<
جذور الوصاية الأردنية الفصل الأول : الوكالة وشيوخ العشائر
الجزء الأول :
حتى بداية الثلاثينيات لم يتجاوز اهتمام الزعامة الصهيونية بإمارة شرقي الأردن كونه اهتماماً عاماً بمجريات الأمور هناك، كما أن العلاقات بين رجالات الوكالة اليهودية من ناحية والأمير عبد الله والزعامة الشرق أردنية من الناحية الأخرى بقيت محصورة في نطاق الاتصالات المتفرقة والغير رسمية . غير أننا نستطيع القول بأن اتصالات متفرقة من هذا النوع قد تمت بالفعل ، ودليلنا على ذلك هو ما جاء من الإشارة إليها في كتاب الأمير عبد الله إلى موسى شرتوك يوم 1/7/1937 م حيث كتب يقول :
ولقد قلت كلمة عام 1922 م في حيفا لأحد زعماء الحركة الصهيونية بأنه كان يجب على ساسة اليهود أن يطرقوا الباب ولا يدخلوا من الشباك ، لأن ذلك أجدر . الأرشيف الصهيوني المركزي - أ. ص. م ملف س. 25/3504 بالعربية ، شغل موسى شرتوك ، أو موشه شاريت كما عرف فيما بعد ، منصب رئيس الدائرة السياسية في الوكالة اليهودية في تلك الفترة . كما أن ندرة التقارير الرسمية والمذكرات الشخصية في فترة العشرينيات تدلنا بوضوح على أن تلك الاتصالات المتفرقة لم تتمَّ في إطار أية سياسة مدروسة وواضحة من جانب الوكالة اليهودية .
وبالمقابل فإننا نستطيع القول بأن فترة الثلاثينيات قد شهدت ليس توثيق العلاقة فقط بل وبروز المقوِّمات التاريخية الأساسية التي قامت عليها والتي حوَّلتها تدريجياً إلى أحد العوامل الحاسمة في تطور القضية الفلسطينية . وقد طرأ هذا التحُّول لفعل عاملين أساسيين :
الأول ، موجة الجفاف والقحط التي اجتاحت شرقي الأردن في أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات ، والتي دفعت بعدد كبير من شيوخ العشائر وكبار ملاكي الأراضي فيها ، وعلى رأسهم الأمير عبد الله نفسه ، إلى التوجه إلى الوكالة اليهودية بحثاً عن إمكانية استثمار رؤوس الأموال والخبرة الفنية الصهيونية على أراضيهم . والثاني ، تزايد الهجرة اليهودية إلى فلسطين عقب صعود الفاشية إلى أوروبة الأمر الذي دفع بالوكالة اليهودية إلى بداية التفكير بتوسيع نشاطها الاستيطاني عبَّر النهر . وقد شكل انتشار ظاهرة ارتباط شيوخ العشائر وكبار ملاكي أراضي شرقي الأردن مصلحياً بالوكالة اليهودية خلفية مؤاتية لقيام الأمير عبد الله بتوثيق علاقاته السياسية بزعامة الحركة الصهيونية كما أن تحوُّل اليهود إلى عامل سياسي هام في فلسطين بفعل تعاظم موجة الهجرة اليهودية الجديدة ، دفع الأمير إلى الاعتقاد بأن تنمية مثل تلك العلاقات أمر يخدم طموحاته في ضم فلسطين إلى إمارته . ومن هذا المنطلق حاول إقناع سلطات الانتداب البريطاني بأن توحيد فلسطين وشرقي الأردن تحت سيطرته هو الإمكانية الوحيدة لحل المشكلة الفلسطينية . ومن الناحية الأخرى فقد هدف من وراء توثيق علاقاته بالحركة الصهيونية إلى إقناع زعمائها بأن وحدة من هذا النوع ستكفل لهم الموافقة العربية الرسمية على نشاطهم الاستيطاني ، الأمر الذي انطوى في حينه على التعهد بوضع حد لمقاومة عرب فلسطين لذلك النشاط ، من ناحية وستفتح أمامهم مجالات جديدة وواسعة للاستيطان في شرقي الأردن.
سنتطرق في أحد الفصول القادمة إلى الأبعاد الخطيرة التي كانت لتلك السياسة على مستوى إجهاض الحركة الوطنية الفلسطينية خلال ثورة 1936-1939 م وما بعدها . وبالنسبة لبداية اتصال شيوخ عشائر شرقي الأردن بالوكالة اليهودية ، فإن تقارير تلك الوكالة تشير بوضوح إلى أن ذلك الاتصال قد تمَّ على خلفية الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي عانت منها الإمارة بسبب القحط الذي تعرضت له في أواخر العشرينيات والذي دفع بهؤلاء الشيوخ إلى البحث عن ممولين لمشاريع الاستثمار على الأرض أو حتى عن إمكانية رهنا وبيعها . وذلك على الأقل هو انطباع ناحوم ببر "المبعوث الخاص للدائرة الموحدة" الذي زار شرقي الأردن في صيف وخريف سنة 1930 م وقابل كلاًّ من رئيس حكومتها حسن الخالد ووزير العدلية فيها إبراهيم هاشم . ويشير ببر في تقريره عن اجتماعه بهذا الأخير يوم 10/8/1930 م إلى أنه يؤيد دخول اليهود إلى الإمارة . غير أنه أفهمه أن "الأوضاع في فلسطين تنعكس بشكل مباشر على شرقي الأردن وتؤثر فيها مما يحتمَّ أخذها بعين الاعتبار" (1)
وهنالك تقريران لناتان كابلان بالإنجليزية ولأبرهام شابيرا - ميخو بالعبرية حول زيارة كل من رفيفان باشا المجالي وحسين باشا الطراونة وصالح باشا من الطفيلة لأبراهام شابيرا في مستعمرة بيتاح تكفا . ونفهم من هذين التقريرين أن الزيارة تمت أثناء انعقاد المؤتمر الإسلامي في القدس في الفترة الواقعة بين 7-8 كانون الأول سنة 1931 م والذي شارك الشيوخ الثلاثة فيه . والتقريران متشابهان من ناحية جوهر المعلومات الواردة فيهما مع اختلاف بسيط في أسماء الزوار حيث ورد في تقرير أبراهام شابيرا اسم إحسان باشا التواني خطأ مكان حسين باشا الطراونة وحيث ورد في تقرير كابلان اسم الحاج محمد حمزة من "وجهاء الخليل" بدلاً من صالح باشا من الطفيلة . كما أنهما يتفقان على كون أبراهام جودال "من القدس" قد تعرَّف على الزوار عن طريق صديق لهم كان يسكن الكرك إبَّان الحرب العالمية الأولى ، وأنه أخذهم بدوره لزيارة أبراهام شابيرا في مستعمرة بيتاح تكفا . ويصف ناتان كابلان الضيوف بأنهم رفيفان باشا المجالي ، زعيم الحزب الحكومي في المجلس التشريعي في شرقي الأردن ، وممثل ثمانين بالمئة من سكان شرقي الأردن ، وحسين باشا الطراونة ، زعيم المعارضة وممثل العشرين بالمئة الباقين ، وكذلك الحاج محمد حمزة أحد وجهاء الخليل» ويصف ساخراً : "وقد جاءت هذه الزيارة في صبيحة اليوم الثاني للمؤتمر الإسلامي حيث أقسم المؤتمرون على تكريس حياتهم من أجل مقاومة الحركة الصهيونية في جميع البلدان الإسلامية. وقد انضم شيوخ العربان الذين اشتركوا في المؤتمر والمعروفون بحمل السلاح إلى أصحاب ذلك القسم .
وكان من بينهم الباشاوان المذكوران اللذان أقسما وسيفاهما مسلولان. وعلى الرغم من ذلك فقد قاما بزيارة السيد جودال في اليوم التالي" . (2)
هذه صورة لبطاقة الدعوة التي أرسلها الأمير
عبد الله بن حسين لموشيه شرتوك مدير الوكالة اليهوديه كي يشارك في
حفل زفاف الأمير نايف الدعوة كما وردت بالحرف الواحد في أعلى البطاقة
صورة الشعار الهاشمي
بمناسبة قران سمو الأمير نايف المعظم يتشرف رئيس التشريفات السنية
لقصر رغدان العامر بدعوة سعادة السيد موسى شرتوك رئيس القسم السياسي
في الوكالة اليهودية لحضور الغداء على المائدة السنيه في الشونه
الغور يوم الثلاثاء في واحد ذي الحجه 1359 المصادف يوم 31 \ 12 \ 1940
الساعه 12 اردنيه
أمَّا شابيرا فيتحدث في تقريره عن دعوته لهم بعد زيارتهم الأولى له بأسبوع لتناول العشاء عنده وكيف أنه أخذهم لزيارة البيارات بهدف "إقناعهم بضرورة التعايش السلمي بين اليهود والعرب في البلاد" . ويصف شابيرا المدى الذي أثر عليهم ما رواه لهم من أن بيارته التي تبلغ 500 دونم فقط تدر مدخولاً سنوياً صافياً مقداره 10 آلاف ليرة بينما مدخول أراضي رفيفان التي تبلغ 15 ألف دونماً لا يزيد عن 200-300 ليرة سنوياً. ويضيف أن رفيفان قال له : "لماذا لا تأتون إلينا ؟ أراضينا خصبة وعندنا من الينابيع الوافرة ما يكفي. تعالوا إلينا وسنعطيكم كواشين الأرض ونقيم معكم شراكة". فأجابه شابيرا مستدرجاً : "وكيف لنا ذلك ما دامت قوانين بلادكم تمنع اليهود من الدخول إليكم ؟" . فقال رفيفان : "نحن الذين صنعنا القوانين ، وباستطاعتنا تغييرها". (3)
وأول نتائج هذه الزيارة هي ما كان لها من الأثر الرمزي على اشتراك الضيوف في المؤتمر الإسلامي . إذ يروي كابلان كيف أن جودال أعادهم إلى القدس حيث سهروا في مقهى جراند حتى منتصف الليل ولم يتمكنوا من حضور الجلسة الختامية للمؤتمر الإسلامي . أمَّا النتيجة الثانية فكانت توثيق العلاقات بين شابيرا وضيوفه الذين وجَّهوا إليه بعدها بأسبوعين دعوة لزيارتهم في الكرك. وقبل الانتقال إلى طبيعة هذه العلاقات وتطورها تجدر الإشارة إلى أنها تمت بموافقة وتشجيع الوكالة اليهودية التي كانت باستمرار تتلقى التقارير من أبراهام شابيرا عنها . وبالإضافة إلى ما أشار إليه تقرير كابلان المذكور بهذا الخصوص ، فإن رسالة موسى شرتوك "لجانب مثقال باشا الأفخم حفظه الله" يوم 28/5/1933 م تدل بوضوح على الموافقة الرسمية التي أبدتها الوكالة لقيام مثل تلك العلاقات. ويشرح شرتوك لمثقال في الرسالة المذكورة كيف بدأت العلاقة مع حسين الطراونة يوم قام بزيارة صديق له في مستعمرة "ملبس اليهودية" بيتاح تكفا وذلك أثناء اشتراكه في المؤتمر الإسلامي العام الذي عُقِد في كانون أول سنة 1931 م في القدس. وكيف أن الطراونة دعا أصدقاءه لزيارة الكرك وطلب إليهم مساعدته في إنشاء بيارة "عصرية" له ، والهدايا التي تمَّ تبادلها فيما بينهم. ويضيف شرتوك : "ونظنكم تفهمون جيداً أن مثل هذه المقابلات التي جرت بين سعادة الباشا وأعيان مستعمرة ملبس ، سواء في المستعمرة أو في الكرك ، لم تتمَّ ألاَّ بعد مشورتنا وموافقتنا عليها" . ولما اقترحوا ؟ علينا أعيان مستعمرة ملبس أن نستجيب لدعوة الباشا في القيام بتجربة إنشاء بيارة له في الكرك لم نتأخر قط ، وأرسلنا له كمية من لشتول مع بعض رجالنا المتخصصين . (4)
سنرى فيما بعد كيف أن شرتوك هدف من وراء هذه الرسالة إحراج حسن الطراونة الذي قطع علاقته بالوكالة اليهودية في تلك الفترة وانضم إلى حزب "الاستقلال" الوطني المعارض لدخول اليهود إلى شرقي الأردن . وحول المساعدة التي تلقَّاها كل من الطراونة ورفيفان المجالي من أبراهام شابيرا فإن تقريري كابلان وشابيرا نفسه يوردان بعض المعلومات حول زيارة الأخير لهما في الكرك وتطور علاقتهما بزعماء الوكالة اليهودية في الفترة التي تلت ذلك . ويذكر كابلان أنه بعد أيام من زيارة رفيفان المجالي وحسين الطراونة لبيتاح تكفا تلقى شابيرا دعوة لزيارة رفيفان في الكرك فذهب ومعه عقيبا لبرخت إلى هناك حيث التقيا بحسين الطراونة أيضاً . كما يصف كابلان مدى الحفاوة التي استقبل بها شابيرا ولبرخت في الكرك حيث أهداهما رفيفان باشا حصانين. كما قاما بإلقاء نظرة على أراضي حسين الطراونة ونصحاه بزراعة الحمضيات. ويشير أيضاً إلى أنهما اجتمعا حال عودتهما إلى القدس بزعامة الفاعاد لئومي "اللجنة القومية الصهيونية" والوكالة اليهودية التي تحمّست للفكرة ووافقت على تقديم هدية لرفيفان باشا ولحسين الطراونة بالمقابل ، وهي عبارة عن شتول حمضيات والقيام بالإشراف على زراعتها . (5)
والحقيقة أن نسخاً عن الرسائل التي تبادلها شابيرا بالعربية مع كل من حسين الطراونة ورفيفان المجالي في تلك الفترة قد بقيت محفوظة في الأرشيف الصهيوني المركزي . منها رسالة حسين الطراونة "لحضرة الخواجة إبراهيم أفندي المحترم" يوم 16/3/1932 م :
بعد سؤال خاطركم في أيادي المسرة ، أخذت كتابكم الأول والثاني وشكرنا اهتمامكم في شغلنا . بخصوص الخواجة ليفنشتاين أخبرنا عن "ثمن الماتور نهائياً". إنما الأزمة الاقتصادية وقَّفتنا عن العمل . عند انفراجها نتوسل في أخذ الماتور إن شاء الله. بخصوص الشتول أظن أنه حان وقت غرسهم وتفضلتم أنه لازم إرسال اثنين من زلمكم يدرِّبوا زلمنا على الغرس وهذي نظرية لطيفة جداً وإنما لكون مطلوبنا من الشتول قليل لا يتحمل تعطيل زلمتين من زلمكم عن شغلهم . فإذا تكرمتوا في إرسال الشتول ومعهم واحد من زلمكم يكفي إلى إيصالهم لنا ويمر نظرة على ارأت ؟ زلمنا كيفية الغرس ولو شجرة واحدة أو اثنتين وفيما بعد هم يعملوا على حسب إشارته والأرض ممهدة على حس ترتيبكم الذي أشرتوا لنا عليه . لذلك الأمل أن ترسلوهم لنا مع أحد زلمكم إلى عمَّان ويكون وصولهم يوم 20 أو 21 مارس /آذار سنة 1932 م في هذين اليومين أكون في عمَّان وبعدهم أتوجه إلى الكرك حيث انقضى اجتماع المجلس التشريعي الآن والسفر محقق في هذين اليومين . فإذا تكرمتوا في إرسالهم في ضمن هذه المدة لعمَّان نسافر للكرك سوا وإن كان بعدهم أرسلوهم لنا مع الزلمة إلى الكرك . أرجو أن يكونوا من الأجناس الطيبة مركبين ومشكلين من أجناس مختلفة ما عدا الخشخاش وهذا البيان في جانبه ، هذا ما لزم مع سلامي ومزيد احترامي إلى الخواجات كيبا أفندي وإبراهيم أفندي وأنجالكم وجميع ما حواه نزلكم ودمتمَّ محترمين ، عزيزي .
16/3/1932 م المخلص حسين الطراونة
عدد 50 خشخاش 50 أجناس مشكلة ------------100 ----- مقدار من الكينا (6)
ويوم 24/3/1932 م رد أبراهام شابيرا على هذه الرسالة يقول : سعادة الصديق المحترم حسين باشا الطراونة دام عزه آمين . تحية واحترأمَّا لسعادتكم وأشواقاً أبديها إليكم وبعد. مقدم لسعادتكم ما أمرتمَّ به من أنواع الأشجار .
خشخاش عدد 50 وتفاح وخلافه عدد 50 أربعة أجناس من حيث ثمرة وكالبتوس عدد 25 وذلك صحبه صهرنا الخواجة إلياهو هوار المتوجه لطرفكم وهو يعلمكم بكيفية غرسهم ويصحبه البياري خاصتنا لأجل غرسهم وإني مسرور جداً بإيجاد غرس تبقى مثمراً أبدياً إنشاء الله ويكونو في كل آن لديكم تذكاراً لصداقتنا وإخلاصنا لكم سائلاً الله أن يمتعكم أنتمَّ ومن تحبوه بأثمارهم وإيجارهم .
وتروني في كل وقت رهين لما تأمرون به من تكليفي في أي شيء حتى أقوم به بكل ابتهاج وسرور لأن الإنسان هو للإنسان لا سيما الرجل الطيب النافع مثلكم . وبالختام أقبلوا فائق احتراماتي لسعادتكم مع إهداء أشواقي وتحياتي لجميع الإخوان والأصدقاء والأحباء ودمتمَّ على الدوام آمين . (7)
المخلص إبراهيم ميخو شبيرا 24/3/1932 م
كما أرسل في نفس اليوم الرسالة التالية إلى سعادة الصديق المحترم رفيفان باشا المجالي الأفخم دام عزه :
سلاماً وتحية لسعادتكم وأشواقاً خالصة أبديها إليكم وبعد متوجه لطرفكم شخصين لأجل استلام الخيل الذي تفضلتم بهم علينا والذين هم طريق للرابطة القوية بيننا الذي أعتبرهم تذكاراً لكرمكم وأخلاقكم الحميدة متمنياً أن لا تنقطع هذه المروءة من بيننا على الدوام وترونني في كل آن رهين لما تكلفوني به من أشياء لأني أعتقد بأني أقوم بنفسي لنفسي . وبالختام أرجو إهداء تحياتي لجميع الأصدقاء مع قبول فائق احتراماتي لسعادتكم ودمتمَّ سالمين .(8) أ. ص. م. ملف س
24/3/1932 م المخلص إبراهيم شابيرا
وفي حين قطع حسين الطراونة علاقته بأبراهام شابيرا كما قلنا ، فإن علاقة رفيفان المجالي بهذا الأخير وبزعامة الوكالة اليهودية قد توثَّقت أكثر مع مرور الوقت. ويشير تقرير كابلان المذكور إلى أنه بعد زيارة شبيرا ولبرخت إلى الكرك بفترة وجيزة دعاهما رفيفان لفحص أراضيه في أذرا الواقعة شرقي البحر الميت بالقرب من المجرّة. والتقى الثلاثة في أريحا وسافروا لمعاينة الأراضي. وهناك طلب رفيفان إليهما معاينة أراضي الأمير عبد الله بطلب من هذا الأخير أيضاً . فوجداها صالحة لزراعة الحمضيات واقترحا جلب خبراء يهود لتفحُّصها نهائياً . (9)
سنتطرق إلى قضية أراضي الأمير عند بحثنا لتطور علاقته بالوكالة اليهودية. وبالنسبة لرفيفان باشا فإن كابلان يذكر في تقريره أن شابيرا قام بدعوته إلى قضاء ليلة في فندق "بار" بالقدس حيث قدَّمه إلى موشه شرتوك. وفي نيسان سنة 1932 م دُعي رفيفان لزيارة "المعرض الشرقي" الذي نظمته الوكالة اليهودية في تل أبيب حيث استقبله رئيس بلديتها ديز نغوف وبعد أن قضى فيها يومين عاد إلى القدس حيث قام بزيارة الدكتور حاييم أرلوزوروف رئيس الوكالة في بيته بحضور كل من شرتوك وشابيرا ولبرخت والحاج محمد حمزة .
ويضيف كابلان أن الصحافة هاجمت رفيفان بشدة بعد عودته إلى شرقي الأردن. غير أنه رد على ذلك بأن دعا شابيرا وجودال ولبرخت وديز نغوف وكابلان نفسه وغيرهم لزيارته يوم 4/7/1932 م. والظاهر أن زعماء الوكالة قد ترددوا في قبول تلك الزيارة في البداية. وهذا التردد نبع على ما يبدو عن عدم وجود سياسة واضحة لدى الوكالة في تلك الفترة حيال المضاعفات التي من الممكن أن تنتج عن توسيع نشاطها في شرقي الأردن . ومع ذلك ففي 18/7/1932 م قام كل من شابيرا ولبرخت ولويس جرمين وناتان كابلان بزيارة رفيفان المجالي في قرية الربة بالقرب من الكرك .(10)
وخلال الفترة التي تمت فيها الزيارة توثَّقت العلاقة بين زعامة الوكالة اليهودية وبين مثقال الفايز، زعيم عشائر بني صخر والشخصية التي لعبت دوراً هاماً على خلقية التركيبة السياسية العشائرية لإمارة شرقي الأردن في تلك الفترة . وتشير تقارير طوفيا أشكنازي المبكرة إلى الدائرة الموحدة للوكالة اليهودية إلى انتماء مثقال الفايز ورفيفان المجالي إلى فئة المعارضة السياسية التي دفعتها الأوضاع الاقتصادية الصعبة خلال 1929-1930 م إلى المطالبة بوضع حد للنفوذ البريطاني وإقامة حكومة وطنية وحتى الاتصال بالحاج أمين الحسيني والحركة الوطنية في فلسطين .
ومما يؤكد على ذلك أيضاً ما جاء في التقرير الذي قدمه كالفارسكي يوم 25/2/1931 م والذي يقول فيه زارني ت. د. بالأمس وأخبرني أن المفتي أرسل موفدين عنه إلى عمَّان وإربد وطلب إليهم تنظيم المظاهرات هناك. وهؤلاء الموفدون هم: رفيق رأفت الحسيني وثابت درويش وموسى العزراوي .
ولم يعطِ الشيوخ الكبار كمثقال الفايز ونمر الحمود وسليمان السويدي أجوبة واضحة في البداية. ثم استشاروا ت. د. الذي نصحهم بالحذر وبعدم الاشتراك في المظاهرات. وقد دعا المفتي تيسير وطلب إليه أن يؤثر فيهم. وقال له إنه يستغرب خاصة من مثقال الذي أيده وأطاعه في سنة 1929 م .
وقبل تتبع العلاقة بين مثقال الفايز والوكالة لا بد من الإشارة إلى ما يوحي إليه هذا التقرير من أن ت. د. هو تيسير الدوجي الذي لعب دور أول حلقة وصل هامة بين الوكالة من ناحية والأمير عبد الله ومشايخ شرقي الأردن من الناحية الأخرى في هذه الفترة والذي يظهر في تقارير الوكالة باسم "جاد" أحياناً .
والظاهر أن الوضع الاقتصادي الصعب قد دفع مثقال الفايز كغيره من شيوخ العشائر وكالأمير عبد الله نفسه كما سنرى إلى البحث عن متمولين عرب وأجانب لرهن أراضيهم. وينسب التقرير الذي كتبه موشه شرتوك عن محادثته مع ت. د. يوم 28/2/1932 م إلى هذا الأخير قوله : الوضع في الأردن هادئ الآن ولا احتجاج على حكومة الأمير . غير أن الحالة الاقتصادية لا تزال صعبة . وقد دعا مثقال إليه حمد الباسل أحد الأثرياء المصريين للتحدث في أمور الأموال والأراضي . ويضيف شرتوك في تقريره : ويقترح ت. د. على ضرورة قيامنا بإعطاء مثقال باشا وراشد الخزاعي قروضاً بهدف إقامة اتصال معهما . ويقول إنهما ذَوَا نفوذ قوي في شرقي الأردن وبأن الأمير يعتمد عليهما. ومن الناحية الأخرى. فليس لرفيفان أي مركز مستقل . (11)
وانطلاقاً من وعيها لإمكانية استغلال الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي عاني منها مثقال فقد أسرعت الوكالة اليهودية في إقامة الاتصالات الأولية معه وذلك عن طريق ت. د. نفسه. وهذا الأخير شارك في "المؤتمر العربي في شرقي الأردن" الذي عُقد في عمَّان يوم 15/3/1932 م حيث أدرج خطر التغلغل الصهيوني على جدول أعماله. ويشير موشه شرتوك في تقريره عن مقابلته مع ت. د. يوم 19/3/19322 م إلى أن هذا الأخير قابل مثقال الفايز قبيل انعقاد المؤتمر ونصحه بعدم جدوى اتخاذ أية قرارات معادية للصهيونية ، وأن مثقال وعده بمعارضة اتخاذ مثل تلك القرارات. كما يؤكد التقرير أيضاً على أن مثقالاً هاجم الهيئة التنفيذية للمؤتمر وانسحب منه ومعه "بعض الملاكين من الشيوخ" كرفيفان باشا وناجي العزام ومحمد باشا السعد أيضاً. (12) أمَّا حلقة الاتصال الثانية فكانت عن طريق ماير حسيدوف سمسار الأراضي وصاحب شركة "عير جنيم" العقارية في القدس. ويعطينا التقرير الذي رفعه موشه شرتوك إلى حاييم أرلوزوروف رئيس الوكالة اليهودية حول حديثه مع ماير حسيدوف بعض المعلومات عن طبيعة العلاقة التي نشأت بين هذا الأخير ومثقال . وقد قال له حسيدوف أن الطريقة الوحيدة التي يستطيع فيها الحصول من أجله على مبلغ جيد من المال هي أن يرهن جزءاً من أراضيه .
كما يؤكد حسيدوف على أن مثقالاً جاءه بعد بضعة أيام بكتاب خطي يطلب فيه قرضاً بمبلغ 5000 ليرة فلسطينية مقابل رهن 31 ألف دونم من أراضيه في الجيزة شمالي عمّان. كما أعطاه تفصيلاً خطياً عن ديونه التي بلغت 6778.798 ليرة فلسطينية. ثم أنه :
بالإضافة إلى ذلك الكتاب قد أحضر حسيدوف معه وصل تسجيل باسم مثقال على مساحة 31 ألف دونم من أراضي الجيزة شمالي عمَّان بحيث تنتقل هذه المساحة إليه حال دفعه المبلغ المطلوب. فهذا الوصل ليس كوشاناً بل تصديق على الكوشان الذي سيصدر بعد تنفيذ الشروط المذكورة .(13 + 14)
الجزء الثاني :
ومما يؤكد على أن حسيدوف كان سمساراً للأراضي هو ما يرويه شرتوك عن أنه قرأ عليه كتاباً موقّعاً من مثقال يلتزم الأخير بموجبه بعدم بيع الأراضي أو التوسط في بيعها لأية شركة أو جهة يهودية سوى عن طريق حسيدوف نفسه الذي سيحصل على اثنتي عشر بالمئة من ثمن البيع كعمولة له . غير أنه كان لنشاط حسيدوف هذا طابع سياسي تخطى مصلحته الشخصية كسمسار للأراضي. يقول شرتوك :
ثم حدثني حسيدوف كيف أن مثقالاً جمع شيوخ قضاء مأدبا وكيف أنه - أي حسيدوف - خطب فيهم حول ضرورة فتح البلاد أمام الهجرة اليهودية وذلك من أجل تطويرها من ناحية ولأن اليهود سيشكلون عامل ردع أمام خطر سيطرة أبناء المدن على البدو من الناحية الأخرى وقد أبدى الاستعداد للدفاع عن المستوطنين اليهود حتى ولو بلغ عددهم ألف عائلة .
غير أن حسيدوف لم يكن حلقة الوصل الوحيدة بين الوكالة اليهودية ومثقال باشا الفايز. وخلال أيام من اجتماع حسيدوف بموشه شرتوك قام "جاد" بتقديم أهرون كوهين رئيس القسم العربي في الدائرة السياسية للوكالة إلى مثقال الفايز وذلك أثناء الزيارة التي قام بها إلى عمَّان بغية تقصِّي إمكانية قيام شركة "أيفن فسيد" بتقديم مناقصة على مشروع الأشغال العامة الذي أعلنت عنه بلدية عمَّان في 4-5/8/1932 م. ويقول أهرون كوهين في معرض تقريره عن تلك الزيارة :
(1) من مجموعة تقارير الدائرة السياسية عن الوضع في شرقي الأردن حتى 1932 م ، أعدها أهرون كوهين بعنوان سيرة حياة ومعلومات سياسية عن الأمير عبد الله أ. ص. م. ملف س . 25/3486 بالعبرية
(2) تقرير كابلان يوم 29/9/1932 م أ. ص. م ملف أ . 264/18 بالإنجليزية .
(3) تقرير - أ - شابيرا يوم 15/2/1932 م أ. ص. م ملف س . 25/3489 بالعبرية .
(4) أ. ص. م. ملف س. 25/3501 بالعربية .
(5) تقرير كابلان ص 3-5 .
(6) أ. ص. م ملف ي 25/3489 بالعربية .
(7) أ. ص. م. ملف س 25/3489 بالعربية .
(8) أ. ص. م. ملف س. 25/3489 بالعربية .
(9) تقرير كابلان ، ص 5-6.
(10) تقرير كابلان ، ص 12.
(11) أ. ص. م. ملف س. 25/3051 بالعبرية .
(12) أ. ص. م. ملف س. 25/3501 بالعبرية .
(13) أ. ص. م. ملف س. 25/3489 بالعبرية .
(14) وبالنسبة لتفصيل ديون مثقال كما قدمه لحسيدوف راجع الملف س. 25/3491 بالعربية .
|