صفحة المعلومات للعرب في المانيا
Redaktion & Gestaltung: A.M@nsour

قوننة القمع: استحقاقات المشروع الامبريالي على الحريات في الاردن
بقلم : د.هشام البستاني

مدخل : السلطة تصنع الفراغ التشريعي

يوم الاثنين 8/10/2001، اصدرت الحكومة الاردنية ملحقا خاصا للجريدة الرسمية تضمن القانون المؤقت رقم 54 لسنة 2001-قانون معدل لقانون العقوبات، لتكتمل به مجزرة الحريات العامة في الاردن، وليتحول هذا البلد العربي الذي يملك اكبر خط مواجهة مع العدو الصهيوني، الى العرفية والبوليسية المقوننة بامتياز، واصبح الآن بالامكان القاء ما تبقى من المعارضين السياسيين في السجون تحت عدة عناوين، والاستمرار المحموم في السعي لتفتيت البنى الاجتماعية (حتى الاكثر رجعية منها) لتمرير برامج الالحاق بالمركز الامبريالي، والاستمرار باعتبار السلام مع العدو الصهيوني "خيارا استراتيجيا" حتى بعد صعود شارون الى قمة الهرم السياسي الصهيوني، وهو كما يعرف الجميع صاحب مشروع الترانسفير واقامة الدولة الفلسطينية في الأردن، ومجرم الحرب الدموي ذو الايدي الغارقة في بحر دماء شهداء صبرا وشاتيلا وغيرهما، وقائد اعتى حملة عسكرية دموية ضد الانتفاضة الثانية لاخواننا العرب في فلسطين. كل هذا سيتم الآن بقوة "القانون"، ولكن اي قانون هذا؟؟

بعد أن حل البرلمان الاردني في شهر 6 من العام الحالي، قامت السلطة السياسية في الاردن بتأجيل الانتخابات النيابية الى منتصف العام القادم (2002)، في خطوة اجمع مراقبون كثر على انها أتت لتجنب حملات انتخابية واسعة النطاق تتركز اساسا حول موضوعات الانتفاضة والسلام مع العدو الصهيوني ومقاومة التطبيع، لان هذه المواضيع هي حدث الساعة، والخبر اليومي الذي يتعامل معه المواطن الاردني ضمن معطيات انتفاضة الاقصى. وبالنظر الى الاحداث السياسية على الساحتين العربية والعالمية وتطوراتهما المطردة بعد احداث 11 أيلول، فان البرلمان الاردني على ما يبدو سيظل منحلا الى اجل غير مسمى.

وبهذه الاجراءات (حل البرلمان وتأجيل الانتخابات)، خرقت السلطة السياسية الدستور بتعطيلها الحياة البرلمانية ضمن ظروف لا تستدعي مثل هذا الامر (وهي ظروف حددها الدستور الاردني ب "القاهرة" - الفقرة 4 من المادة 73)، وهو خرق يأتي ضمن سلسلة من الخروقات التي بدأت بقرار رئيس الوزراء يوم 6/10/2000 بمنع المسيرات اثر التظاهرات التي عمت الاردن لتأييد الانتفاضة والمطالبة برحيل سفارة العدو الصهيوني عن الارض العربية الاردنية، ولم تنتهي حتى اللحظة.

وهكذا، اوجدت السلطة السياسية -عامدة- فراغا سياسيا وتشريعيا، واستفردت لوحدها بسلطة مطلقة دون رقابة، وبدأت باصدار القوانين المؤقتة بآلية لا دستورية أيضا، حيث ينص الدستور الاردني في الفقرة 1 من المادة 94 على ما يلي: "عندما يكون مجلس الامة غير منعقد او منحلا يحق لمجلس الوزراء بموافقة الملك ان يضع قوانين مؤقتة في الامور التي تستوجب اتخاذ تدابير ضرورية لا تحتمل التأخير او تستدعي صرف نفقات مستعجلة غير قابلة للتأجيل ... [وهذه القوانين] يجب ان لا تخالف هذا الدستور". وبما ان هذه القوانين المؤقتة المعتدية على الحريات (قانون الانتخابات العامة المؤقت لعام 2001، القانون المؤقت المعدل لقانون محكمة امن الدولة لعام 2001، قانون الاجتماعات العامة المؤقت لعام 2001، والقانون المؤقت المعدل لقانون العقوبات لعام 2001) لم تأت لاتخاذ تدابير ضرورية لا تحتمل التأخير، ولا لصرف نفقات مستعجلة غير قابلة للتأجيل، كما أن نصوصها تخالف نص وروح الدستور الاردني الذي كفل الحريات الشخصية والعامة في مواده 6، 7، 8، 9، 10، 14، 15، 16، 17، و18، فان هذه القوانين لا تعد "تعسفا في تفسير الدستور" كما تقول قوى "المعارضة" الرسمية، بل هي خرق صريح ومباشر للدستور ورمي به عرض الحائط.

القوانين المؤقتة: القمع بقوة قوانين غير دستورية

لنستعرض تاليا بعض بنود هذه القوانين، والتي اتت مبهمة وعائمة في كثير من بنودها، مما يجعل التوسع والتعسف في استخدامها تهديدا مباشرا موجها لقمع اي معارضة:

· القانون المؤقت المعدل لقانون محكمة امن الدولة لعام 2001: مدد صلاحية التوقيف للاجهزة الامنية الى اسبوع كامل قبل ان يحال الموقوف الى المدعي العام! كما حصن قرارات هذه المحكمة (غير الدستورية أصلا) المتعلقة بالجنح من الطعن! والاخطر انه اعطى صلاحية لرئيس الوزراء يستطيع بموجبها احالة اي قضية يريد الى محكمة امن الدولة!!!

· القانون المؤقت للاجتماعات العامة لعام 2001: حظر هذا القانون عقد اي اجتماع عام او تنظيم اي مسيرة الا بعد تقديم طلب قبل ثلاثة ايام لهذه الغاية الى الحاكم الاداري [المحافظ] والحصول على موافقة خطية مسبقة، ؟ ويعتبر قراره نهائيا !! واعتبر كل اجتماع يعقد او مسيرة تنظم خلافا لاحكامه "عملا غير مشروع"! واعطى صلاحيات للحاكم الاداري بفض الاجتماع او تفريق المسيرة بالقوة اذا "خرج الاجتماع او خرجت المسيرة عن الغايات المحددة لاي منهما"!!! كما اعتبر القانون طالبي عقد الاجتماع "تحت طائلة المسؤولية القانونية" واعتبرهم "مسؤولون بالتكافل والتضامن" في حال حصل اخلال ب"الامن العام او النظام العام او حصل اضرار بالغير او بالاموال العامة او الخاصة"!!

· القانون المؤقت المعدل لقانون العقوبات لعام 2001: وضع تعريفا غائما ل"الارهاب"، ؟ عاقب بالاشغال الشاقة المؤقتة كل من اقدم على اي عمل يؤدي الى تغيير اوضاع المجتمع الاساسي [؟؟]، ؟ عاقب بالحبس "على كل كتابة او خطاب او عمل يذاع باي وسيلة كانت او على نشر خبر بصحيفة او بأي مطبوعة من شأن اي منها الاساءة الى الوحدة الوطنية ... او زرع الاحقاد [؟؟] او بذر الكراهية او الشقاق بين افراد المجتمع [؟؟] ... او بنشر معلومات او اشاعات كاذبة او بالتحريض على الاضرابات او الاعتصامات او على عقد الاجتماعات العامة بشكل يخالف التشريعات النافذة [اي قانون الاجتماعات العامة المؤقت المذكور سابقا!] او بأي فعل من شأنه المساس بهيبة الدولة او سمعتها او كرامتها [؟؟؟]، ؟ جعل رئيس التحرير ومالك الصحيفة مسؤولين عما ينشر فيها مما ذكر اعلاه ويعاقبان بالحبس او الغرامة او كليهما، ؟ اضافة الى اغلاق الصحيفة او المطبوعة المعنية بصورة مؤقتة او دائمة، ؟ كما عاقب القانون بالحبس من "ثبت جرأته باطالة اللسان على جلالة الملك" او الملكة او ولي العهد او احد اوصياء العرش، ؟ وعاقب بالحبس "من ارسل رسالة خطية او شفوية او الكترونية او رسم هزلي الى جلالة الملك" [هكذا ورد في القانون بدون اي تحديدات، ؟ اي لم يحدد القانون ان تكون هذه الرسالة ماسة بكرامة الملك او مسيئة له، ؟ فاصبح كل من يوجه رسالة الى الملك تحت طائلة العقوبة!]، ؟ ويعاقب القانون بالحبس ايضا من قام بوضع الرسالة المذكورة اعلاه "بشكل يؤدي الى المس بكرامة جلالته او يفيد بذلك [؟؟]" او "اذاع باي وسيلة كانت ما تم ذكره [اعلاه]".

لماذا الآن ؟

ضمن المشهد السياسي العالمي، تبدو خيارات السلطة السياسية في الاردن على تناقض كبير مع المطالب والمصالح الوطنية والشعبية، وهي تقع على النقيض حتى من الحد الادنى من المواقف التي تعهدت بالحفاظ عليها، فهي:

1. تستمر باعتبار "السلام" خيارا استراتيجيا حتى مع وجود شارون ومشاريعه التي تستهدف الاردن بالذات.
وغير بعيد عن التصور طبيعة الحل الذي قد تفرضه الادارة الامريكية للقضية الفلسطينية ضمن حسابات التحالف العالمي ضد "الارهاب"،
2. والثمن الذي قد يدفعه الاردن ضمن هذا الحل.
3. تسارع في عملية تحويل الاردن الى "منطقة حرة" للعولمة والامبريالية من خلال تنفيذ وصفات البنك الدولي،
4. فخصخصت قطاعات هامة وحيوية من الاقتصاد الاردني،
5. ادخلت "الشريك الاستراتيجي" الاجنبي اليه،
6. رفعت اسعار المحروقات،
7. مهدت السبل لانشاء "المصانع الاستغلالية" (رواتب 60 دينار شهريا لقاء 12 ساعة عمل يوميا) مع شركاء صهاينة في "المناطق الصناعية الحرة"،
8. وتشمل خطط البنك الدولي ايضا: تخفيضات هائلة في قطاع موظفي الدولة،
9. تعويم سعر صرف الدينار،
10. وخطوات اخرى.
11. انضمت مؤخرا الى المجموعة الدولية المؤيدة للعدوان الاميركي على افغانستان وآسيا الوسطى،
12. وهو عدوان من الارجح ان يتمدد افقيا ليطال بلادا عربية على رأسها العراق،
13. وربما لبنان وليبيا وغيرهم،
14. مما سيضع السلطة في موقف محرج جدا.

كل هذا يجعلها تشعر بالتهديد المستمر، والخوف من عواقب نهجها الحالي الواضح تماما دون رتوش هذه المرة، مما يحيلها الى البوليسية المباشرة دون رتوش ايضا.

لكن، ولان السلطة السياسية تجهد دائما لتسوق نفسها باعتبارها "ديمقراطية صاعدة" و"بلدا مستقرا" و"دولة قانون" وذلك لجذب السياحة، الاستثمارات الخارجية والرأسمال الاجنبي، فانها تستعمل باستمرار "مساحيق التجميل" لتغطية الدمامل، فمثلا: "قوانين مؤقتة" بدلا من احكام عرفية، "انتخابات مؤجلة" بدلا من لا انتخابات، "تنظيم الديمقراطية" بدلا من القضاء عليها، وكل هذا يتم بيد حكومة من "التكنوقراط"، حيث يعتبر رئيس الوزراء خبيرا اقتصاديا، ووزير الداخلية استاذ جامعي سابق، ووزير العدل هو ابن المرحوم سليمان النابلسي رئيس اول (وآخر) حكومة برلمانية/حزبية عام 1956 لم تعمر اشهرا وانتهى الامر بحلها واعلان الاحكام العرفية حتى عام 1989!!

كل هذه المساحيق التجميلية، والتعقيد الشديد الذي تدار به الامور، هي ادلة تشير الى ان القادم اعظم، وهو امر يضع اعباء كبيرة جدا على كاهل المعارضة الرسمية, والتي فشلت حتى الان في الوقوف بوجه هذا التغول، بل على العكس، ساهمت بتكريسه عندما ارتضت لنفسها الغاء مسيرات ومهرجانات نعجز عن تعدادها خلال الاثني عشر شهرا الماضية بناءا على اوامر من وزير الداخلية او المحافظ او غيرهما. حتى انها قد اعطت الشرعية لهذه القوانين غير الدستورية عندما طلبت "المعارضة" الاسلامية الاذن لاقامة مهرجان يوم
7/9/2001 طبقا لقانون الاجتماعات العامة المؤقت، ولأجل "النوايا الحسنة"، فقد سمح باقامة هذا المهرجان رغم حظر عمره سنة!! ان المعارضة الرسمية لن تستطيع حتى ان "تزعج" السلطة السياسية في اي امر من الامور، وارى ان عليها ان تتنحى مفسحة المجال لمعارضة راديكالية جديدة لا تساوم.

د.هشام البستاني -ناشط في مجال الحريات العامة ومقاومة التطبيع.
.