الرصاصة التي قتلت رابين أحيت شارون
بقلم : نضـال حمد ـ اوسلـو

الحياة داخل الأسوار الصهيونية الكبيرة وخلف الجدار العازل لم تعد حياة نعيم وراحة وهدوء، فقد أصبح خطر التطرف اليهودي يهدد الغيتو الصهيوني نفسه ومن داخله. حيث تقوم الجماعات المتطرفة بكتابة شعارات تعلن اعتزازها بصرع رابين واستعدادها لسحل شارون. وأخرى تهدد بقتل كل من يفكر بالانسحاب من أي شبر من أرض فلسطين المحتلة. أو يريد السلام حتى على طريقة شارون البعيدة كل البعد عن السلام.

لكن التجمع الصهيوني المتناقض يفرز أحياناً بعض الأصوات التي تعبر عن تلك الخلافات والتناقضات من خلال تصريحات نخبوية تظهر أحياناً هنا وهناك. ومن تلك التصريحات ما نشرته صحيفة هآرتس قي موقعها على الإنترنت قبل أيام، وتعود للكاتب اليهودي ذي الأصول العراقية سامي مايكل, أكد فيها أن الحاخامات و(المستوطنين) عبارة عن جماعات مسلحة تعيش على حساب العامة. وهاجم أفكارهم المتطرفة واتهمهم بالتسبب في الصراع مع الفلسطينيين بسبب مواصلة وبقاء (الاستيطان) والاحتلال في الضفة والقطاع.

كما هو معلوم فقد كانت الإشكنازية السياسية والثقافية اليهودية هي المسيطرة على الكيان الغريب الذي شيد في فلسطين المحتلة فوق جماجم أبناء فلسطين, الذين قتلوا نتيجة ما يسمى حرب استقلال "إسرائيل" أي نكبة وضياع فلسطين. وهناك أيضاً نشأت حركات التطرف والاستيطان الاستعماري، حيث أن أكبر حقبة استيطان استعماري وضم الأراضي, حصلت في ظل حكم حزب العمل. ثم انتقلت حماها لليمين وبقيت بعهدته أمينة حتى يومنا هذا. ونفس تلك الإشكنازية الغربية تنظر لليهود المشرقيين (سامي مايكل واحد منهم) باعتبارهم جماعة من المتخلفين والجهلة. وقد كانت تلك النظرة مهيمنة على المزاج الصهيوني الحاكم في كيان الاستعمار الصهيوني، حيث أنه كيان تمييزي. لكن سامي مايكل وشيمون بلاص وآخرين من الأدباء اليهود الشرقيين أسسوا مدرستهم الأدبية الشرقية والتي استطاعت الوقوف في وجه المؤسسة الأدبية الإشكنازية الرسمية. وكان الصهاينة يقولون بسخرية عن هؤلاء الأدباء إنهم عرب أكثر من العرب أنفسهم...

في حوار له مع صحيفة هآرتس الصهيونية اعتبر سامي مايكل أن الحاخامات و(المستوطنين) المتطرفين "ميليشيات يهودية مسلحة تعيش على نفقة العامة", وأنهم يعارضون خطة الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة (عام 67). وأضاف أنهم "أصبحوا جماعة غير مفيدة تجمع كل مواردها الأيديولوجية الدينية لفرضها على الأغلبية الصامتة التي تؤيد الانسحاب من غزة"..

كما تحدث عن العمليات الفلسطينية ضد المدنيين (الإسرائيليين) معلناً رفضه لها معتبراً أن تلك العمليات المرعبة تؤثر في خيارات (الإسرائيليين) واهتماماتهم. وأنها تستغل من قبل المتطرفين اليهود لغسل أدمغة الناس وصرفهم عن حقيقة أن الضفة الغربية وقطاع غزة هي أراض محتلة. لكنه بنفس الوقت أعلن عن تفهمه لحق حماس في قتال المتطرفين اليهود... "لماذا نسمي مقاتلي حماس وحزب الله إرهابيين؟ لماذا؟ لأنهم يحاربون دفاعاً عن أرضهم".

وكان الروائي مايكل فجر قنبلة من العيار الثقيل يوم رفض في لقاء صحفي تعريف مقاتلي حماس بأنهم إرهابيون. منطلقاً في ذلك من قناعته بأنهم يقاتلون التطرف اليهودي (الاستيطان والاحتلال) في المناطق الفلسطينية المحتلة (الضفة والقطاع). وقد برر الكفاح الفلسطيني ضد المستوطنين المستعمرين. الذين سرقوا ويسرقون وسلبوا ويسلبون الفلسطيني أرضه وأمنه، ويرددون يومياً لن نغادر أبداً! ويقول مايكل معقباً على ذلك "كيف سترد على هذا؟".

كلام مايكل يعزز الحقيقة التي تقول إن التجمع (الإسرائيلي) لا زال ممنوعاً من النظر إلى الحقيقة بعينين مفتوحتين على الواقع والحقائق، ومن دون النظارات السوداء التي تحجب الرؤية عن الكثير من الناس العاديين وتترك المجال مفتوحاً والباب على مصراعيه للتطرف وللحجج التي يسوقها عتاة الفاشية الصهيونية في فلسطين المحتلة. ففي هذا الزمن الذي يعتبر فيه بعضهم جزار العصر شارون معتدلاً, مقابل تعنت وهمجية ورفض المتطرفين اليهود لخطته الداعية للانسحاب من قطاع غزة. وحيث يعلن هؤلاء "قتلنا رابين وسنقتل شارون أيضاً", ويهددونه بشكل علني، ويكتبون شعاراتهم على جدارن القدس المحتلة، التي يعتبرها اليهود عاصمة كيانهم. مع العلم أنه لم يغب عن بالهم التأكيد أيضاً على ما يرددونه دائماً "الموت للعرب".. هؤلاء هم الوجه الحقيقي للتجمع الهمجي الذي أعد خلال خمسين سنة من الحقد والكراهية لمعاداة العرب. ورغم وجود وجوه قليلة مسالمة وتريد السلام فعلاً لا قولاً فقط (ولكنها لا تأثير لها على التجمع الصهيوني العنصري)، إلا أن التطرف اليهودي الصهيوني لا زال الأقوى في تجمع الاحتلال. وها هو الآن ولعله يريد أن يحيي ذكرى تصفيته لرابين على طريقته، فقد ظهرت الشعارات على جدران القدس لتعيد للأذهان حادثة اغتيال الجنرال رابين على خلفية معاهدات السلام مع الفلسطينيين.

إن حلول ذكرى اغتيال رابين على الأبواب وتأتي مباشرة بعد ذكرى وعد بلفور المشئوم، والفرق بين التفكير الصهيوني الذي كان سائداً في زمن بلفور ومن ثم في زمن رابين وبين التفكير الحالي في زمن شارون ليس كبيراً جداً. فإما أن تكون إرهابياً صهيونياً مع قتل العرب وسرقة أراضيهم وسلبهم أمنهم وتهديد حياتهم ورفض السلام الحقيقي معهم أو أن يكون مصيرك كمصير رابين. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الرصاصة التي قتلت رابين قد أحيت شارون، وهي نفسها قضت على يسار ما يسمى (إسرائيل) ونهضت باليمين. ومن هنا نقول ليست مزحة ولا هي دعابة أن يقول البعض إن شارون صار معتدلاً أو أصبح رجل سلام! ففي هذا الزمن الرديء كل شيء يسير كما تريد إدارة بوش، ولا شيء يسير في إدارة بوش بعكس ما تريد منظمة إيباك الصهيونية. والحقيقة هي أن شارون لم يكن معتدلاً في حياته ولن يكون قبل مماته. كما نعرف ذلك من دون قراءة فنجانه. الجنرال شارون يؤمن بما يقوم به وبما فعله سابقاً ولا يوجد لدينا أدنى شك في ذلك. وهو يؤمن تماماً بترانسفير الفلسطينيين إلى ما يسميه هو نفسه الوطن البديل (الأردن). أما خطته للانسحاب من غزة، فهي مسألة تكتيكية آنية. تعود لعدة عوامل إستراتيجية أمنية عسكرية وإعلامية. أما مشكلته مع قطعانه الاستعمارية المتطرفة فهي تعود لكونهم لا يفهمون التكتيك. فهو يفهم ماذا يريد بينما الرعاع والغوغاء من قطعان الإرهاب المتطرفة لا يفهمون لغة التكتيك، بل يريدون منه أن يبقى شارونهم الدموي، الهمجي المعروف بتاريخه البشع والذي لا يتكتك ولا يصطنع الكلام. وهم لا يفهمون سوى لغة البطش والإرهاب، فقد تربوا بهذه الطريقة وعلى هذه اللغة منذ البداية، حيث كان شارون من أولياء أمورهم ومن المربين والمعلمين القدماء، لذا هم مصدومون بتكتيكاته. مع أنها في نهاية المطاف لمصلحتهم فقط لا غير!

لن يصبح شارون معتدلاً ولو اعتدلت كل الدنيا، فهذا الرجل توءم للإرهاب، وفي تآخ مع الدماء، ولم يبدل جلده أبداً، لكنه الآن وحين احتاج الأمر أخذ يناور ويحاور ويراوغ حتى يتمكن من الخروج بأقل الخسائر من رمال غزة التي تتحرك بقوة. فشارون بدأ يعي أن لعبته الدموية أوشكت على نهايتها وأن الحجر الفلسطيني الصواني الصلب لا ينكسر بسهولة. ومن الأفضل له الانسحاب إلى خارج القطاع ومحاصرته من الخارج بغية خنقه والتحكم به كلياً من دون التورط والمخاطرة في دخوله إلا عند الضرورة القصوى. لكن الخطة لا يمكن أن تنفذ بدون سحب (المستوطنين) من القطاع. وهنا تكمن المعضلة، حيث دبت الخلافات بين شارون وقطعانه (الاستيطانية). فهم يريدون البقاء بأي ثمن وشارون لا يريد دفع ذلك الثمن لأجلهم، بل يريد أن بغلق غزة ويحول القطاع كاملاً إلى سجن كبير للصغار وللكبار ومفتاحه بيد الجيش (الإسرائيلي) من البر والبحر والجو.

والخطوة الشارونية تأتي لمنع الحل السياسي المفترض ولوقف أي تقدم في عملية ما يسمى السلام كما كان صرح مؤخراً مدير مكتبه فاسيغلاس. وإذا ما تذكرنا أن حكومة شارون لم توافق على خارطة الطريق وقد وضعت تحفظات كثيرة عليها, فإننا نفهم أن إعادة الانسحاب ليست لصالح السلام المزعوم والحل, بل لتكريس مبدأ الخناق والحصار والإغلاق وسد الطريق أمام أي حل ممكن. خاصة أن الحكومات العربية والاتحاد الأوروبي لا زالوا يؤكدون على خارطة الطريق وضرورة التزام الأطراف المعنية بها وتطبيقها، بغية قيام دولة فلسطينية!

الاتحاد الأوروبي يعرف بدوره إلى أين ستؤدي خطة شارون، خاصة أن فيها بنوداً تتحدث عن تقوية (الاستيطان والمستوطنات) في الضفة الغربية بعد الانسحاب من قطاع غزة، كما أن الكنيست سيصوت على ضم أراض في الضفة الغربية للكيان (الإسرائيلي)، وهذه سابقة خطيرة وتعتبر جديدة. كما أنه يجب علينا التذكير حين تنفع الذكرى، بأن الذي يجري الآن في خان يونس وجرى قبله في جباليا ورفح هو الشكل الأساسي والوجه الحقيقي لمشروع شارون ولخطته العتيدة.

وقد صدق الروائي سامي مايكل عندما قال إن هذه الحكومة تقوم بغسل الأدمغة للعامة, وليسمح لنا مايكل أن نضيف أن غسيل الأدمغة ليس للعامة فقط بل للآخرين، للأمريكان وبعض الأوروبيين وغيرهم من المعنيين وغير المعنيين.

نضـال حمد ـ اوسلـو
04-11-2004