الإدارة و التنظيم و التنفيذ, إذا ما قورنت بجهود ميتة أو ضعيفة تقوم بها حكومات هزيلة همها الأكبر يكمن في هدفين اساسيين: أولهما الحفاظ على الكرسي و بالتالي النظام و ذلك في وسط إقليمي و دولي يتجاوب مع هذا الهدف طالما أنه يحافظ على المصالح المتعارف عليها في المنظومة الإقليمية و كذلك الدولية, و الهدف الثاني هو جمع جزء من ثروات البلد و تحويلها إلى ثروات شخصية و ذلك أيضا تحت غطاء إقليمي و دولي يضمن بدرجة كبيرة سهولة انسيابية الأموال من مكان إلى مكان و كذلك إيداعها في حسابات سرية للوصول إليها وقت الحاجة و عند اللزوم و في حالات الطوارئ .

لقد أثبت العمل الخيري على امتداده الجغرافي جدارة في إثبات التماسك بين الشعوب المختلفة و التي تكون "الأمة" في مجموعها, و هو الذي يطلق عليه "التكافل الاجتماعي" من خلال أموال ذات مصادر متعددة أهمها الزكوات و الصدقات و التبرعات على مختلف أشكالها كمياتها. إذ أن لدى المواطن العادي ثقة في هذه الجمعيات اكبر بكثير من ثقته في "المؤسسات الحكومية" و ذلك لاحتمالية نهب هذه الأموال و عدم وضوح أماكن الصرف و أبوابها, و في المقابل فان الجمعيات الخيرية تتمتع بدرجة كبيرة بالمصداقية و الشفافية و إبراز كافة المستندات للمتبرع العادي إذا ما رغب في ذلك. إضافة إلى تزويده بالصور و الأسماء و الوثائق التي تثبت حسن الإدارة و الصرف .

ثم إن لدى هذه المؤسسات طواقم جيدة المؤهلات و التجهيز و يتم تنقلهم من مكان إلى مكان بطريقة سهلة و سلسة إذ أن معظمهم يحمل جوازات و وثائق تسمح له بالتحرك المرن و السريع. و لأن مثل هذه الأعمال تسحب البساط من تحت أقدام الحكومات في المنطقة, و تعمل بطريق تدريجية و ربما سريعة أحيانا على سحب الثقة و تشكيل ما يسمى بأجهزة مناظرة لتلك الحكومية, فلقد لجأت الكثير من الدول إلى محاربتها و العمل على التضييق عليها و ذلك بدوافع داخلية محضة, و لكن الأكثر شيوعا هو التعاون مع الأمريكان و الأوروبيين في عملية ما يسمى بتجفيف المنابع و ذلك بدعوى محاربة الإرهاب و هي محاولات كاذبة و مكشوفة تهدف أول ما تهدف إليه إلى قطع آصرة التكافل الاجتماعي ما بين شعوب عربية و إسلامية متباعدة جغرافيا و منصهرة روحيا و عقائديا. الدليل على هذا الكذب "الاوروأمريكي" هو كذبهم الفاضح و المفضوح و الوقح في مسائل حرب العراق و الأسلحة الجرثومية و غيرها إضافة إلى الكذب الصريح في قضايا التعذيب في سجون مختلفة سواء داخل العراق أو فلسطين و ما جوانتنامو عنا ببعيد .

هذه الأكاذيب لا تصب في النهاية "متوسطة المدى " في صالح "الأنظمة" أو حتى "الاوروأمريكيين" لأن حبل الكذب قصير كما يقولون, و هم يدركون ذلك جيدا, لكنها المكابرة و العناد و منطق "التأله" الذي يتعاملون به مع شعوبنا و أنظمتنا على حد سواء. و الإشكالية الكبرى هنا هي إدراك كل من الشعوب و الأنظمة للحقيقة المكشوفة, و هي إضمار "السوء" للمنطقة بأكملها من خلال تحويلها إلى "ولايات اوروأمريكية" تأتمر بأمرهم و تنتهي بنهيهم, مع علم الأوروبيين أن أمريكا أيضا تضمر لهم السوء, و المتتبع للعلاقات "الاوروأمريكية" يجد هذا الأمر واضحا جليا و ليس في حاجة إلى تعمق لانكشاف المستور.

و الديمقراطية او "الدين الجديد" الذي تبشر به أمريكا في منطقتنا فالكل يدرك تماما أن المقصود هو السيطرة الكاملة و الشاملة على المقدرات و نهبها, و ترك شعوب هذه الأمة ترزح تحت قيود الذل و القهر و الجوع و المرض و ما خفي كان أعظم. و صندوق الانتخابات "النزيهة" هو الفيصل بين "الأمة" من جهة و بين الجهات الأخرى, ان لدى الشعوب انحيازا كاملا نحو أصالتها و ثقافتها و تاريخها و حضارتها و وعيها الجمعي و ذاكرتها الرائعة فهي و بكل فخر لا تزال تذكر قادتها اللامعين و الأفذاذ على طول تاريخها الناصع, و لا يظنن ظان, أن هذا التاريخ إنما هو مجرد ذكريات نلوكها أو نجترها في أوقات الهزائم, هذا كلام غير صحيح على الإطلاق لأن عمر المختار و عبد القادر الجزائري و احمد ياسين و غيرهم كأطفال فلسطين و مقاومي العراق إنما هم قادة لا يقلون في عزيمتهم و مضائهم عن قادة سبقوهم, انه الرحم الذي يلد كل يوم قادة جددا.

إن الدولة أو الدويلة بشكلها "العربي الإسلامي المعاصر" ليست لديها مقومات البقاء أو الصمود, و هي هشة سريعة الكسر لأسباب عديدة و مختلفة, فأي دولة هذه التي يوهمها أعداؤها أن "شعبها هو عدوها" ؟؟ و أي دولة هذه التي لا تسخر طاقاتها البشرية و تستثمرها في سبيل رفعة شأنها و تقدمها؟؟ و أي دولة هذه التي تصل نسبة الأمية فيها إلى 50% أو أكثر؟؟ و أي دولة هذه التي لا تستثمر مصادرها و أموالها في الوجه الصحيح و السليم؟؟ و أي دولة هذه التي تبني جيشها لحراسة حدود غيرها أو لحماية حاكمها؟؟؟ و أسئلة كثيرة كثيرة لا داعي لحصرها لأن أي مواطن عربي يستطيع أن يحصيها في جلسة على مقهى بشارع العاصمة الموقرة هنا أو هناك. ان "الفوضى" التي تعيشها الدولة اليوم هي أحد المؤشرات الأساسية لاقتراب انهيارها لأن الأركان التي تعتمد عليها من قوة أو مال أو دعم خارجي لن تستمر, إنها حالة "استثنائية" لن تستمر طويلا.

ان "الأمة" لا تموت و لا تنهزم و لا تسقط, و هي باقية نراها كل يوم في أطفال فلسطين يحملون حبات العرق بأيديهم و يقذفونها في وجه محتل غاشم أو فاسد آثم, و نراها في عراق المقاومة الباسلة تلقن الأعداء و ذيولهم كل دروس الفخار و المجد, و نراها في جامعات أصيلة من شباب ناصع الثقافة و الفكر و الانتماء يخرجون في المشارق و المغارب يحملون في قلوبهم هموم الأمة و حضارتها, يؤكدون و دموعهم في عيونهم أنهم منتقمون لاغتيال مؤسس و قائد حماس, نراهم في النقابات المختلفة, نراهم في انتخابات هنا وهناك يجتاحون الزور و التزوير و يرفعون أيديهم بشارات النصر القادم في عيون الورد و الزهر الخارج من رحم المعاناة القاتلة.

ان الأمة "قوية" و الدولة "هزيلة", قوية اذا ما أطلقت طاقاتها و استغلت مواردها و هي إلى انتصار, أما الدولة او الدويلة فهي هزيلة و هي حتما إلى اندثار, و لو بعد حين.

محمد رمضان ـ فلسطين
تاريخ النشر : 20:26 19.08.04