مداولات الكونغرس تنذر بعواقب وخيمة
مـرة أخـرى.... السـودان إلـى أيـن ؟
خـالد عـويس _ الرياض
10:00 13.10.02

تبدو القيادات السياسية _ سلطة ومعارضة_ في السودان في هذا الوقت فاقدة للياقة الذهنية اللازمة لمواجهة ظروف دقيقة تجر السودان إلى حقل من الألغام، فتجدد المعارك في الجنوب والشرق قبل أن يجف المداد الذي كتب به بروتوكول مشاكوس فتح الباب واسعا أمام تخبط سياسي أطاش الحكومة والمعارضة عن لغة الحوار، ودفعهما إلى استلاف خطابات سياسية سابقة مقصيّة للآخر ومنذرة بتصعيد سياسي أكبر، الأمر الذي يجعل جولة المفاوضات القادمة أكثر تعقيدا خاصة أن المرجح حدوث اختلافات واسعة بين وفدى التفاوض حول مسائل جوهرية في ما يختص بالحدود والدين والدولة.

صاحب استرداد مدينة توريت شرق الاستوائية بواسطة القوات الحكومية عودة للمصطلحات ذات الصبغة المتشددة التي عمّقت الخلاف وأدت إلي بروز العامل الديني في الحرب، واستخدمت الخرطوم لهجة دينية تصعيدية حافلة بالإقصاء الديني والعرقي متجاهلة بذلك الخطوات التي تحققت باتجاه الحل، ولجأت في مواجهة الموقف الميداني الذي لم يكن لصالحها إلي استخدام مفردات التخوين والعمالة تارة أخرى في خطوة يرى المراقبون فيها عودة للمربع الأول تكشف عن أزمة تعيشها الخرطوم تتجلى في تناقضات خطابها بين الخطاب الاسلامى المتشدد حيال (أعداء الدين والوطن) وأذيال الإمبريالية، وبين المحافظة على خط السلام، في ظل تراجع خطير لسقوف الحرية ومطاردة الصحفيين ومصادرة صحف انتقدت تراجع الحكومة عن مفاوضات السلام، في حين أن تنظيمات المعارضة لا زالت في طور البحث عن فرصة للمشاركة في المفاوضات واسترداد دورها الذي تجاوزه طرفا مشاكوس.

المأزق الحقيقى الذى تواجهه حكومة الخرطوم يتمثل بمداولات الكونغرس الامريكى حول قرار ينتظر أن يسفر عن تضييق الخناق عليها بشأن ( مجرمي الحرب الأهلية)، ولم تكن الخرطوم في كامل لياقتها الذهنية وهى ترد على هذه المداولات برعونة مشددة على قدرتها على مقاومة القرار !!

سيتعين على الخرطوم أن تواجه واحدا من خيارين، إما الرضوخ للشروط الأمريكية فى مشاكوس الثانية ، أو خوض حرب ضروس ضد اليمينيين فى الادارة الامريكية ، الذين لم يستسلموا لهزيمتهم السابقة أمام المعتدلين الذين رأوا فى التنازلات التى قدمتها الخرطوم مؤخرا والمرونة التى صبغت تعاملها مع ادارة الرئيس بوش ، تقدما محسوسا فى مواقف الخرطوم يمكن أن يؤدى الى نتائج خليقة بترضية الشركات النفطية التى وجهت انتقادات حادة للأسلوب الذى ظلّت تتبعه ادارة الرئيس بيل كلنتون وأقصى تلك الشركات عن حيّز المسرح الاقتصادى السودانى ، ومن ناحية أخرى فان أصحاب الرؤية المعتدلة في الادارة الجديدة وضعوا فى الاعتبار فائدة تعاون الخرطوم معهم فى مجال مكافحة الارهاب (الاسلامى) بتملّك ملفات مهمة عن غلاة المتشددين الاسلاميين ، والجماعات المتطرفة ، الى جانب حث الخرطوم على تحسين وضع حقوق الانسان الى درجة تسمح بالتغاضى عن بعض الخروقات (كاعتقال د. حسن الترابى والمضايقات التى تلقاها تنظيمات المعارضة الاخرى) فى سبيل نشوء تحالف يربك حسابات القاهرة فى الاطار السياسى ، وحسابات بكين فى ناحية التغلغل فى مفاصل الاقتصاديات الافريقية ،ويؤسس لقدم امريكية راسخة فى السودان ، لكن تحالف الجماعات الامريكية المتشددة حيال الخرطوم عاد للبروز مرة أخرى ليتهدد قادة بارزين فى صفوف الحكومة السودانية بتهمة (جرائم الحرب) ، وهى تهمة كفيلة بجلب قاذفات (B_52) الي سماء الخرطوم فى حال رفضت الأخيرة التعاون مع واشنطن التي ستجد نفسها مرغمة على التعاطى مع قرار يهدف فى حقيقة الأمر الى اختلاق أزمة مع الحكومة السودانية _ التى سترفض الانصياع لرغبة واشنطن _ ومؤدى ذلك نشوء توتر فى العلاقات الامريكية _ السودانية واتخاذ الامريكيين عرقلة مفاوضات السلام الى جانب رفض الخرطوم تسليم (مجرمى الحرب ) ذريعة لاقناع مجلس الأمن لضرب السودان ، ومن السهولة بمكان أن تلجأ واشنطن الى حشد أدلة كافية لتوريط نظام الانقاذ فى (محور الشر) كنظام أوى ارهابيين ، وسهّل مهماتهم ، وقدم اليهم دعومات لوجستية ومادية وزودهم بوثائق سفر ، والمشكلة الحقيقية أن المعلومات المؤدية الى هكذا ادانة سلمتها الخرطوم بنفسها الى سى آى آيه وأف بى آى فى اطار مكافحة الارهاب !!

وحسبما توفر لدى من معلومات استقيتها من مصادر مختلفة ، فان الخرطوم نفضت يدها عن مساعدة الجماعات المتشددة بل ومضت قدما فى تعقبها وتجفيف خلاياها فى السودان منذ 1996م ، الا أن واشنطن لن تعوزها الحيلة لدمغ الخرطوم بالارهاب اذا اشتد ضغط الجماعات اليمينية والعناصر المتشددة فى الادارة الامريكية وفق رؤية تأسست على عدم جدوى التعاون مع حكومة تمارس قمعا ضد المسيحيين ، وشريكة فى تحالف يضم العراق وايران وسوريا ، ولا يؤمن جانبها كونها تستند فى حكمها على سلطة دينية متطرفة ، وهذا مكمن الخطورة على السودان فى حال انتهاء واشنطن من الملف العراقى الذى يبدو أنه سيكون رهن التنفيذ النهائى بحلول يناير القادم حسب افادات مراقبين ومحللين !!

الخرطوم _ اذن _ مرّشحة لأن توضع ضمن دول ستحاسب على جريرة أيلول _ سبتمبر ، ولا شك أن بعض الانتهازيين سيجدوا فى مثل هذا الضغط فرصة مناسبة لاظهار الولاء للولايات المتحدة ليكونوا عرابى التغيير و(الشرفاء) الذين سيجيئون محمولين الى عروش الخرطوم على حاملات الجنود الامريكية بمثل ما يحدث حاليا فى شأن العراق ، والمطلوب من الاطراف السودانية كافة فى هذا الوقت الانتباه لما يدور فى أروقة الكونغرس ، وما يحاك _ ليس ضد الانقاذ _ وانما ضد السودان ، فالتغيير الذى يمكن ان تحدثه ضربات توجه للخرطوم لن يقتصر على ازالة نظام الانقاذ ، وانما يتعداه الى اقامة نموذج سياسى على هوى واشنطن وبما يخدم مصالحها خصما على المشهد السياسى القائم حاليا برمته ، ويتوجب على قادة الرأى والسياسيين فى الحكومة والمعارضة اتخاذ التدابير كافة التى تمكن من تدارك الأمر وجعل التسوية السودانية ممكنة وهذا لا يتأتى الا من خلال الايمان العميق بأن القضايا السودانية لن تحل بهذه الطرق الدراماتيكية والعنتريات ، بل من خلال رغبة وطنية جامعة فى الوصول الى حل تستبق به تحليق القاذفات الامريكية فوق الرؤوس ، وبحث جميع المشكلات من خلال دعوة لحوار سودانى جامع ليس بالضرورة أن يتقاطع مع مبادرة ايقاد ، وانما يسعى لرفدها بمرئيات وطنية ترمى الى تطويق الأزمة من جميع جوانبها .

كاتب وصحفى سودانى مقيم فى الرياض
الأستاذ خالد عويس مع التحيات