سنرى فيما بعد كيف أن زيارة كوهين هذه شكلت جزءاً من سياسة توسيع النشاط الاقتصادي الصهيوني داخل إمارة شرقي الأردن في تلك الفترة. أمَّا الطابع السياسي لذلك النشاط فقد تركز حول توثيق العلاقة بين رجالات الوكالة وشيوخ عشائر الإمارة الذين شكَّلوا الركيزة السياسية للنظام الاجتماعي الذي قام على علاقات الولاء العشائرية.
ويبرز الطابع المصلحي لتلك العلاقة من خلال التقرير الذي كتبه موشه شرتوك عن اللقاء الذي تمَّ في بيت ماير حسيدوف يوم
والذي اشترك فيه، إلى جانب موشه شرتوك وماير حسيدوف، كل من مثقال باشا الفايز وسكرتيره أبي خالد ومحاميه أبي سليمان .
في بداية اللقاء تحدث مثقال الفايز عن مساعيه لحل مشاكله المالية فذكر أنه اجتمع مع رئيس حكومة شرقي الأردن، الشيخ عبد الله السراج وسكرتيرها توفيق أبي الهدى وطالبهم بإعفائه من الديون والضرائب الحكومية المطالب بدفعها أو تأجيل موعد الدفع أو شراء قسم من أراضيه مقابل ما يستحق منه أو السماح ببيعها لليهود. ويضيف مثقال أنهم بعد أن تشاوروا:
"نصحوه بأن يرهن أراضي الجيزة لليهود مقابل مبلغ يستطيع بواسطته تغطية ديونه لسنة أو سنتين. وبعد حلول ميعاد سداد الرهن يقوم بعرض الأرض المرهونة للبيع علناً. ومن المنتظر في تلك الحالة ألاَّ يجد من يشتريها غير اليهود الذين سيتمكنون من الحوزة على الأرض كنتيجة تلقائية للتطور الطبيعي للأمور ودون أن يؤدي ذلك إلى إثارة أية ضجة في الصحف أو لدى الرأي العام" ** .
ويعلَّق موشه شرتوك على ذلك بقوله :
هكذا كانت بداية قصة السعي للحصول على قرض مقابل رهن أراضي الجيزة
31-45 ألف دونم والتي رواها حسيدوف بعد عودته من شرقي الأردن قبل أسبوعين والتي ذكرتها في كتابي لأرلوزوروف في لندن يوم
2/8/1932 م .
أمَّا مثقال فقد أكد في اللقاء المذكور على أنه كان السبب في تغيير السياسة الرسمية في شرقي الأردن تجاه إيجار وبيع الأراضي لليهود، وكيف أنه يواصل ضغطه على السلطات الشرق أردنية بهذا الاتجاه. ويضيف موشه شرتوك :
"وبطلب من مثقال، أخرج سكرتيره أبو خالد مزبطة موقعة من قبل عشرين من الشيوخ الذين يطالبون السلطات فيها بالسماح لهم ببيع أراضيهم دونما قيود للشركات أو الأفراد من أبناء شرقي الأردن وخارجها ودون تفرقة في الدين - للمسلمين، والمسيحيين واليهود" .
سنرى فيما بعد مدى فعالية ذلك على الضغط على خلفية التركيبة الاجتماعية للإمارة وكيف عملت الوكالة على الاستفادة منه سياسياً. أمَّا الاعتبارات المصلحية التي دفعت بمثقال وغيره من مشايخ شرقي الأردن إلى الارتباط بالوكالة فتتضح من خلال النظرة التي أدلى بها مثقال في اللقاء المذكور حول الجوانب الاقتصادية للنشاط الصهيوني في كل من فلسطين وشرقي الأردن. ويذكر موشه شرتوك في تقريره كيف أن مثقال تحدث في ذلك الاجتماع عن فشل مساعيه لدى زعامة الحركة الوطنية في القدس في تجنيد رؤوس الأموال اللازمة لتطوير أراضيه وعن خيبة الآمال التي علقها على وعود عوني عبد الهادي والشيخ سليمان الناجي الفاروقي وبعض أعضاء اللجنة العربية والمجلس الإسلامي بمساعدته في حلِّ مشاكله المالية، عندها :
عاد مثقال إلى القدس وفي نفسه الكثير من المرارة . وأثناء حديثه في بيت حسيدوف لم يكف عن التذمر وشتمَّ القوميين العرب في فلسطين العربية والطعن في قوميتهم مؤكداً على عزمه على الانتقام وقال مثقال أن مستقبل فلسطين سيكون مربوطاً بشرقي الأردن التي تشكل الآن الركيزة الوحيدة التي بقيت للتجار والرأسماليين العرب غربي النهر وذلك لكون اليهود قد أخذوا منهم جميع العلاقات الاقتصادية مع الغرب .
وإذا دخل اليهود إلى شرقي الأردن فستنقل التجارة الداخلية إلى أيديهم أيضاً الأمر الذي سيؤدي إلى تطويق عرب غربي الأردن وخنقهم داخل حلقة حديدية. ولأنهم يعلمون ذلك فإنهم يعارضون دخول اليهود إلى شرقي الأردن ويقاومون قيام أية علاقة بين الشرق أردنيين واليهود، غير أنهم لن ينجحوا في ذلك. فقد قال لهم مثقال، كما قال لشيوخ شرقي الأردن أيضاً، أنه سيعمل على توطين ليس فقط ألف أو ألفي يهودي لأن باستطاعة أراضي بني صخر وحدها استيعاب
200 ألف شخص .
هنا يجب التوقُّف قليلاً عند الاعتبارات التي دفعت الوكالة اليهودية من جانبها إلى السعي لتوثيق تحالف شيوخ العشائر معها وإذا كان مثقال قد عبَّر في حديثه المذكور عن نظرته "للتجار والرأسماليين" العرب في فلسطين كطبقة منافسة لمشايخ شرقي الأردن وعن اعتباره لذلك التنافس كأساس موضوعي يقوم عليه تحالف المشايخ مع الرأسمال الصهيوني، فإن وثائق الوكالة اليهودية تشير بوضوح إلى اعتبارات ذات طابع سياسي محض. وذلك على الأقل ما يتضح من الكلمة التي ألقاها حاييم أرلوزوروف في "جلسة إدارة الوكالة اليهودية" يوم
28/9/1932 م .
وحول أهمية الارتباط بشيوخ العشائر من وجهة النظر الصهيونية قال أرلوزوروف :
هذه النقطة هامة من وجهة نظر أمن فلسطين. فلو أن عشائر شرقي الأردن عبرت نهر الأردن في سنة
1929 م لكانت أعمال الشغب قد تحولت إلى ثورة. وقد وقف بنو صخر عندها على جسر اللنبي. أمَّا المفتي فقد سعى يومها كما يسعى الآن لكسب مثقال الفايز والشيوخ الآخرين إلى جانبه .
لذلك فإن لتجنيد عشائر شرقي الأردن أهمية خاصة من الناحية الأمنية. ومن الممكن أن تدفعهم خيبة أملهم إلى عدم الوقوف جانباً في المناسبة القادمة. وقد قلنا لهم في لقاءاتنا: أمَّا أن توفروا لنا الظروف المناسبة لنشاطنا أو أن نعتبر ذلك في غير مصلحتنا. وأظن أننا نستطيع الخروج من الحلقة المفرغة عن طريق الشيوخ والباشاوات فقط. فالمعتمد البريطاني في شرقي الأردن معني بتأمين الحدود الصحراوية .
والأمير لا يحسن القيادة إذا لم يكن هنالك من يوجهه لكونه غريباً عن الأردن. والحل الوحيد الآن يوجد في أيدي رؤساء العشائر .
وإذا توجّه هؤلاء ورفضناهم فإننا سنتحمل المسؤولية. كما تبحث الأقليات الشرق أردنية عن طريق للاتصال بنا. لذلك فأمامنا بالدرجة الأولى قضية سياسية وليست اقتصادية. وإذا سألتموني: من أين لنا الحصول على
5000 ليرة الآن، يكون جوابي : لا جدوى من الحديث إذاً ... أظن أن علينا تجاوز العقبات وإيجاد الوسائل حتى لو اضطر أحدنا إلى السفر للخارج والحصول على الأموال لهذا الغرض ** .
** أ. ص. م. ملف س. 25/3489 بالعبرية .
والظاهر أن هذا التأكيد من جانب أرلوزوروف على الطابع السياسي والقيمة العسكرية "الأمنية" لربط زعماء شرقي الأردن بالوكالة قد لفت حتى انتباه بقية أعضاء مجلس الإدارة. فعيمانوئيل نيومان يعقِّب على كلمة أرلوزوروف متسائلاً حول الفائدة الاقتصادية التي من الممكن أن تعود على مشاريع الاستثمار الصهيونية في شرقي الأردن من الأساس :
هل لدينا أية معلومات واضحة عن الإمكانيات الاقتصادية في شرقي الأردن؟ من المستحيل الحصول على الأموال دون أن نخبر أصحابها عن الإمكانات هناك .
والأمر الهام الثاني الذي تجدر الإشارة إليه هو أن إمكانية شراء أو حتى استئجار الأراضي في شرقي الأردن دفعت الزعامة الصهيونية إلى بداية التفكير بتهجير عرب فلسطين الذين يتمَّ الاستيلاء على أراضيهم وتوطينهم في البلدان المجاورة. وذلك على الأقل ما يتضح من الاقتراح الذي قدَّمه م. نحماتي يوم
26/9/1932 م إلى دائرة الاستيطان التابعة للوكالة اليهودية بشأن تأسيس شركة استيطان يهودية تقوم بشراء الأراضي في سورية وشرقي الأردن لذلك الغرض ** .
** أ. ص. م. ملف س. 25/3489 بالعبرية .
أمَّا بالنسبة لمثقال الفايز فقد باشرت الوكالة في أوائل تشرين أول سنة
1932 م باتخاذ الخطوات العملية لربطه بها .
وفي
11/10/1932 م منحه قرضاً بمبلغ
50 ليرة على حساب المفاوضات حول رهن أراضيه .. سند القرض محفوظ في أ. ص. م ملف س.
25/3491 بالعبرية . وفي 26/1/1932 م أرسل مثقال الكتاب التالي إلى ماير حسيدوف يستحثُّه فيه على السعي لدى الوكالة للإسراع في المفاوضات حول رهن أراضي البرزين لإنقاذه من ضائقة ديونه وتهديد المصرف الزراعي في عمَّان بمصادرتها :
حضرة الخواجة ماير حسيدوف المحترم :
عقب سؤال خاطركم إعلم ؟ أننا الآن بغاية الصحة، أفيدكم أن أراضي برزين بقي خمسة أيام لمدة إحالتها لاسم المصرف الزراعي بعمَّان فالمرجو أن تذهبوا للوكالة وتفهوا سعادة الرئيس بذلك واطلبوا لنا منه ثلاثمئة جنيه فلسطيني لأجل نفك ؟ الأراضي المذكورة ونحضر القواشين للقدس ونرهنهم. وأني ننتظر ؟ الجواب نهار غداً بعمَّان بالآمال ؟ تحرير منكم .
وإذا هذا الشيء ما صح لنا ولا فكينا الأراضي فتجسر الحكومة على حجز الأراضي ولا يبقى عمل بيننا ويمكن الدعوة تكون خطره في هذه القضية والباب فتحناه نحن نخاف من سده. ثم لا تتأخروا على تبليغ سعادة الرئيس حين استلامكم هذا التحرير. يلزم بوجه السرعة تبليغ الجميع ما توقع معنا ونحن إن شاء الله متوفقين بعملنا والكل قادماً ؟ .
وآخر جوابي أقول أن هذا شيء بيدكم وأنتمَّ أدرى بذلك. سلامي لحضرة الرئيس وإلى السكرتير ودمتم، وأنا على عجل الجواب بالانتظار سريعاً ** .
** أ. ص. م. ملف س. 25/3489 بالعربية .
ومن الطبيعي ألاَّ تكتفي الوكالة بحصر علاقتها بمثقال في جانب الدعم المادي الذي قدمته له خاصة على خلفية الاعتبارات السياسية التي وقفت وراء سعيها لإقامة مثل تلك العلاقات ليس مع مثقال فقط بل ومع غيره من مشايخ شرقي الأردن أيضاً كما سنرى. وهذا ما يفسر على الأقل كيف أن الدعم المالي الذي تلقَّاه مثقال من الوكالة حتمَّ في هذه المرحلة أن يتحول مثقال إلى حليف سياسي لها في شرقي الأردن من ناحية وأن يقف موقف العداء من الحركة الوطنية الفلسطينية وذلك من منطلقه المصلحي الخاص من الناحية الأخرى .
وذلك على الأقل ما يتضح من التقرير الذي كتبه موشه شرتوك حول اللقاء الذي تمَّ بين مثقال وبين زعامة الوكالة في فندق الملك داود بالقدس يوم
27/11/1932 م .
وقد شارك في هذا اللقاء عن الجانب الصهيوني كل من ناحوم سوكولوف وحاييم أرلوزوروف وموشه شرتوك نفسه وماير حسيدوف .
وفي الكلمة التي ألقاها مثقال أكد على أن تحالفه مع أرلوزوروف أبدي وأن ارتباطه باليهود قائم على "المصلحة العامة" وأنه أحدث انقلاباً في الرأي العام الشرق أردني حول دخول اليهود إلى الإمارة. ويتضح من خلال التقرير أيضاً أن مثقالاً بعث الارتياح في نفوس مضيفيه عندما صَّرح بأن فلسطين قد نمت اقتصادياً بسبب دخول اليهود إليها وأن زعامتها العربية تريد الاستئثار لنفسها بهذه "النعمة" وأنها لا تريد لعشائر شرقي الأردن مشاركتها فيها.
هنا نرى بوضوح الأساس المصلحي الذي قام عليه تحالف مثقال مع الحركة الصهيونية .
وبخصوص الأبعاد السياسية لذلك التحالف فقد أشار مثقال في حديثه لمضيفيه إلى أنه بادر إلى عقد مؤتمر زعماء العشائر الذي توجه إلى كل من الأمير والحكومة الشرق أردنية والمعتمد البريطاني يطلب مساعدة أبناء العشائر أو إلغاء أو تأجيل ضرائب الأملاك المستحقة عليهم أو السماح لهم ببيع قسم من أراضيهم .
ومقابل هذه الخدمة فقد ألمح مثقال في نهاية حديثه بأن له الحق الآن في مطالبتنا بمساعدته على الخروج من مأزقه الحالي ** .
** أ. ص. م. ملف س. 25/6313 بالعبرية .
سنقف فيما بعد على الأبعاد السياسية العشائرية الخطيرة لتلك "الخدمة" على خلفية التركيبة الاجتماعية العشائرية للإمارة. أمَّا بخصوص أراضي مثقال في البرزين فقد تمَّ الاتفاق بينه وبين زعماء الوكالة و"شركة تطوير أراضي فلسطين" الصهيونية يوم
12/1/1932 م على رهنها لمدة خمس سنوات مقابل مبلغ
675 ليرة ومعاينة أراضيه في الجيزة بهدف رهنها أيضاً. ‹أ. ص. م. ملف
25/3491 .
غير أن الضجة التي أثارها رهن الأمير عبد الله لأراضيه في غور الكبد مقابل قرض من الوكالة لدى الرأي العام الشرق أردني في تلك الفترة، والتي سنقف عليها في حينه، دعمت كلاً من زعماء الوكالة ومثقال إلى التريث. وبالمقابل فقد تقرر في الاجتماع الذي عقده هؤلاء الزعماء مع مثقال يوم
25/1/1933 م منح الأخير قرضاً مستعجلاً مقداره
200 ليرة وذلك على حساب رهن أراضي البرزين ذاتها تعهدت الوكالة بموجب الاتفاق على المشاركة في ذلك القرض بمبلغ
100 ليرة بينما تعهد. ي. خانكين عن "شركة تطوير أراضي فلسطين" بمبلغ
100 ليرة الباقي ** .
** تقرير موشه شرتوك بعنوان : لقاء مع مثقال الفايز يوم 25/1/1933 م . أ. ص. م. ملف س. 25/3485 بالعبرية .
وبعد أن هدأت الضجة الإعلامية وشعر كل من مثقال والوكالة بأن الظروف "مواتية" لعقد الصفقة تمَّ التوصل إلى اتفاق فيما بينهما على رهن أراضي البرزين والجبل وذلك يوم
13/4/1933 م .
وبموجب ذلك الاتفاق أصدرت مديرية الأراضي في حكومة شرقي الأردن "سند تأمين دين مقابل أموال غير منقولة" على القسيمتين .
وقد ذكر في السند أن القسيمتين ستوضعان تحت تصرف السادة موشه شرتوك ويوسف سترومزه من موظفي السيد يهوشع خانكين لمدة خمس سنوات وذلك مقابل قرض بمبلغ
650 ليرة ** .
** النسخة الأصلية للسند أ. ص. م ملف س. 25/3491 بالعربية .
وتطورت العلاقة بين الوكالة ومثقال الذي كان يمثله لديها أحياناً سكرتيره أبو خالد. ويوم
16/4/1933 م وقع الأخير على وصل يؤكد فيه استلامه "من الخواجة أهرون كوهين" رئيس القسم العربي في الدائرة السياسية أربع كمبيالات موقَّعة من مثقال الفايز لأمر الوكالة اليهودية بمبلغ إجمالي قدره
175 ليرة فلسطينية وكذلك كواشين منطقتي البرزين والجيزة ** .
** أ. ص. م ملف س. 25/10122 - بالعربية .
ويوم
8/6/1932 م أرسل مثقال كتاباً إلى "حضرة الأخ الخواجة موسى شرتوك المحترم" يعلمه فيه أن أبا خالد، سكرتيره الخاص، سيزوره في القدس في اليوم التالي، ويطلب إليه أن يدفع له مبلغ
50 ليرة فلسطينية ** .
** أ. ص. م. ملف س. 25/10122 بالعربية .