نيسان 48 سقطت حيفا: هكذا تكلم شيخ مشقق الوجه
بقلم : سلمـان نـاطور


يمشي الشيخ المشقق الوجه الذي نتحدث عنه، جنبا الى جنب مع سنوات هذا القرن، هو يتراجع، والسنوات تتقدم، ببطء لكن بحزن، بألم، بحسره.. يستيقظ مع طلوع الشمس.. يترك البيت.. ويمشي في شوارع حيفا:-ي.ل. بيرتس، هنفيئيم، مندلي موخير سفريم، أبراهام أفينو، ساره أمينو.. أسماء لا تثبت على لسانه.. وشوارع لا تثبت عليها قدماه..يبحث عن مقعد في حديقة.. يجتمع حوله أصدقاء يهود. عندما كان " عربجي"، سكه مكه، في حيفا.. كان هؤلاء الاصدقاء يبنون قصورهم في بغداد والاسكندريه واولادهم على مقاعد الدراسه يستعدون لادارة قسم الهويات في دائرة الهجرة..

نقول: حرب ال 14.. (الحرب العالميه الاولى).. يقول كنت في ال 14.. نقول حرب النكبه يقول كان عمري 48 ويضيف: "بلغتها يوم ما كان مدفعهم على البرج، وضربوا قنبله فيها كبريت أصفر على الساعه قرب مسجد الجريني، فسقطت الساعه، قلت:" سقطت الساعه، سقط الوطن".. ورحت أبحث عن شريكي، ابراهم شميدو، هالعكروت كان صار بايع الخان وبايع الشراكه."

"كان حي "الهدار" كروم عنب لدار الخمره وبيت سلام والهواش.. اشتراه ممثل الكيرن كييمت الذي كان مكتبه في شارع ستانتون.. واشترى تل السمك والعزازيه وسلمها لليهود.. ساعدهم برومزا حاكم المركزيه.. فتحوا مكاتب وصاروا يشتروا في هالبلاد، وهالسماسره والاقطاعيين يقدموا لهم الغالي والرخيص، البارون اشترى حتى زمارين، والمنطقه الالمانيه، كانت مع الالمان من ايام تركيا، بعد ما اجا قيصر المانيا غليون (ويلهلم غليوم) وطلع على البونط .. (الميناء) اول ما وصل طلب الموارس من مشيرية عكا ليعطيها للالمان اللي سبقوه.. قام الاهالي صاروا يكيلوها بالحبل.. وبعدين ركب حنطور جورج سوس وراح القدس..الالمان كانوا يشتغلوا فلاحين وعربجيه، مثلنا مثلهم، بعدين فتحوا الشوارع للقدس وصارت نسوانهم تشتغل على العربات وهم ينقلوا السواح، ويتمركزوا في الكرمل، سكن واحد اسمه كيلر.. ثم اجا شنايدر وبعدها الراهبات واشتروا أم العمد وبيت لحم من ألفرد تويني وباعوها لموسى خانكين زلمة الكيرن كييمت .. احنا هالفقرا ما عرفنا هالبلاد كيف طارت ولما الفقرا كانوا يرفعوا صوتهم كانوا يكسروا رؤوسهم.. جاري في حارة الكنايس كان الشيخ عز الدين القسام.. اصله من اللاذقيه.. كان فقير ورجل دين تقي يهدي علي ويوعظني..لاني كنت أشرب كتير ..كل المشايخ كانوا ضده: الحج خليل وحسن بك وابراهيم بك وسليمان بك الصلاح والحج عبد الله، كلهم كانوا ضده.. ليش: لانه فقير حربجي بده يحرر هالبلاد، جماعته كلهم الفقراء والفلاحين المقطعين، واحد من هون وواحد من هون.. منا يا هالفقرا ..قتلوه الانخليز .. هو وجماعته، حصدوهم في يعبد..حياه الشيخ كان مخلص لجماعته.. والله البيكوات والبشوات ما في نفوسهم ذمه..ولا والله..كلهم حراميه وكنت تشتري الواحد بصرماي.. قبل ما ياخذوا الحكم كان لي صديق يهودي اسمه داهود كوهين بيشتغل عند اهرونسون..يوم ناداني..رحت لعنده قال لي معكاش خبر؟ أخذنا البلاد .. جيب ولادك على زمارين !

حدثنا الشيخ المشقق الوجه عن ساحه الحناطير، "كانت مثل محطه التكسيات هالعربات والحناطير واقفه تنتظر..واحد رايح على حي المحطة يدفع عشر قروش ويركب.. واحد رايح على أم الجمال.. على الخربيه.. الياجور.. المراح.. بركيه.. كان يركب معنا ونوصله".

ذكر الخضر : فاقتربت زوجته وقالت انها ستحكي لنا هالخرفيه: "مره كنا في الخضر، وصلوا زوار من كل البلاد، ذبحوا هالذبايح ونزلوا العرق في التناك..وقاموا القيامه.. بعد ما اكلوا وشربوا ونزلوا عالبحر.. لما فاتوا ضيعوا وصاروا يغرقوا.. فزعت الناس تدب الصوت اللي جوزها في البحر، اللي اخوها.. والختياريه يا حرام صاروا يتدعوا: دخلك يا خضر، أطلعهم يا خضر!

ما شافوا الا واحد قاعد على الشختوره وفات على نص البحر.. صار يجيب عالشط ويرمي في هالناس..يجيب ويرمي.. خفى الله يا ربي خمس ست نقلات.. بعدين فقدوه ما وجدوه.. قرص ملح وذاب..قدرة الله.. الناس صارت تقول: هذا الخضر.. ما غرق ولا واحد..بعدين غنوا ودبكوا وزمروا.. وما حد نام يومها..كانت سهره ما في احلى منها".

لم يسمح لها بان تواصل الحديث.. قال: الخضر حي ! الخضر حي ! كانت هنالك مغاره .. جاء اسعد الخضر وبنى حولها.. وشيدت بنايات جميله في ذلك الموقع الذي يطل على البحر. .ولم يتوقع أحد من الذين كانوا في الموقع المقدس بأنه سياتي يوم وتصل الى حيفا اخبار دير ياسين حيث يصبح "رأسمال الزلمه فشكه".. " كنا..مش عارفين حالنا وين..طاسه وضايعه.. الانخليز ينهشوا فينا واليهود ينهشوا فينا ومشايخنا ينهشوا فينا..وكلمه تأخذنا وكلمه تودينا..ومن يوم ما علمونا "سيف الدين الحج امين" اللي صار بعدها ما تحمله القرود.. كان ذالك في نيسان 1948.. في التاسع عشر من هذا الشهر الربيعي سقطت حيفا.

كان جنود بريطانيا يجمعون امتعتهم، بعد ان سلموا اسلحتهم لقوات الهاجانا، استعدوا لمغادره هذه المدينه التي انتعشت فيها التجاره وازدهرت في السنوات الخاليه. واول خبر وصل عن دير ياسين روى كيف كان الجزارون يشقون بطن المرأه الحامل ويمزقون حناجر الاطفال ويطوفون بجثث القتلى عند باب الساهره.. واذاعات العرب وبريطانيا العظمى ترعب قلوب الناس بما سيفعله اليهود للعرب الذين سيبقون في بيوتهم.

كانت مدافعهم تقصف المدينه من عمارة البرج، هرب اليهود لمنطقة الهدار.. وظل العرب تحت القصف المركز، وصرير المدافع.. وسمعوا نداءات تقول لهم: ابقوا في بيوتكم ولا تغادروا الوطن! لكن المدينه الحالمه افزعتها "بومبايه" (قنبله) سقطت على المحطه، واخرى على الساعه التي كانت "تشبه ساعة لندن"، واخرى على شكل برميل معبأ بالبارود دحرجوه على الدرج النازل الى وادي النسناس واخرى.. واخرى.. وأخذ جيش الهجانا ينظف الاحياء العربيه من أهاليها.

"كان الانجليز يدخلوا على البيوت ويسألوا: بعدكم قاعدين؟ اليهود راح يدبحوكم اذا بقيتم في بيوتكم! احملوا اغراضكم ويالله عالبور (الميناء).. الانجليز لعبوا اللعبه القذره.. من جهه يصرحوا انهم بيدعموا الملك ضد اليهود ومن جهه ثانيه ما تركوا قطعة سلاح الا وسلموهم اياها..وكانوا يساعدوهم على تهجيرنا.. كل ما شافوا عربي كانوا يسوقوه للجمارك.

جمعوا العرب عند المينا واغلقوا عليهم خط الرجعه..وصارت هالقوارب تحمل وترمي في صور وصيدا، الناس كانت مرعوبه.. من الاخبار اللي سمعوها عن معاملة الجيش.. تركوا بيوتهم مثل ما هي..الخبز في الفرن.. والطبيخ عالنار..السوق تركوه مفتوح،صارت توصل سيارات وتحمل في البضاعه، نهبوا كل شيئ القمح والاكل وادوات الكهرباء.. وهدموا بيوت جديده وباعوا حديدها وحجارها للناس.. أنا وزوجتي واولادي تخبينا في دار القلعاوي.. قلت: والله باقي حتى لو ذبحوني أنا واولادي وعملوا منا سرسيسو.. كنا نبعث الولد ناحية الحسبة ليطل على جيوش الملك عبد الله اذا وصلت مثل ما وعدنا.. العلامة على رؤوسهم طاقية فيصلية وعلى رأسها حربة.. لا شفنا طواقي ولا يحزنون.. راحت علينا وعلى اللي ركبوا في الشخاتير.. بعد يومين رجعت على دارنا، لقيت الدار فارغه وما فيها شيئ.. شفته في عيني.. كان ختيار أشكنازي فرغ الدار وما ترك فيها غير ورقة النفوس.

قلت في نفسي، يالله، على الاقل حافظوا على اسماء اولادنا". حيفا لم تمسح من خريطه هذا الوطن.. لكن معالمها تتغير وتتبدل،حيفا عتيقة وحيفا جديدة.. واحدة نعرفها نحن وواحدة لا يعرفها الا أولئك الذين تمر في ذاكرتهم ايام البوابة الشرقية وسوق الشوام وبندر التجار والقشلي.. كما مرت السنوات الطويله.. نذكر الكثير وفي الذاكرة تهترىء أكثر الاشياء.. تختفي.. يأكلها صدأ هذه الايام، تتحول الى صور وخيالات تنخز في القلب وتجرح العاطفة، وماذا نطلب من شيخ تشقق وجهه، وينتظر قدوم الساعة الى أن يفرجها ربك مع "هال.. حرمونا نعمة الحياة، وقطعونا، ومزقونا وشتتوا أولادنا.. وكيف يمكن ان نسجل كل شيئ عن حيفا؟ قلنا، نذكر القليل، القليل، لعل شيخنا العربجي ينبش معالمها المخفيه، في الذاكرة، او أطلال جامع الجريني أو حمام الباشا الذي تلمع على سطع قبته نتوءات الزجاج الازرق كلما طلعت الشمس ومسحت خيوطها عمود فيصل الرخامي ، الذي اقيم على قبر الشيخ مبارك.

" أهالي حيفا القديمه، كانوا فقراء، حجاره وصيادين سمك.. كانوا يقلعوا الحجار من وادي رشميا ويبيعوها، وبعدين لما جاء الانخليز، ووسعوا البور (الميناء) صارت العالم تشتغل في البور.. رفعت كان صياد ماهر، "فش منه وقدام" كان عنده حمار أسود، يوقف على ظهر الحمار، ويمد نظره للبحر، كان يشوف أفواج السمك جاي، يرمي شبكته، ما تفلت منه ولا سمكه.. راحت الايام واجت الايام، وهالبحر صار يجيب ناس ويقذف ناس، "ولانشات" دار أبو زيد تحمل هالعرب.. لوين؟ لمينا عكا لوين؟ لمينا بيروت.. لوين؟ لمينا صيدا.. لوين لجهنم الحمرا.."

سلمـان نـاطور
تاريخ النشر : 22/04/2005 11:43