تأملات في الحالة العربية (1)

سلامة الفرد العربي أولا...
بقلم : سلمـان نـاطور


...فالإنسان الذي لا يجد مكان عمل في وطنه يفقد علاقته بوطنه، ومن لا يستطيع التعبير عن رأيه في بيته يفك علاقته بهذا البيت فيتحول إلى جحيم والمواطن العربي الذي يستطيع التنقل بحرية بين مطارات أوروبا بينما يشعر أنه مشبوه في المطارات العربية ، تصبح أوروبا هي وطنه الأول

نصرف الكلام الكثير ونحرق الطاقات الكبيرة في وصف حالتنا العربية، ويغلب على حديثنا استعمالات لغوية مثقلة بمعاني اليأس والإحباط والهزيمة، حتى أصبح حديثنا عنا بكائيات وجلدا للذات ودفعا لاستكانة إلى جبرية لا تقود إلا إلى الانتحار أو التسليم للقضاء والقدر، وفي الحالتين نفقد حريتنا ونسلمها لمن يتفنن في صناعة انتحارنا الجماعي أو من يدعي أنه يعلم علم اليقين إلى أين يقودنا القدر. إنها حالة انتظار كانتظار غودو، فيها ترقب وفيها خوف وقلق وعنف وهي حالة فراغ وهمية تخلو حتى من الانتظار، لأن الانتظار، في نهاية الأمر، هو فعل كأي فعل له سبب ونتيجة .

كلنا متفقون على أن الوضع العربي سيء للغاية، ليس فقط مقارنة بالأمم الأخرى بل بالتاريخ العربي والطاقات الهائلة الكامنة في هذه الأمة حضاريا واقتصاديا وسياسيا ، ولكنها لا توظف لصالحها، بل يبدو للمراقب عن قريب أو بعيد أن العرب يقبلون بالاستعمار الجديد كأنه ظاهرة خالدة وخنوعهم له خالد أيضا، وقبول مقولات مثل : "الغرب هو الأقوى والأفهم والأرقى"، يعني في نهاية المطاف شل حركة العرب وتقزيمهم تاريخيا وبقاءهم في حالة ركود مستنقعية لن تجلب لهم الا الويلات والنكسات، وهذا ما يجعل الطموح القومي لتحقيق " سلامة الأمة" أمرا مستحيلا.

نحن لا نستعمل مصطلح "سلامة الأمة العربية" بالرغم من أن هذا هو حلمنا القومي، ربما لأننا فقدنا الثقة بأنفسنا ولا نؤمن به، وكنا نعتقد وما زلنا حتى اليوم أن حلمنا القومي يتجسد بالوحدة وليس السلامة واكتفينا بهذا ليس لمواصلة نضالنا من أجل الوحدة العربية بل لتبرير عجزنا في تحقيق الوحدة العربية التي أصبحت مستحيلة، فالعوامل الموضوعية والذاتية للتجزئة هي أكثر بكثير من عوامل الوحدة وقد تبين من محاولات تحقيق الوحدة العربية، في النصف الثاني من القرن العشرين، أنها تعني الاحتواء وفرض سيطرة القوي على الضعيف بسبب التفاوت الكبير في مستويات المجتمعات العربية، أضف إلى ذلك أن مفهوم الوحدة العربية كان ولا يزال يعني النظام العربي الواحد ، أي هو وحدة أنظمة وليس وحدة أمة ، وإذا كان هناك من يعتقد أن بالإمكان إعادة الوحدة العربية على غرار ما كانت عليه في أيام الدولة الأموية أو العباسية ، فانه بهذا يريد بناء دولة القرن الحادي والعشرين بمفاهيم وأدوات القرن الثامن، وهذه أصولية رومانسية لن تؤدي إلا إلى المزيد من التجزئة .

كيف يحل مفهوم "سلامة الأمة" بدل "وحدة الأمة"؟
أولا : هو أشمل لأنه يعني الوحدة الثقافية والحضارية ، فالانتماء العربي السليم يعزز الهوية من خلال التأكيد على تقوية العامل الثقافي والحضاري وفي صلبه اللغة العربية .
ثانيا : السلامة تعني العافية أي نقيض الحالة المرضية بينما الوحدة هي نقيض التمزق والتجزئة ولكن التمزق هو حالة واحدة مما أصاب الأمة العربية وهو قد يكون (بالمضمون الثقافي) شرطا للسلامة لكنه ليس شرطا كافيا .
ثالثا : سلامة الأمة العربية تعني تحصينها وحمايتها من التخلخل الداخلي والغزو الخارجي، ليس بالإغلاق عليها بل بإخراجها من حالة الركود إلى الحركة الفاعلة والدائمة .
رابعا : سلامة الأمة العربية تعني بالدرجة الأولى سلام الفرد العربي، أي العمل على رفع شأن الإنسان العربي في كل الوطن العربي، وهذا يعني أيضا سلامه مع ذاته، أي تحرره من حالة الاستلاب والشعور بالنقص واحتقاره لذاته ولعروبته، أي وضع القاعدة الأساس لسلامه مع مجتمعه فيتحرر من علاقته السلبية اللامبالية به ويبني معه علاقة ايجابية قائمة ليس على الابتزاز المتبادل بل على العطاء المتبادل وبالطبع فان شرط هذا السلام هو ضمان حريته في التعبير والحركة داخل قطره العربي أولا وفي كل الأقطار العربية ثانيا .

ان التأمل في حالة الفرد العربي اليوم مثير للأسى والحزن لأن كل شيء يخص الفرد مكرس لتقديس النظام ولتخليد القمع وتغييب الحرية وكرامة الإنسان كانسان ، فالإانسان الذي لا يجد مكان عمل في وطنه يفقد علاقته بوطنه، ومن لا يستطيع التعبير عن رأيه في بيته يفك علاقته بهذا البيت فيتحول إلى جحيم والمواطن العربي الذي يستطيع التنقل بحرية بين مطارات أوروبا بينما يشعر أنه مشبوه في المطارات العربية ، تصبح أوروبا هي وطنه الأول.

ربما أن هذا المركّب ، أي قمع الفرد العربي، يشكل اليوم حالة فريدة ووحيدة من حالات "الوحدة العربية" بالمفهوم القبلي والجاهلي، ألعرب موحدون على قمع الفرد والمرأة بشكل خاص وتخليد النظام السائد ، ولهذا السبب فان مفهوم الوحدة لا يعني بالضرورة الوحدة المنشودة وطنيا وديمقراطيا وحداثيا، ولذلك فان الحديث عن سلامة وسلام الأمة يصيب الهدف وسلام الفرد العربي هو الشرط لسلامة الأمة العربية التي هي الغاية التي تشكل الشرط لوحدتها بمفاهيم وأدوات القرن الحادي والعشرين.

سلمـان نـاطور
تاريخ النشر : 02/06/2005