الانحطاط والهزيمة...هل ثمة تهويل؟!


بقلم :سري سمور ـ جنين/فلسطين


يقول البعض أن الأمة العربية والإسلامية تمر بأقصى درجات الهزيمة والتخلف والانحطاط والذل والهوان وأن كل مجال أو جزئية صغيرة من حياة الأفراد والجماعات والدول هو خراب في خراب.

ويرد البعض الآخر بأن هذا الكلام والتوصيف خاضع لمبالغات ونظرة تشاؤمية لأنه سبق للأمة أن تعرضت لأكثر وأشد مما تتعرض له اليوم عبر تاريخها،في صدر الإسلام وقعت الفتن واستلت السيوف في الجمل وصفين ووقعت فتنة الخوارج وقتل الحسين بن علي رضي الله عنه في كربلاء بطريقة بشعة ،والدول التي قامت بعد ذلك استعملت السيف واستعمل السيف ضدها،فقد أقصي الأمويون بعد واقعة الزاب الكبير على يد العباسيين،وفي زمن العباسيين وقعت فتن وأزمات كبيرة مثل فتنة القرامطة،عدا عن الخلافات الدموية أحيانا بين أقطاب بني العباس ،وعلى صعيد الاعتداءات الخارجية فهناك الكثير مما يمكن أن يقال،فمثلا احتل الصليبيون القدس حوالي تسعة عقود من الزمن وكان المسجد الأقصى بعد احتلاله قد تحول إلى إسطبل لخيول جيش الفرنجة،أما عندما جاء التتار فكلنا سمع أو قرأ عن اصطباغ مياه نهر دجلة بحبر الكتب العربية والإسلامية وغيرها والتي ضمت في صفحاتها كافة فروع العلوم والآداب ،وقتل التتار أعدادا كبيرة من الناس...،ويستمر أصحاب هذا الرأي بسرد أحداث من التاريخ لتفنيد أصحاب الرأي الأول ويبقى السؤال،أيهما أصح رؤية وتحليلا ووصفا؟

تغوّل الدولة والتكنولوجيا

إن أصحاب الرأي الذي يرى أن ثمة مبالغة في وصف حال الأمة وانحطاطها يغفلون بقصد أو بدون قصد مسألة هامة ،وهي التطور التكنولوجي الهائل الذي شهدته الحضارة الإنسانية خلال العصر الحديث والذي ساهم في تغوّل الدولة وزيادة جبروتها وكذلك في زيادة واشتداد وطأة الاستعمار أو الاحتلال على الأرض والإنسان.

في الماضي لم يكن هناك طائرات محملة بالصواريخ والقنابل الذكية،ولا جرافات ضخمة تستطيع تحويل الجبال إلى غير صورتها عبر شق الطرق فيها،ولم يكن هناك نظام لتحديد هوية الشخص بواسطة البطاقات الإلكترونية أو الحمض النووي ،ولم يكن هناك أقمار صناعية ،ولا نظم مصرفية عملاقة وذكية ولا شبكات كمبيوتر وإنترنت ولا قنوات فضائية ولا أسلحة تستطيع تدمير الكرة الأرضية مرات عدة ولا وسائل اتصالات بالصوت والصورة بين أقصى الشمال وأقصى الجنوب أو أقصى الشرق وأقصى الغرب،لم يكن هناك جوازات سفر يصعب أو يستحيل تزويرها،لم يكن هناك شيء مما نراه أو نتعامل معه من وسائل تكنولوجية سواء في المجال العسكري أو المدني ،هذه التكنولوجيا جعلت قبضة الدولة على المجتمع في عصرنا أمرا ميسرا فيما كان في الماضي -رغم رغبة الحكام- أمرا صعبا بفعل تضاريس الأرض وضعف الوسائل التي تمتلكها الدولة أو الحاكم ،وما ينطبق على مسألة سيطرة الدولة على المجتمع ينطبق على طبيعة الاحتلال الخارجي.

أمثلة تبرهن

أحب أن أضرب الأمثلة باستمرار لاثبات صحة وجهة النظر التي أتبناها ولدينا الكثير من الأمثلة، لنأخذ بعضها،حسين بدر الدين الحوثي الذي قاد تمردا في محافظة صعدة اليمنية قبل مدة ؛تمكنت القوات الحكومية من قتله خلال فترة قياسية قصيرة،أولو كان الأمر يتعلق بجيش في عصر السيوف والرماح والخيول والإبل هل كان الوصول إلى الحوثي سيبدو بهذه السهولة والسرعة؟ في الماضي كان من يتمرد على الدولة بغض النظر عن سبب تمرده أو كونه على حق أبلج أو على باطل زهوق يعتصم في الجبال أو الكهوف وعملية الوصول إليه شاقة وصعبة وقد يغير ملامحه بسهولة ويختلط بالناس أو ينتقل من منطقة إلى أخرى باسم جديد وصفة أو مهنة جديدة ،قرأنا قصة معن بن زائدة الذي جدّ أبو جعفر المنصور في طلبه فغير ملامحه وتوارى عن الأنظار ولم يتمكن من كشف هويته الحقيقية إلا رجل واحد ،كانت القلاع في الجبال وسيلة للاختباء أو التحصن واقتحامها أمر صعب ويأخذ وقتا وجهدا أما اليوم فالطائرات تستطيع تدمير أشد القلاع تحصينا وقنابلها تخترق أكثر الكهوف تعقيدا ،حاول العرب والمسلمون فتح القسطنطينية عاصمة البيزنطيين (الروم الشرقيين) مرارا وتكرارا ،إلا أن هذا الفتح لم يأت إلا على يد السلطان العثماني محمد الثاني(الفاتح) لأنه تمكن من استخدام تكتيك عسكري وتقني تغلب به على التعقيد الذي يحظى به تحصين العاصمة البيزنطية ،كان أمر الثورات يحسم عسكريا بتعداد الرجال والفرسان وطول فترة الحصار،وقد يستمر الأمر سنين عديدة ،عبد الله بن الزبير استمر في ثورته على بني أمية سنوات ،أما صدام حسين فقد سحق جيشه خلال ساعات عندما احتل الكويت ولبث فيها بضعة أشهر والفضل للتكنولوجيا،والطريف في الأمر أن بعض المحللين الذين يفترض أنهم درسوا الشؤون الاستراتيجية في أعرق الجامعات اختلط عليهم الأمر فأخذوا يتحدثون عن حروب العصر وكأننا في زمان الرماح والسيوف والخيول،فتحدثوا عن تعداد الجيش العراقي وبنية الجندي العراقي الصلبة متناسين أو غافلين عن طبيعة العصر وحكم الزمان،إن التكنولوجيا باتت حكما وفيصلا في سيطرة الدولة على الشعوب وفي مدى سطوة وقوة الاحتلال ،وثمة أمر آخر...

التراجع الحضاري والإفلاس الثقافي

تمكن الصليبيون من احتلال بعض الأراضي العربية ومنها القدس وأعملوا سيوفهم في رقاب العباد وقتلوا عشرات الألوف،ولكن الصليبيين لم يكونوا على درجة من التحضر والعلم والثقافة لتثبيت احتلالهم ،كانوا أشبه بجيش لصوص منظم ليس إلا،ولم يحملوا مع غزوهم العسكري الدموي شيئا من التنافس الثقافي والحضاري ،وحتى من الناحية العسكرية لم يكن تفوقهم مطلقا بدليل سحق أولى الحملات الصليبية بكل سهولة من قبل المسلمين على التخوم ،وأيضا سرعة تكون حركات المقاومة بتعبير عصرنا مثل مقاومة آل زنكي ثم صلاح الدين الذي تمكن من تحرير القدس وأخيرا بقلاوون الذي أخرجهم من كل البلاد التي احتلوها،تلك حركات مقاومة اتخذت طابع الدولة ذات المؤسسات والجيوش وليس مجرد عصابات متفرقة تعتمد الكر والفر،الصليبيون الفرنجة استغلوا ضعف الأمة واختلافها مما سهل عليهم عملية الاحتلال للأرض دون احتلال العقول والقلوب،أظافر الجنود الفرنجة كانت طويلة ومقززة،لم يكونوا يعرفون الصابون والاستحمام ،لهذا رأينا صورا رسمها فنانون من الغرب تظهر كيفية تأثر الصليبي المستعمِر بالعربي المسلم المستعمَر باللباس والمظهر ،أما التتار فكانوا أكثر من الصليبيين فقرا في المجال الثقافي لأنهم ليسوا سوى جيش من الهمج القتلة،لذا سرعان من اندمجوا في حضارة المسلمين بعدما ألحق المماليك بجيوشهم هزيمة عسكرية نكراء.

دارت الأيام واختلفت الصورة وأصبح لدى الغرب إنجازات في المجال العلمي والثقافي بينما نحن تراجعنا أكثر من الكثير بكثير!حقق الغرب تقدما في مجال التكنولوجيا العسكرية ولم نحقق نحن،حقق الغرب نهضة في مجالات العلوم والفنون والآداب وعشنا نحن عصر الانحطاط والتخلف ،طمع الغرب بالسيطرة على أرضنا ولم نكن مستعدين لمواجهة تلك الأطماع ،في أواخر القرن الثامن عشر شن نابليون بونابرت حملته الشهيرة على مصر ثم فلسطين ،نابليون أحضر المطبعة ولم يكن لدينا فكرة عن هذا الاختراع بل ان تراجع حركة التأليف لدينا بلغ أوجه،عدا عن التقدم الاجتماعي في فرنسا مقارنة معنا،وفي هذا السياق يحكى أن جنديا فرنسيا اعتنق الإسلام وتزوج من امرأة مصرية فأحست لين معشره وحسن تعامله وخلقه معها ،فأخذت تحدث أترابها من النساء المصريات بما تحظى به من حياة كريمة مع هذا الزوج حديث العهد بالإسلام ،كان رجالنا قد همشوا المرأة والإسلام-كدين- بريء من هذا التهميش وتلك النظرة الدونية ،واستمرت الحملات الاستعمارية لنسمع العبارة الشهيرة "نحن مسلمون بلا إسلام وهم لديهم إسلام بلا مسلمين" ،تقدم في المجال السياسي والاجتماعي عندهم تضاهيه سلطة للإقطاع والقهر وانغراس لأنياب الفقر عندنا،تماما مثلما كانت أوروبا في العصور الوسطى،لهذا غزو عقولنا مع أو قبل غزو أرضنا ،ثارت الشعوب المستعمرة وحمل أهل البلاد المحتلة لواء تحرير الأرض ،لكن المستعمر كان قد دخل كل بيت سواء بما أنتجه أو بفكره ،هذا الفكر والذي وان لم يكن ملائما لدينا فله من آليات الانتشار والبريق ما جعله حاضرا في تكوين تصورنا وبناء ثقافتنا التي باتت "كوكتيل" غريب عجيب ،واستطاع الغرب مع الأيام أن يزرع كيانا يحمل صفاته في أرضنا ?إسرائيل- وبفضل التكنولوجيا لا يستطيع عصفور بل فراشة اختراق الحدود بين هذا الكيان وبين الكيانات العربية الممزقة المتفرقة التي لا تصنع لباسها وتستورد دقيق أرغفة خبزها ،لو كنا في عصر السيوف والرماح والنبال لما أمكن لإسرائيل السيطرة على الأرض بهذه الطريقة ولما أمكنها من بناء هذا النظام المتواصل من المعسكرات والمستعمرات وهذه الجاهزية للحرب مع ملايين العرب الذين يشكلون جزءا من مليار وربع المليار مسلم أو يزيد ،في سورة الإسراء قال الله تعالى:"وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا" ؛المال الذي تتوفر إمكانيات الحصول عليه من مواردنا البشرية والطبيعية بدا مفقودا إلا لدى طبقة معينة وشريحة صغيرة بفضل غطرسة الدولة وهيمنتها مستعينة بالتكنولوجيا التي مصدرها الغرب أساسا ،أما الصهاينة فصنابير الأموال تصب عليهم من كل حدب وصوب عدا عن النظام الاجتماعي لديهم والذي لا يسمح بأن يقتني رئيس وزرائهم هدية إلا تحت المراقبة الشديدة ،وحكاية خيول الملك عبد الله الثاني معروفة،لدينا بنين ولديهم بنين ولكن بنيهم مسلحون بالسلاح الأمريكي الحديث الجاهز عند الطلب ،فغدا تفوقنا العددي مضحكا أمام تفوقهم النوعي بالمال والسلاح والتكنولوجيا والنظام السياسي والاجتماعي ،الممالك الصليبية التي أنشئت في الماضي لم تستطع التكاثر بل ظلت في تناقص وحصار متواصلين،لأننا صنعنا سيوفنا وجمعنا أموالنا ورجالنا ووجهنا خطب جمعنا وحصاد حبر أقلامنا لهدف محدد ،أما الآن....!!!

الإنجازات والأدوات التي يستخدمها الإنسان هي وسيلة ضغط وطريقة لشن الغزو الفكري كما العسكري،لقد أصبح لديهم مفكرون يتحدثون بلساننا ويحملون عقولهم وقلوبهم ويسوقون مشاريعهم ،بفضل المال وبفضل الشعور بالهزيمة لأن المغلوب مولع بتقليد الغالب كما أفادنا علامتنا ابن خلدون.

نحن أمام من يتفوق علينا بنظامه السياسي والاجتماعي وصناعته وعلومه ومعارفه،في نفس الوقت الذي تنحدر به أخلاقه وقيمه ليندفع إلينا طامعا غازيا متغطرسا،وماذا إذن؟!

هل بعد هذا الليل الحالك من فجر جديد؟وهل هذا الانحطاط وراءه نهضة بحجمه؟ الجواب نعم،وهذه سنة كونية وضعها الخالق جل وعلا في أرضه وعباده ،ولكن علينا أن نعترف أمام أنفسنا بحقيقة حالنا ونشخص أمراضنا ونعالجها ونحدد أولوياتنا،في الوقت الذي تتوحد فيه أوروبا لا زلنا نقسّم تقسمنا وفق المذاهب والأعراق رغم أن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا،ولا زلنا نمدح أو نترحم على الأنظمة الشمولية الاستبدادية،ولازلنا نتطلع إلى أخطاء غيرنا متناسين أخطاءنا.

نهضتنا ليست ضربا من الأحلام والتمنيات بل هي سنة كونية ،ولكن تأخر مشروع النهضة سابقا وحاليا بسببنا نحن!

سري سمور
جنين-فلسطين
عضو تجمع الأدباء والكتاب الفلسطينيين
أيار 2005م/ربيع أول 1426هـ
sari_sammour@yahoo.com