مـحمد رمضـان

زغـرودتـان
بقلم : محمد رمضان


تعودت أن تأوي إلى فراشها كل ليلة و هي تحمل ألف دمعة في قلبها و من عينيها تنهمر, تتذكر بيتها القديم الذي دمره المغتصبون, كيف أخذت تجمع بقايا الأقلام و الكتب و الدفاتر, بعض الملابس المدرسية القديمة, و أدوات المطبخ من بين الركام المتبقي بعد نسف البيت, كيف جاء الجيران و الأقارب يقدمون لها المساعدة, فهذا يقدم فراشا, و ذاك يقدم غطاء, و الثالث طعاما, و الرابع بعض آنية المطبخ...

تتذكر ابنها "مجاهد" الشهيد الذي مضى إلى عليين في منتصف شهر رمضان, و هاهي الليلة منتصف شعبان, عشرات الذكريات تتناوش رأسها المثقل بهموم الوطن....., أمهات الشهداء, الأرامل, اليتامى من الأطفال كالورود, قتلهم اليهود دونما رحمة أو شفقة, الرصاص, صوت الدبابات تقتحم سكون الليل, و تدمر الأحلام الهادئة الرائعة في قلوب العاشقين, حتى الأحلام التعيسة, يدمرها أزيز الرصاص و الانفجارات.... توقظ الأطفال من نومهم, ..... لكن النوم إلى عينيها لا يأتي... تحس بروحها أن هناك شيئا سيحدث, تتذكر رؤياها قبل أيام, و "مجاهد" يمسك بيد أخيه "أحمد" و يبتعدان عن البيت, تحاول نسيان الرؤيا, لكنها-الرؤيا- تهاجمها في كل حناياها و شوارعها و تفاصيلها بل و تسري في جسده سريان الدم في العروق.....

تحلم يقظة في زغرودتها التي أطلقتها مدوية في عنان السماء يوم جاءها البشير يزف إليها نبأ استشهاد ابنها البكر "مجاهد" في عملية بطولية ضد المغتصبين...
كيف أطلقت زغرودتها الطويلة تلك ؟؟
تحمد الله أن ألهمها ذلك....
تتذكر "مجاهد" و هو يملأ عليها البيت حيوية و شقاوة و هو طفل وهو شاب....
يأتي لها بهداياه الحلوة ....
يغني مع مسجله الصغير كصبي صغير .... و يردد أحمد و أخواته الصغيرات وراءه

أن تدخلني ربي الجنة...............هذا أقصى ما أتمنى

ينام مجاهد في حضنها الدافئ و هو ابن العشرين ربيعا و يقول لها :
- تخيلي يا أماه أنني أموت شهيدا في سبيل الله
- كفاك شقاوة يا حبيبي... أنت كبرت و بدي أفرح فيك
- يضحك... تفرحين بي في الجنة إن شاء الله
- تبتسم.. تقبله قبلتين ... الله يرضى عليك يا بني
- إذن موافقة .... يقول بصوت عال... و يقفز من حضنها و يقبلها... و يمرغ شفتيه على خديها و صدرها.... و تنسكب دموعهما.... و تجمع الأم دموعها و دموع ابنها بيديها ثم تمسح وجهها و وجهه بخلطة من دموعهما.....

تتذكر كيف جاءها المهنئون و المهنئات من كل حدب و صوب يحملون في قلوبهم الحب و الغيرة و ربما الحسد, ما أسعدها أم مجاهد, هاهي تقدم ابنها شهيدا.....
- مبروك يا أم الشهيد
- الله يبارك فيكم و عقبال كل مشتهي وكل مشتهية
- الله يجمع بينكم في الجنة إن شاء الله
- مين قدها أم مجاهد!!!
- يا ريت واحد من أولادي يستشهد
- و الله ابني الثاني "أحمد" كل يوم يقولي أنه رايح يستشهد
- يا أختي بيكفيكي واحد, خلي لغيرك....

تتذكر كيف حبات المطر تتنزل من السماء فترسم على الأرض لوحات من الجمال الخلاب يتيه فيها الشعراء و الأدباء و يشرب منها الفلاحون و يزرعون و يتمايلون في جنات حقولهم و نسماتها الفواحة تملأ الكون....

ترى ما وجه الشبه بين الدموع و المطر؟؟
هل الدموع ترسم الفرح على عيون الأطفال وعلى وجنات الوطن الجريح؟؟
هل صحيح أن الدموع تروي قبور الشهداء؟؟
هل صحيح أن دم الشهداء يروي الأرض؟؟
هل صحيح أن دم الشهداء ينبت براعم الشهداء القادمين؟؟

تنظر إلى زوجها الذي يتقلب في فراشه يمينا و شمالا, يذكر الله, يستغفره, تضع يدها اليمنى على جبينه, تقرأ آية الكرسي و الفاتحة و المعوذتين.... حتى ينام أبو مجاهد ليستيقظ عند الفجر و يبدأ يوما جديدا من الكد و السعي وراء الرزق....

و بينما هي تناجي إبنها "مجاهد" و دم الشهداء و تقرأ القرآن في شريط متواصل, بعد منتصف الليل بقليل تسمع صوت رصاص و انفجارا ضخما يهز القرية بأكملها...

ذهبت إلى غرفة ابنها أحمد, و يا للمفاجأة.... أحمد ليس في فراشه؟؟؟
- أين هو؟؟
- تجيب على نفسها.... استشهد ... اشهد أن لا اله إلا الله.... و لا حول و لا قوة إلا بالله... إنا لله و إنا اليه راجعون...

شرعت تدور في ساحة البيت, تسبِّح و توحِّد و تهلِّل....
تبحث عن زغرودتها الثانية,
فتشت عنها في كل مكان,
في فراش أحمد,
في بقايا و أصداء زغرودتها الأولى,
في حنجرتها و بقايا من صوتها,
في ضوء القمر, في النجوم, في الثرى,
في جدران البيت, في شوارع الحارة .....

دق الباب.... أسرعت.... فتحت.... و قلبها هناك عند زغرودتها الأولى
- أأزغرد زغرودتي الثانية؟؟
- نعم يا أماه.... هنيئا لكم و لأحمد الشهادة....

انطلقت الزغرودة الثانية...
تعانق الزغرودة الأولى....
في سماء الوطن...

محمد رمضان ـ فلسطين
تاريخ النشر : 18:04 28.08.04