متلازمة الديمقراطية والسلام في السودان :
أزمة في الوعي أم نقص في الارادة ؟
خـالد عـويس *
19:54 01.08.02

الأستاذ : خالد عويس
لم تتجذر الديمقراطية بمفاهيمها العدلية والحقوقية وقيم المساواة والاختيار الحر بدرجة عميقة في وعي الشعب السوداني بعكس ما يشيع المثقفون السودانيون الذين جعلوا الشعب السوداني يعبد ذاته ويقدس تجاربه من دون أن يشكل النقد الذاتي أساسا من ضمن الأسس النهضوية ، الأمر الذي قاد لانهيار ات متتالية في البناء الديمقراطي لسبب أن الموسسة العسكرية أقحمت في المناورات السياسية و"لعبة السلطة" دون مبرر وأدامت وجودها بدعم من الاحزاب ، بل أن التكوينات السياسية هي التي اوعزت للمؤسسة العسكرية بلعبة الانقلابات التى شكلت جزء من الثقافة السياسية فى السودان .

والحقيقة اننا لسنا بحاجة الى التأكيد مرة أخرى على أن التكوين الديمقراطى الهش للاحزاب السودانية وعدم فاعليتها فى احداث تغييرات جذرية فى الوعي السياسى السودانى وارتهانها لشعارات جاذبة لا تعتمد برنامجا سياسيا معمقا فاقم "أزمة الوعي" في السودان، فالشخوص الكاريزمية _ دينيا _ كالصادق المهدى و د . الترابى والميرغنى و _حداثيا _ كعبدالخالق محجوب وابراهيم نقد ود. جون قرنق لعبت دورا محوريا فى ادامة حالة الارتخاء المؤسسى وتباطؤ عملية نسج علاقة جديدة بين الحزب والمنتمين اليه ، علاوة على ان النظم التربوية والمجتمعية القائمة على خلفيات كابحة للتفكير الحر والاختبار الطوعى جعلت من هيمنة القيادة و"تدجين القطيع" امرا مفروغا منه ، لان الانساق الماثلة لا تقود الا لثقافة مستهلكة عاجزة عن الانتاج ، وقيم متلقية عاجزة عن البحث ، وآفاق للديمقراطية تتوقف عند حد وضع المطويات فى صناديق الاقتراع الى ان يحين موعد انتخابات جديدة تجرى قبلها عمليات حشد التأييد من دون العناية بمطابقة البرنامج السياسى الذى سبق طرحة مع ما تم انجازه بالفعل !!

المآزق التى حاصرت المراحل الديمقراطية فى السودان هى ذاتها التى تغلغلت فى نسيج الانظمة الشمولية ، فتعثر خطوات النهضة السودانية راجع الى التناقض الهائل بين المشروعات الثقافية التى توحى بالتعدد والسماح بالرأى الاخر والقيم المجتمعية المستندة الي كل أدوات التخلف ، وتعامت تلك المشروعات عن اهمية ايلاء تفكيك الاطر والمفاهيم المجتمعة الراكدة ، عناية قصوى فى المشروع النهضوى الذى لم يتجاوز الى الآن ( مرحلة الفطام ) لأن المثقفين أنفسهم كانوا جزء من الاشكال بتكريسهم ظاهرة "القطيع" وخشيتهم من مغامرات الاصلاح الحقيقي في الاحزاب ومساندتهم النظم الديكتاتورية بصورة انتهازية بررت تاليا تكالب النخب السياسية وأنصاف المثقفين علي دعم الشمولية .

الحرب ،لم تكن خارجة عن هذا الاطار ، وكل المحاولات التى جرت بغرض تبريرها بدعاوى انها حدث غير متوّلد عن ظروف داخلية محضة _وان ساندته ظروف خارجية _ فشلت فى صبغها بمؤامرة خارجية (اتخذت تارة شكل التبشير الكنسي ومرات اخري صورة البعبع الصهيوني) وهي حياكة حاكها المثقفون والنخب السياسية بغرض التعمية عن الاخطاء والتراكمات التاريخية ، فثورة الجنوب على الشمال تفرعت عن ظروف موضوعية داخلية اهمها شروخات المشروع النهضوى اذ لم يكن المشروع منذ الاستقلال قائما على اسس عدلية ، وادى الى هيمنة شمالية اقصت الجنوب عن المشاركة الفعلية فى الثروة والسلطة ، واهملت تنميته فى ما طوّعت عناصر جنوبية لاضفاء نوع من التوازن غير حقيقى ، وأفرز المشروع ردة مجتمعية وثقافية مع تنامى الشعور بضرورة تكريس الوضع .

لم تكن الديمقراطية فى السودان ديمقراطية حقيقية تفضى الى خيارات متعددة فعلا ، او تعيد صوغ المفاهيم ، انما كانت غطاء يثبت فوق وضع ما كان يراد له ان يتغير ، والآن تجرى خطوات تجاه السلام ، ينتظر ان تكتمل فى نيروبى منتصف الشهر الجارى لكن السلام الحقيقى يبقى ناقصا طالما ان طرفين فقط يرسمان _ فى ظل تهميش للقوى الاخرى _ ملامح سودان جديد ، والحقيقة ان السودان سيبقى قديما مالم تجمع القوى الفاعلة فى المجتمع على خيارات تتيح للسودان فرصة ولادة ثانية قائمة على الديمقراطية والسلام . ويتوجب على حكومة الانقاذ ان تتخذ خطوات تستكمل بها ما بدأته فى اتجاه الديمقراطية ، فى ظل مخاض سيعيد ترتيب السودان من جديد وربما يعيد رسم جغرافيته ،وعلى الحركة الشعبية ان تعى انها دخلت فى مرحلة حاسمة ، تستدعى الضغط اكثر فى اتجاه الديمقراطية لا ان تكرس جهودها كلها من اجل السلام ، فالديمقراطية هى الضمان الاوحد لسلام شامل وعادل ، واشراك القوى السودانية كلها فى جولة المفاوضات النهائية ، هو امر حتمى لكيلا يكون التهميش مدعاة لحروب اخرى . وطالما أن أملا انبثق في نهاية المطاف ، فلابد أن تكون المرحلة الانتقالية القادمة ، فرصة لتعيد القوي السياسية حساباتها ، لترّسخ ديمقراطية بناءاتها ، وتقوّي رصيدها الجماهيري "كيفا" لا "كما" وأن تصوغ برامج سياسية تستوعب ملامح مرحلة جديدة تقتضي بأن تكون النظرة السياسية اكثر شمولا واستيعابا للآخر ، وأن تباشر حوارات داخلية صادقة بغرض اجراء اصلاحات حقيقية تبعث حيوية في مجتمع يحتاج عافية الديمقراطية بدء من مؤسساته التعليمية الكسيحة وانتهاء بأحزابه الخربة.

* كاتب وصحفي سوداني مقيم في الرياض
الأستاذ خالد عويس مع التحيات