داء الفوضى
بقلم : نضـال حمد ـ اوسلـو

في وقت انشغلت فيه الأوساط الفلسطينية بالانتخابات والمرشحين لرئاسة السلطة الفلسطينية العتيدة التي يعتبرها البعض مثل الدولة الوليدة. كانت حمى الفوضى التي تغلي على نارها كافة مناطق فلسطين المحتلة تحرق إعلاميا جديداً ، أصيب بالخطأ نتيجة خلاف عشائري بين عائلتين غزيتين. فقد تصادف مرور الإعلامي عبد الله السعافين مدير قناة الحرة الأمريكية "التي تنشر العهر الأمريكي في بلادنا العربية" في مكان "الطوشة" أي العراك بين العائلتين . حيث تعرضت سيارة الأجرة التي كان يستقلها لطلقات نارية أصابته في الصدر والبطن. وليس للسعافين أي ذنب سوى انه كان عابر سبيل في تلك المنطقة. وما أصابه قد يصيب أي إنسان في أي مكان من القطاع وفي أي وقت من الأوقات. فأوقاتنا الفلسطينية غدت صعبة وعصيبة، وزماننا الفلسطيني صار يصبغ بالصبغ الأجنبي، كأن توقيتنا الوطني لم يعد بالتوقيت الملائم للزمن الحالي، توقيت ما بعد رحيل عرفات وبروز نهج القات السياسي الذي لا يمكن هضمه، لكن بالمقابل يمكن مضغه، ثم القيام بفك تأثيره وبصقه بعد تناول جرعة أو جرعات من شراب ما خاص يخفف من وجوده وتأثيره في الجسد ، لأنه يكون قد دخل الجسم وأخذ يسري مع الدماء.

تم إسعاف عبد الله السعافين من قبل المسعفين وقاموا بنقله الى المستشفى في قطاع غزة، لكن لسوء حالته وخطورة إصابته تقرر نقله الى القدس حيث مستشفى هداسا ? عين كارم. هناك يرقد في سريره و من هنا نتمنى له الشفاء والعودة الى عائلته حرا معافيا وخاليا من داء الفوضى الفلسطينية وكذلك من داء قناة الحرّة الأمريكية.

وكانت نقابة الصحافيين الفلسطينيين قد اصدرت بيانا تضامنيا مع السعافين واستنكارا للحادثة. ونأمل أن يساهم البيان المذكور في وضع حد للفوضى، فقد يجد آذانا صاغية عند المعنيين من المنهمكين في ترتيب البيت الفتحاوي وبيت السلطة الفلسطينية العتيدة، حيث ان أجهزة أمنها التي من المفروض ان تحفظ الأمن وتصون أمن الشعب والمواطن هي نفسها تمارس الفوضى والفساد والانفلات. وهي بذلك تجسد واقع حال فتح والسلطة والأجهزة الأمنية التي تتقاسم المناطق والعشائر والدوائر والمؤسسات والجبايات والسرقات والغنائم والممنوعات وأضف لذلك أيضا الاتفاقيات و التنازلات.

داء الفوضى الذي استشرى في مؤسسات فتح والسلطة امتد ليشمل الرؤوس الكبيرة ، فبعد ان أعلنت فتح توحدها حول مهندس اوسلو ابو مازن في ترشيحه للانتخابات الرئاسية،وبعد ان أرسل قائد فتح في الضفة الغربية الاسير مروان البرغوثي رسالة مع احد أقطاب مبادرة جنيف "قدورة فارس" يعلن فيها سحب ترشيحه الأول لرئاسة السلطة،عاد البرغوثي وفاجأ الجميع بتقديم طلب ترشيح جديد للرئاسة مما وضع فتح في وضع حرج وفتح باب الصراع الفتحاوي الداخلي على مصراعيه. وهذا بحد ذاته لا يخدم سوى الفوضى التي يعيشها المجتمع الفلسطيني بسبب سلطة اوسلو والاحتلال وتفرد فتح في الهيمنة على كل شيء في البيت الفلسطيني. لكن فتح ليست وحدها الملامة على الفوضى فهناك فصائل المعارضة الوطنية والإسلامية الفلسطينية وبالذات الفاعلة منها، فهؤلاء يتحملون مسئولية تاريخية أيضا لأنهم يمارسون دور الشاهد الذي يرى كل شيء ويعمل كأنه لم ير شيئاً. وهم لا يقدمون برنامجا وطنيا للإنقاذ ولا أية خيارات بدلية عملية، لم ير الشعب منهم سوى ترديد شعارات المقاومة والانتفاضة، و ما نفع التضحيات اذا لم يتم استثماراها سياسيا ؟ ألم يسأل هؤلاء أنفسهم هذا السؤال وهم يودعون الضحايا والشهداء يوميا منذ بداية الانتفاضة المجيدة؟ وهل قاموا بجرد حساب لحصاد الانتفاضة السياسي والاستراتيجي؟

داء الفوضى أخطر من داء اوسلو وأخواتها ، ودواء أو علاج تلك الأوبئة لا يوجد في متناول يد أقطاب السلطة وحركة فتح فقط لا غير. إذ كيف سيقوم طبيب بمداواة الناس وهو عليل؟..العلاج يكمن في البيت الفلسطيني الكبير الذي يجمع كل الفلسطينيين تحت سقف البرنامج الوطني الشامل، برنامج القواسم المشتركة والطروحات العقلانية التي تستطيع الجمع بين مشروعية الكفاح المسلح كما أقرته القوانين الدولية وبين الحلول السلمية والمفاوضات والتعامل مع المبادرات الدولية. لكن كي يتم ذلك على الفلسطينيين ان يكونوا ديمقراطيين بالفعل لا بالقول فقط، وأن يؤكدوا ذلك عبر الدعوة لاستفتاء فلسطيني عام يشمل كل الفلسطينيين أينما كانوا حول مستقبل قضيتهم وحول من له الحق بتمثيلهم، وحول دور السلطة الفلسطينية بالذات، ما هو واين حدوده وصلاحياته؟؟؟ لأن السلطة لم تكن ممثلهم كلهم، ومازالت تمثل جزءا معينا منهم، في منطقة معينة من فلسطين المحتلة فقط... فالسلطة لا تمثل شعب فلسطين في الشتات، ولا أهل فلسطين داخل الخط الأخضر في مناطق ال1948، مع أنها حاولت ان تجعل نفسها ممثلا لكل الشعب الفلسطيني وفق فهلوتها السياسية والتنظيمية والإدارية المعهودة.ويجب هنا أيضا التذكير أنها هي نفسها في اتفاقيات اوسلو تخلت عن ذلك تحت تأثير ومطالب الجانب الصهيوني.

السلطة تمثل أهل الضفة والقطاع نتيجة ظروف عملية سلام الشجعان، لكنها في النهاية ليست سوى مؤسسة يجب ان تكون تابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية.وهذا الشيء موجود في الاتفاقيات وفي قرارات المنظمة. وبما ان المنظمة غُيبت بقرار من المرحوم ياسر عرفات ليتسنى له السيطرة والهيمنة على القرارات والمؤسسات كاملة، فأن الوضع الفلسطيني المؤسساتي الذي كان بيد شخص واحد أصبح بعد موت ذاك الشخص في يدِ الفوضى، فكل شيء في الحالة الفلسطينية فوضوي، ورغم كل الفوضى المذكورة، ألا أنه لازال هناك من يتحدث عن الانتقال السلمي للسلطات. طبعا ستنتقل السلطات كما انتقلت مادامت الألوان واحدة والهيمنة واحدة والفئة التي تحتكر كل شيء من لون واحد. وما دام الفلسطينيون ضحايا فوضاهم برضاهم أو رغما عنهم، فأننا سنجد ضحايا مثل عبد الله السعافين كل يوم وفي كل وقت عادي وإضافي من عمر فلسطين المحتلة.

نضـال حمد ـ اوسلـو
05-12-2004