الطفلة العارية
بقلم : محمد رمضان


فراس طير له جناحان من نور يحلق بهما في سماء طفولته
فراس يبحر بسعادة في يم من أزاهير و رياحين تتألق به في ربيعه السابع
يرجع من مدرسته يقفز كالأرانب يمنة و يسرة في بيته الصغير في المخيم
تبحث أمه عنه تارة تحت السرير
و تارة أخرى يختبئ منها في دولاب الملابس
و ثالثة يتوارى وراء باب هذه الغرفة أو تلك
ينتظر أن تبحث عنه أمه هنا أو هناك في لعبة يعشقها كل يوم
و حينما يطول انتظاره لها و هو في مخبئه السحيق
يقلد أصوات القطط أو العصافير
كأنما يستحث أمه للإسراع في البحث عن عصفورها

تبدأ أمه رحلة البحث, فإذا ما أخطأت الطريق إليه, قفز من عشه المخبوء في دهاليز البيت و زواياه صارخا:
-     واحد/صفر, أنا واحد و أنت ِ يا ماما صفر
و يتسلق على كتفي أمه, و تسير به الأم إلى المطبخ و هو يهز قدميه على ظهرها و يقول:
-     هل ترغبين في اللعب مرة أخرى؟؟

و لكنه و ليس كعادته كل يوم, يرجع اليوم من المدرسة مهموما محزونا
تكاد دموعه تتناثر على خديه الورديتين و يصرخ و قد غدا وجهه شاحبا مصفرا:
-     أماه..... هل سمعت ِ؟؟ هل سمعت انفجارات الأمس, اليهود نسفوا بيت "سلوى" في المخيم الغربي, واحترقت كل ملابسها و دفاترها و كتبها... و جاءت اليوم إلى المدرسة بلا شنطة و بملابس رقيقة و كانت أسنانها تصطك من البرد اصطكاكا, و طلبت المعلمة منا أن نحضر لها ملابس و كتبا

تحضن الأم طفلها, و تتمتم بآيات و أذكار, و تقبله و تحبس في عينيها دموعا لو أتيح لها العنان لأغرقت الأرض َ و من عليها و ما عليها, تطبطب على صدره هنيهة, تتحسس خصلات شعره أخرى, تضيق الدنيا في وجهها, تردد في صدرها و على شفتيها الحزينتين كلمات:
-     يا رب هذا الكون أنت أعلم بدعوتي و بما في قلبي .... فاستجب لي يا الله

يصحو فراس على دمعات من عيني أمه يتساقطن على خده الرقراق و يقول:
-     ما هي دعوتك التي لا يعلمها إلا الله يا أمي؟
تحدق في وجهه و قد ظنته نام,
تتوجه و طفلها إلى صندوق به كل ملابسه, و تقول:
-     خذ ما شئت من هذه الملابس لزميلتك "سلوى"
يتناول فراس "بلوزة" شتوية و بنطالا جديدين, و طاقية من صوف لم يلبسها بعد و ملابس داخلية شتوية جديدة, و شمسية صغيرة أهداها إليه خاله قبل أيام,
تكوي أمه الملابس, تضعها في حقيبة مدرسية صغيرة, يفرح فراس و يقول:
-     كل هذا ل"سلوى" يا أمي
-     نعم يا ولدي, و تحاول أن تخفي عنه دموعا حبيسة في ينابيع مآقيها

في صباح اليوم التالي يحمل فراس على كتفه شنطتين, و يذهب إلى معلمته و يقول:
-     هذه الشنطة و ما فيها ل"سلوى"
تضمه المعلمة إلى صدرها, و تحاول أن تبوسه, يحمر وجهه, يرفع كتفيه ليغطي خديه و يتلافى قبلتها, تبوس المعلمة جبينه الرقراق و تقول:
-     أنا مثل أمك يا فراس
ترتدي "سلوى" الملابس الجديدة, و تبتسم و لا تسعها الدنيا و تقول لفراس:
-     هل ستحضر لي قلما غدا يا فراس؟؟
يُخرج فراس من شنطته قلما و يقدِّمه لها

يعود فراس إلى بيته, ولا تزال كلمات سلوى ترن في أذنيه, و نزلت الكلمات كالصاعقة على سمع أمه و لم تستطع أن تحبس دموعها هذه المرة خلف أسوار عينيها:
-     هل ستحضر لي قلما غدا يا فراس؟؟
تبكي الأم, ينظر إليها فراس ببراءة الزهور التي تزين ربيعه السابع و يقول:
-     ما هي دعوتك التي لا يعلمها إلا الله يا أمي؟
تستجمع الأم كل جرأتها و تجازف بكل انضباطها و التزامها و تقول:
-     دعوتي يا فراس - و تهطل دموعها مدرارا على وجنتيها و ترفع يديها إلى السماء عاليا - يا رب هذا الكون من رأى عذابات هؤلاء الأطفال في العراق و فلسطين و أفغانستان من حكام العرب و المسلمين و كل العالم و كان قادرا أن يفعل لهم شيئا و لم يفعل, فلا تجعله يا رب يشم رائحة الجنة
نظر فراس إليها و انحنى نحو قدميها يقبلهما, و يشم رائحتهما, و يمرِّغ خديه فيهما, و يعضهما حينا آخر, قالت له أمه:
-     ماذا تصنع يا فراس؟
-     أشم رائحة الجنة, قالت لنا المعلمة: "الجنة تحت أقدام الأمهات"....

محمد رمضان ـ فلسطين-غزة
mohammadramadan2000@yahoo.co.uk

26.11.2004