القاهرة .. الخاسر الوحيد !
تفاهم نيروبي خلط المعادلات الاقليمية في اتجاه المصالح النفطية

بقلم: خالد عويس - كاتب سوداني مقيم في الرياض
22:00 22.07.02

الأستاذ : خالد عويس
التطورات المهمة التي شهدتها عملية السلام في السودان خلال اليومين الماضيين من خلال بروتوكول التفاهم الذى وقعه د. غازى صلاح الدين وسامسون كواجى برعاية أيقاد وشركائها ، تحرك المعادلات الدولية والإقليمية وتلك المتعلقة بالشأن السوداني الداخلي على نحو متقاطع ومعقد. فغض الطرف عن كون البرتوكول المذكور ربما يؤدى بعد استكماله خلال جولة أخرى من المفاوضات إلي حقن الدماء ووقف النزف السوداني واقرار حالة التعايش والتسامح في إطار دولة فدرالية او كونفدرالية او حتى في ظل التقسيم ، والسودانيون مدعوون بطبيعة الحال إلى إسناد البرتوكول على الصعد السياسية والاجتماعية والثقافية ومباركة الخطوات التي تمت بحيثيات عملية في اتجاه تذويب طابع "عدم الثقة " فان تفاهم نيروبي خلط الأوراق الإقليمية بتهميشه الدور المصري الليبي ما دعا المصريين بالذات للتحرك بفاعلية من اجل المحافظة على أمنهم القومي الذي تشكل فيه مياه النيل الركيزة الأساسية إلى جانب الشأن الفلسطيني , وما من شأنه أن يزلق مصر الى دوامة صراعات سياسية بغية التمسك بمكاسبها فى حوض النيل . المبادرة المصرية الليبية كانت تشدد على وحدة السودان الأمر الذي خلق جدلا واسعا حولها فى أواسط الحركة الشعبية التي تمسكت بخيارات أيقاد المتضمنة لهذا الحق معتبرة إياه محل إجماع سوداني تمت المفاهمه بشأنه فى ديسمبر 1994 م, الا ان مصالح مصر تتقاطع بحدة مع هذا الاتجاه .

  • تقاطع المصالح المصرية

  • خابرت صديقا مصريا متنفذا في مقر اقامته بالقاهرة في اليوم الذي تلا التفاهم السوداني ، وعكست لي مهاتفته قلقا مصريا عميقا من التطورات الحادثة في السودان ، واعتبر لي صديقي أن "الخرطوم" تجاوزت القاهرة في التنسيق مع "واشنطن" وقدمت للأخيرة "هدية" يصعب علي المصريين "بلعها" ، وفهمت منه أن القاهرة لدغت مرة ثانية من الخرطوم الامر الذي يستدعي حذرا مصريا حيال الخرطوم في الفترة القادمة ، وبعيدا عن الرؤية القاتمة التي صبغت تعامل القاهرة مع الحدث ، فانها ستدفع ثمنا باهظا جراء اخطاء تاريخية تراكمت وادت الي فجوة بين نظرتها والاجماع السوداني حيال "تقرير المصير" ، فمصر ظلت تعمل جاهدة علي استبعاد الأمر الي درجة وقوع جفوات بينها وبين العقيد "قرنق" عالجها الطرفان في وقتها في اطار تفاهم خاص حول المصالح المشتركة التي كانت تعني ساعتئذ اسقاط نظام الخرطوم ، ولعل الكثيرين في السودان باتوا اكثر ايمانا بأن السودان يسدد فاتورة في الجنوب لا تعنيه بقدرما تعني القاهرة ، واوصلتهم الحرب طويلة الامد الي قناعة بأن الانفصال خير من استمرارها علي هذا النحو الذي لم يترك اسرة سودانية واحدة في حالها . كانت الديمقراطية في السودان علي الدوام خيارا قابلا لطي صفحات الخلاف السوداني _ السوداني ومرشحا لتذويب النعرات العنصرية بادامة مناخ الحوار ، الا ان حرص القاهرة علي التدخل المباشر ودعمها المتواصل للنظم الشمولية في السودان بدعوي انها تحقق امن مصر القومي ، اوقعها في ورطة بالغة وجعل أمنها القومي مهددا بالفعل ، في حين أن السودانيين يبحثون عن الأمن بعد خمسة عقود من الحرب .

    مصر الي وقت قريب ، لم تحرص علي اقامة علاقة طبيعية مع السودان ، وظل تعاملها مع الخرطوم متسما بشيء من العاطفة التاريخية و" تاج الملك قبل الثورة" ، ونبّه ساسة وكتاب سودانيين كثيرا الي خطورة التعامل مع السودان علي اساس أنه "حديقة خلفية " لمصر ، غير أن الواقع الذي تكرّس جعل من الصعب تقبل مصر لفكرة ان الخرطوم عاصمة منفصلة ، والأسوأ أن القاهرة تعاملت مع القوي السودانية التي نادت بفكرة "السودان للسودانيين" بتجاهل ، ونالت الخرطوم "الديمقراطية" شيئا من نفحات عبدالناصر حين رد اليها جميل "قمة اللاءات الثلاثة " بدعم غير محدود لانقلاب جعفر نميري الذي اطاح بحكومة الرجلين اللذين رتبا لمجلس الصلح بينه وبين الملك فيصل ، واستمر التعامل علي هذا النحو الذي رآه السودانيون مهينا ، وادي لتزايد شعور الكيانات السياسية السودانية بعدم رغبة مصر في ترسيخ الديمقراطية في السودان ، الأمر الذي توّضح أكثر لدي تنفيذ الجبهة الاسلامية لانقلابها وسارعت مصر الي مباركته بناء علي تقارير استخباراتية مموهة وطعوم اعدتها القيادة الاسلامية في الخرطوم بدقة اوقعت المصريين في فخ جرجرة الاسرتين الاقليمية والدولية الي تأييد الانقاذ ، وهذا لم يكن متاحا لولا الايعاز المصري بأن الملف السياسي السوداني قيد القاهرة وان الاخيرة مفوّضة ومعنية بالشأن السوداني !!

    شكّل الرفض المصري لحلحلة مسألة الجنوب علي اساس القبول بحق تقرير المصير عقبة امام قوي سودانية مؤثرة كانت تحاذر اغضاب القاهرة ، لكن مؤتمر القضايا المصيرية بالعاصمة الارتيرية حسم تردد الفصائل السياسية بعدما تبين لها الّا خيار سوي القبول بالشرط الجنوبي المتمثل بهذا الحق ، من جهة أخري لم تتحرك مصر بفاعلية في اتجاه نزع الفتيل السوداني الا بعد تحرك منبر "ايقاد" الذي ناقش القضية السودانية بتركيز علي مسألة الدين والدولة وحق تقرير المصير ، ولم تكن المبادرة المصرية الليبية تختلف في شيء عن اسس تفاوض "ايقاد" الا في ما يختص بتقرير المصير واشراك القوي السودانية المعارضة كافة في التفاوض ، كل هذه المعطيات تشير بجلاء الي ان التحركات المصرية كلها كانت تأتي متأخرة وبشكل يضمن المصالح المصرية فقط ، اضافة الي ان مصر لم تعن بشكل اساسي بقضية استقرار السودان في اطار ديمقراطي ، اذ اعتبرت ان آلة الحسم العسكرية بيد النظم الشمولية هي الاقدر علي حفظ مصالحها .والحقيقة فان الظرف الراهن يحتم علي مصر التعاطي بايجابية وموضوعية مع الشأن السوداني ، وعليها أن تبذل جهدا مع الاطراف السودانية كافة في اتجاه تطمينات واجبة تعزز مناخ الوحدة ، وعليها أن تتأقلم مع واقع جديد بدأ يطل علي السودان .

  • تفاهم نيروبي جزء من ترتيب المشهد الاقليمي

  • المتعمق في تشريح المشهد السياسي في الشرق الاوسط بعد احداث الحادي عشر من سبتمبر سيجد لا محالة رابطا بين التغييرات الجارية علي مهل والاخري التي يتم الاعداد لها وبين الترتيبات التي اتخذت في منطقة وسط اسيا بعد ان توصلت واشنطن الي اتفاق بهذا الشأن مع موسكو وفي الاثناء جرت محاولات لاخضاع بعض القوي في امريكا الجنوبية , الا ان المغامرة الامريكية لم يكتب لها النجاح . الواقع ان معطيات كهذه اذا ما انضافت اليها الشواهد الدالة الي ان الشرق الاوسط ستنتظمه عملية ترتيب واسعة لاوضاعه ، تقوي الشكوك حول الرغبات المتنامية لدي القوي الدولية بتأمين مصالحها النفطية والاقتصادية الكبري علي نحو لا يتسبب باية متاعب مستقبلية .

    علي هذا النحو يمكن الوثوق بسيناريو تجري المناقشات حوله في الاوساط الاعلامية حول تهدئة الاوضاع في الاراضي الفلسطنية المحتلة للانتقال الي ملف العراق الذي تجري تهيئة الاجواء بصورة مكثفة من اجل الاطاحة بنظامه ، وبات من الواضح ان واشنطن كثّفت من عملها في هذا الاتجاه وبعد ان تكتمل ترتيبات العراق التي ستمتد آثارها الي منطقة الخليج العربي ، ستكون مهمة واشنطن في تأمين نفوط اسيوية في الوسط والشرق الاوسط قد اكتملت , وبذا تكون قد حدت من تأثير النفط الخليجي علي السياسية الدولية ، لكنها في المقابل تنظر بعين الاعتبار الي الكشوفات النفظية بالسودان ، علاوة علي اهتمامها بالتطورات الحادثة في افريقيا ، وكون السودان دولة _ في حالة القدرة الاقتصادية – لها تأثير علي المحيط العربي والافريقي .

    في واقع الأمر ان (تفاهم نيروبي) لم يكن بعيدا عن المصالح النفطية المتصاعدة منذ أيلول سبتمبر . اختلف تعامل ادارة الرئيس بوش مع الملف السوداني عن سابقتها ، فإدارة الرئيس كلينتون ووجهت بانتقادات حادة من قبل الشركات النفطية الكبرى التي رأت في فرض عقوبات متشددة بحق السودان وحظر التعاملات الاقتصادية مع الخرطوم اقصاءا لها من حقل مهم أغرى الصينيين بوضع اكبر استثمارات لهم خارج بلادهم فيه ، الأمر الذي تجنبته الاداره الحالية وهى تحرز تقدما ملحوظا في دفع الخرطوم في اتجاهات التقارب مع واشنطن ونبذ الاجندة محل الخلاف .

    حرص واشنطن علي العمل حثيثا لايجاد حل في السودان , ليس بعيدا عن رؤيتها لمصالحها الاستراتيجية المتشابكة , فالعناية موجهة الي اضفاء نوع من الاستقرار في الخرطوم والتوصل الي صيغة سياسية تضمن مشاركة الاطراف السودانية ، وبذا يعمق الحل الامريكي وجود واشنطن في الخرطوم ورعايتها مصالح قادمة من ناحية ، ومن ناحية اخري تفضي الشراكة الاستراتيجية بين الخرطوم وواشنطن الي نوع من الضغط علي القاهرة وشغلها عن أجندتها الاقليمية بتحريك قضية المياه ، لكن الاوضاع في السودان مرشحة لتطورات مهمة خلال الفترة القادمة وبصورة قد لا تدع مجالا للقاهرة لأي تحرك مثمر ، فعلاوة علي تأييد معظم القوي السودانية للتفاهم ، فان مؤشرات اعادة التعمير والبناء التي عكستها افادات "شركاء ايقاد" .. الولايات المتحدة ، بريطانيا ، النرويج بخصوص عدم ممانعتهم في المساهمة مع السودان في كل مشروعاته المستقبلية تفتح المجال واسعا امام استثمارات هائلة تتدفق الي السودان وتحض السودانيين الي القبول بترتيبات جديدة ، لكن هذه الخطوات والوعود يجب الا توقعهم في الشراك المنصوبة لجهة ضرب الأمن القومي العربي بكامله ، فالضغوط الامريكية التي مورست بحق الطرفين المتقاتلين في السودان وما تسرب عن نية شخصية امريكية كبيرة حضور التوقيع النهائي بين البشير _ قرنق ، يحث علي مخاوف بشأن النيّات الامريكية في السودان بما يتجاوز المصالح النفطية الي ايجاد معادلة سودانية جديدة ضمن مشهد اقليمي معقّد تسعي واشنطن لترتيبه وفق مصالحها .
    *كاتب سوداني مقيم في الرياض
    الأستاذ خالد عويس مع التحيات