جذور الوصاية الأردنية
الفصل الثاني : أراضي غور الكبد ومشاريع أخرى
  • الجزء الأول :

  • تعود بداية الاتصال المكثَّف للأمير عبد الله بالوكالة اليهودية إلى أوائل سنة (1932 م). وهي ذات الفترة التي شهدت بداية ارتباط شيوخ العشائر بها كما رأينا.

    وقد كانت الدوافع وراء السعي لإقامة مثل ذلك الاتصال متشابهة . وكان الأمير يتصرف هنا كملاك كبير للأراضي و"كشيخ مشايخ" دفعه وضعه الاقتصادي الصعب إلى البحث عن رؤوس أموال وخبرات فنية أجنبية لاستثمارها على أرضيه أو حتى رهن تلك الأراضي مقابل قروض معينة .
    وعلى الرغم من أن الوكالة اليهودية لم تشكِّل بالنسبة للأمير سوق أحد مصادر التمويل والاستثمار في البداية، ألاَّ أن لارتباطه المصلحي معها سرعان ما كانت أبعاداً ومضاعفات سياسية خطيرة. فذلك الارتباط فتح آفاقاً جديدة أمام التحالف السياسي بين الأمير والحركة الصهيونية ونما كجزء من سعيه وراء توثيق ذلك التحالف كخطوة أولى على طريق إقناع زعامة الحركة الصهيونية من ناحية وسلطات الانتداب البريطاني من الناحية الأخرى بقبول مشروعه "لحل" القضية الفلسطينية بتوحيد فلسطين مع شرقي الأردن .
    سنقف في الفصل القادم على مدى الخطورة التي نشأت عن ذلك التحالف وذلك على مستوى إجهاض الحركة الوطنية الفلسطينية في السنوات (1936-1939 م) وبداية التحول باتجاه تقسيم فلسطين وضم الجزء العربي منها إلى شرقي الأردن فيما بعد. أمَّا بخصوص بداية بحث الأمير عن متمولين لاستثمار أراضيه فإن وثائق الوكالة اليهودية تؤكد على أن هذه الأخيرة لم تشكل في البداية سوى إحدى الإمكانيات. ويقول موشه شرتوك في التقرير الذي كتبه عن محادثته مع ت. د. (تيسير الدوجي) يوم (15/2/1932 م) :
    سألته فيما إذا كان عباس حلمي (خديوي مصر سابقاً) قد أعطى عبد الله أموالاً لهدف تطوير أراضيه أو لهدف مهاجمة ابن سعود في الحجاز. فقال أن ليس لديه جواباً قاطعاً وأنه سيسافر إلى عمَّان للاستفسار . **

    ** سيرة ومعلومات سياسية عن الأمير عبد الله وموقفه من الصهيونية


    وفي تقرير عن مقابلة أخرى أجراها موشه شرتوك مع ت. د. يوم (28/2/1932 م) معلومات إضافية حول المفاوضات التي تمت بين الأمير وعباس حلمي، في تلك الفترة. ويفهم من هذا التقرير أن ت. د. قابل حامد الوادي أحد مساعدي الأمير وسأله عن سبب سفره إلى سويسرا فقال حامد أنه ذهب للتفاوض مع عباس حلمي حول إمكانية تطوير أراضي الأمير كما يفهم أيضاً أن عباس حلمي كان شريكاً للمتمول المصري شيكور باشا صاحب "الشركة العقارية" و"شركة الأعمال المصرية". غير أن مهمة حامد الوادي فشلت بسبب رفض الأمير للعرض الذي قدَّمه عباس حلمي بإيجار أراضيه لمدة تسعة وتسعين سنة مقابل (1000) ليرة في السنة، وقد كان رد الأمير أنه معني بشراكة وليس بمجرد إيجار لأراضيه .

    والظاهر أن الوكالة اليهودية قد ألقت على عاتق ت. د. أن يقوم في هذه المرحلة المبكرة بالتمهيد لفكرة أخذ الأمير لها كمتمول في الحسبان. إذ يضيف شرتوك في نفس التقرير :

    وحدثني ت. د. عن المواضيع التي تحدث فيها مع الأمير عند دعوة الأخير إياه لتناول الغذاء على مائدته. لقد دار الحديث حول اليهود كعامل هام في فلسطين، ووافق الأمير على فكرة كونهم يشكلون بقرة حلوب لعرب فلسطين . **

    ** أ. ص. م. ملف س. 25/3051 بالعبرية


    غير أن التقرير الذي كتبه موشه شرتوك حول محادثة أخرى أجراها مع ت. د. يوم (8/2/1932 م) يشير إلى أن الأمير قد أخذ في نفس الوقت بعض الشركات الأجنبية في الحسبان أيضاً. يقول موشه شرتوك :

    أطلعني ت. د. على رسالة عبود نجار، السكرتير الخاص للأمير عبد الله، قد أرسلها له. ويقول عبود في هذه الرسالة أنه بعد فشل رحلة حامد الوادي إلى أوروبة بشأن أراضي الأمير، طلب هذا الأخير إلى حبيب لطف الله أن يثير اهتمام إحدى الشركات الإيطالية بتطوير أراضيه . **

    ** أ. ص. م. ملف س. 5/3051 بالعبرية


    وعلى هذه الخلفية بدأت الوكالة اليهودية تتحرك، وخلال أول زيارة قام بها رئيسها حاييم أرلوزوروف للأمير في عمَّان يوم (14/3/1932 م) تمت مناقشة موضوع النشاط الصهيوني والهجرة اليهودية إلى شرقي الأردن. ويقول موشه شرتوك الذي رافق أرلوزوروف في تقريره عن تلك الزيارة :

    عندها انتقل النقاش إلى موضوع العلاقات بين اليهود وشرقي الأردن. وأكد أرلوزوروف للأمير على أن شرقي الأردن لا يمكن أن تتطور اقتصادياً بمعزل عن فلسطين لأن فصل البلدين عن بعضهما أمر مصطنع. كما قال بأن التعاون الاقتصادي هو الخطوة الأولى على طريق التعاون والوحدة السياسيين، وإن اليهود الذين طوَّروا فلسطين يستطيعون الإسهام في تطوير شرقي الأردن أيضاً. ورداً على ذلك قال الأمير أنه لا يخاف من الهجرة اليهودية. غير أن مثل هذه المخاوف موجودة لدى عرب فلسطين لذلك يجدر بالوكالة وبالأمير نفسه أخذ هذه المخاوف وانعكاسها على شرقي الأردن بعين الاعتبار قبل الحديث عن التعاون الاقتصادي . **

    ** أ. ص. م. ملف س. 25/6316 بالعبرية


    هنا يظهر بوضوح كيف أن الأمير وقع في هذه المرحلة المبكرة تحت تأثيرين متناقضين. فمصالحه كملاك كبير للأراضي وكمن يقف على رأس النظام العشائري تدفعه من ناحية إلى التعاون مع الوكالة اليهودية. غير أن مركزه يحتِّم عليه أخذ الأبعاد والمضاعفات السياسية التي من الممكن أن تكون لذلك التعاون على المستوى المحلي والفلسطيني والعربي أيضاً. وذلك ما يفسِّر تريثه في البداية ورفضه للدعوة التي وجهها أرلوزوروف لزيارة إحدى المستعمرات اليهودية في فلسطين. ويشير شرتوك في تقريره إلى أنه في حين عبَّر الشيخ فؤاد الخطيب مستشار الأمير الذي شارك في الاجتماع بأرلوزوروف (إلى جانب كل من الأمير نايف ووزير البلاط ورئيس حرس الشرف وبعض شيوخ البدو) عن استعداده للقيام بمثل تلك الزيارة، فقد «اعتذر الأمير وقال أنه لا يستطيع تجاهل الرأي العام والصحافة .

    وقد عبَّر الأمير لـ ت. د. عن مخاوفه بشكل أوضح يوم التقى به عقب اشتراك ت. د. في مؤتمر المعارضة الشرق أردني الذي عقد في عمَّان يوم (15/3/1932 م). ويظهر من التقرير الذي كتبه موشه شرتوك عن مضمون الحديث الذي دار في ذلك اللقاء كما نقله إليه ت. د. أن أول ما كان يخشاه الأمير هو ردة فعل الحركة الوطنية الشرق أردنية. يقول شرتوك:


    وبعد انتهاء المؤتمر زار ت. د. قصر الأمير الذي دعاه لمرافقته في رحلة لخرائب "الموقر" الواقعة (60) كيلو متراً إلى الشرق من عمَّان. هنالك تذّمر له الأمير من نشاط العشائر الموالية لابن سعود. وبعدها تحدث الأمير عن انطباعه من زيارة أرلوزوروف له، ووافق على ما قاله ت. د. بأن للنشاط الصهيوني في فلسطين تأثيرات اقتصادية إيجابية على أهاليها. ولكن الأمير قال بأن حكومته ستعارض أي اتصال سيقوم به مع اليهود ويضيف ت. د. بأن علاقة الأمير بحكومته سيئة للغاية، لأن بعض أعضائها قوميون متطرفون يعارضون دخول اليهود إلى شرقي الأردن. ومنهم: توفيق أبو الهدى، سكرتير الحكومة، من مواليد عكا، والدكتور خلوص أبو رحمة، مدير دائرة الصحة، وعودة القسوس، المدعي العام، من الكرك، وباز قعوار، مدير البريد، وعادل العظمة . **

    ** أ. ص. م. ملف س. 25/3501 بالعبرية


    سنعود إلى مسألة الصراعات الداخلية التي فجرَّتها بداية النشاط الصهيوني في شرقي الأردن. وبالنسبة للأمير فإن تردده نبع في هذه الفترة أيضاً عن مخاوفه من أن تؤدي مشاريع التطوير الصهيونية إلى السيطرة السياسية للحركة الصهيونية على شرقي الأردن في نهاية الأمر. ويظهر ذلك بوضوح في تقارير ‹جاد› (الذي هو ت. د. كما أشرنا سابقاً) من تلك الفترة. ويقول أهرون كوهين في أحد تلك التقارير الذي كتبه يوم (21/7/1932 م) :

    وقد سمع جاد قول الأمير أكثر من مرة إنه يريد جداً أن يستوطن اليهود في بلاده وأن يطوروها صناعياً وتجارياً. كما صرَّح أمام (المعتمد البريطاني) الكولونيل كيش أكثر من مرة أنه لا يعارض اليهود. غير أن جاد يعلم أن الأمير يخشى بينه وبين نفسه من أن يتحول اليهود إلى عنصر معارض داخل إمارته متى نجحوا في تثبيت أقدامهم عيها. ويظن جاد أن علينا أن نقتلع هذه الشكوك من قلب الأمير بضمانة خطية . **

    ** أ. كوهين، "معلومات جاد" ، أ. ص. م. ملف س. 25/4143 بالعبرية


    ومن الناحية الأخرى فإن تطلعات التوسع الصهيونية لم تقتصر بدورها على البحث عن إمكانيات الاستيطان على الأرض فقط، بل أخذت الوكالة اليهودية تهتمَّ أيضاً بإمكانية الحصول على امتيازات للقيام بمشاريع اقتصادية أخرى في شرقي الأردن. ويعطينا التقرير التالي الذي كتبه أهرون كوهين يوم (29/7/1932 م) بعض التفاصيل حول هذه المشاريع التي قامت الوكالة بتكليف جاد بالسعي في تأمين حصولها على امتيازاتها. يقول كوهين :

    أثناء زيارة جاد لشرقي الأردن نجح في تتبع تطور القضايا المتعلقة بنا، واطلع على الرسائل التي وجّهت إلى رئيس الوزراء من قبل الوكالة اليهودية حول إمكانية تشغيل العمال اليهود في منشآت شركة النفط العراقية هناك. كما قام بالتحقيق حول الأسباب التي دفعت رئيس الحكومة إلى عدم الرد عليها. واتضح له أن الكولونيل كوكس (المعتمد البريطاني في عمَّان) قد أمر ذلك .

    كما اجتمع جاد بطاهر الجيقة، رئيس بلدية عمَّان وسكرتير اللجنة التنفيذية للمؤتمر الشرق أردني المعارض، وتحدَّث إليه عن المشاريع العامة التي تنوي بلدية عمَّان القيام بها في الفترة القريبة .

    واقترح جاد أن تؤخذ الشركات اليهودية بعين الاعتبار كطرف مقاول. وقد وافق طاهر على الاقتراح وزودَّه بالمعلومات التالية حول المشاريع العتيدة :

  • تعبيد شبكة شوارع داخل عمَّان مساحتها (52) ألف متر مربع مع حفر شبكة مجاري ووضع أنابيب المجاري قبل التعبيد .

  • إنارة عمَّان بالكهرباء .

  • تعبيد (500) كم من الطرق وعلى رأسها الطريق من جسر اللنبي إلى عمَّان .


  • وتنوي بعض الشركات التجارية الأجنبية التقدم بمقترحات ومناقصة من عندها لاستلام العمل. أمَّا جاد فيشجعنا على دفع الشركات اليهودية على تقديم مقترحاتها بواسطته، وبعد التأثير على رئيس الحكومة بالموافقة على المقترحات اليهودية إذا لم تكن أغلى من مقترحات الشركات الأخرى . **

    ** أ. ص. م. ملف س. 25/4143 بالعبرية


    وبالفعل فقد باشرت الوكالة على الفور ببحث إمكانية حصول إحدى الشركات الصهيونية على امتيازات تلك المشاريع. وتتضمن الرسالة التالية التي بعث بها موشه شرتوك إلى أرلوزوروف في لندن سوم (2/8/1932 م) بعض المعلومات حول اعتبارات الوكالة السياسية عند تفكيرها بالإقدام على تلك الخطوة. يقول شرتوك في رسالته :

    وقد ضغط جاد جداً بما يخص مقاولات الشوارع والمجاري والكهرباء في عمَّان بهدف تحصيل بعض أرباح الوساطة والكفالة من حكومة شرقي الأردن. وقد اتضح لي من الحديث الذي دار بيننا أن الحكومة الأردنية ستكفل المشروع لمدة (5-10) سنوات. ولم أشأ إعطاءه جواباً سلبياً قبل التأكد من إمكانياتنا .

    وقد فكرت أن شراكة "مركز العمل" مع الحاج طاهر قرمان (والتي هي شركة "أيفن فسيد") هي أنسب مرشح للظهور كمقاول لمشروع الشوارع والمجاري ومن جميع النواحي فإن دخولنا إلى شرقي الأردن عن طريق شراكة يهودية-عربية سيكون أفضل من الناحية السياسية وأسهل من الناحية العملية من ظهورنا كيهود فقط . **

    ** أ. ص. م. ملف س. 25/3489 بالعبرية


    وخلال يومين فقط قامت الدائرة السياسية بالاتصال بمركز العمل التابع للهستدروت وتقرر إرسال وفد يمثل "إيفن فسيد" إلى عمَّان لفحص المشروع عن كثب. وقد قدَّم أهرون كوهين الذي رافق ذلك الوفد نيابة عن الدائرة السياسية تقريراً عن تلك الزيارة التي تمَّت يومي (4-5/8/1932 م) يقول كوهين في تقريره :

    اقترحت الدائرة السياسية على شركة "إيفن فسيد" أن تهتمَّ بمشروع الأشغال العامة المزمع القيام به في عمَّان. وشركة إيفن فسيد هي شراكة بين مركز العمل للهستدروت وبين الحاج طاهر قرمان. . . ويوم (3/8/1932 م) تمَّ ترتيب اجتماع بين جاد ودافيد هكوهين، مدير إيفن فسيد نيابة عن مركز العمل، وذلك لدراسة الموضوع. وبعد الاجتماع قام دافيد هكوهين بدعوة الحاج طاهر للسفر إلى عمَّان لنفس الغرض. وقد طلبت إليّ الدائرة السياسية أن أنضم إليهما وإلى جاد وتمَّ تقديمي إلى الحاج طاهر كصديق لدافيد هكوهين وكمترجم له .

    وصلنا إلى عمَّان في المساء والتقينا برئيس البلدية طاهر الجيقة الذي طلب إلينا مراجعته في مكتب البلدية في صباح اليوم التالي ..

    وفي الصباح ذهبنا لمقابلة رئيس البلدية في مكتبه كما قابلنا مهندس البلدية درويش أبو العافية. وقد تمَّ تقديم دافيد هكوهين كمهندس وتمَّ تقديمي كمساعد له. قرأ علينا رئيس البلدية خطة المشروع ووعدنا بإرسال نسخة عنها إلى مكتب قرمان في حيفا. والمشروع ينحصر في تعبيد (52) ألف متر مربع من الشوارع في عمَّان وحفر مجارٍ بحجم (14) ألف متر مربع، وقال إن البلدية تقدّر تكاليف المشروع بـ (20-25) ألف ليرة ستكون مستعدة لدفعها خلال خمس سنوات، وأضاف أن "فاكوم أوبل" الشركة الأنجلومصرية، وشركة بترول العراق قد قامتا بتقديم مناقصة على المشروع. أمَّا بالنسبة لمشروع الكهرباء فقد قررت البلدية تأجيله بسبب النقص في الميزانية . **

    ** أ. ص. م. ملف س. 25/6313 بالعبرية


    وفي (11/9/1932 م) قام كل من أهرون كوهين ودافيد هكوهين وش. مرجولين بزيارة أخرى لعمَّان حيث التقوا بمحمود أبو العافية مدير دائرة المشاريع والإنشاءات البلدية العامة في شرقي الأردن الذي أطلعهم على خرائط مفصلة عن المشروع وأعطاهم نسخة عنها. ويقول أهرون كوهين عن تقريره حول تلك الزيارة :

    قبل مغادرتنا سألنا سكرتير البلدية إذا كنا سنقدِّم مناقصة بخصوص تكاليف المشروع في المستقبل، وطلب ألاَّ نفعل ذلك ألاَّ بعد أن تنشر البلدية موضوع المشروع في الصحف . **

    ** أ. ص. م. ملف س. 25/6313 بالعبرية


    ومع الاهتمام الواضح الذي أبدته الوكالة اليهودية في حصول الشركات الصهيونية على امتيازات مثل هذه المشاريع فقد بقيت قضية الأراضي وإمكانيات التوسُّع الاستيطاني والهجرة أهم ما تسعى إليه. لذلك نرى بأنها تركِّز جل جهودها في تلك الفترة في التفاوض مع الأمير بشأن استئجار أراضيه الواقعة في غور الكبد إلى الشمال من جسر اللنبي .

    وبالإضافة إلى ت. د. الذي لعب دوراً هأمَّا في محاولة إقناع الأمير بجدوى رهن أو إيجار أراضيه للوكالة اليهودية كما رأينا، فقد شارك في تلك المفاوضات، كل من محمد الأنسي، مستشار الأمير ورئيس ديوانه في تلك الفترة والمحاميان ي. آمون وت. العدس اللذين توليا تحديد الجوانب القانونية للاتفاقية باسمهما نيابة عن الوكالة اليهودية. ‹بالنسبة للمحامين ي. آمون وت. العدس راجع رسالتهما إلى م. شرتوك يوم (12/11/1933 م) التي يطالبان الوكالة فيها بدفع حساب أتعابهما في قضية أراضي غور الكبد . **

    ** أ. ص. م. ملف س. 25/3513 بالعبرية


    ويتضمن ملف الوثائق المتعلقة باتفاقية أراضي غور الكبد الترجمة الإنجليزية للرسالة التي بعث بها الأمير عبد الله إلى محمد الأنسي يوم (30/12/1932 م) والتي يعلمه فيها بأنه قام بالإطلاع على مسودة اتفاقية إيجار الأراضي (التي سُمِّيت "الأوبسيون") البالغة مساحتها (70) ألف دونم وعلى ملاحقها أيضاً. ويؤكد الأمير في رسالته للأنسي على أن ما ورد في الأوبسيون "المزمع عقده مع السادة نيومان وفاربشتاين يتناسب ومصالحي". غير أنه اقترح في نفس الوقت تعديل أحد بنودها بحيث يصبح مبلغ الإيجار السنوي المستحق (2000) ليرة فلسطينية. وعلى أساس إدخال هذا التعديل خوّل الأمير محمد الأنسي بالتوقيع على الأوبسيون نيابة عنه . **

    ** أ. ص. م. ملف س. 3/16 ، ص 6 بالإنجليزية


    وقد حدد البند الأول للاتفاقية شروطها كالتالي :

    في أعقاب دفع مبلغ (500) ليرة فلسطينية من قبل المستأجر للمالك، سيكون للمستأجر حق التصرف بأراضي غور الكبد الواقعة شرقي الأردن والبالغة مساحتها (70) ألف دونم تقريباً. وهذه الأراضي مسجلة باسم المالك في دائرة تسجيل الأراضي في السلط بموجب المادة (4) بتاريخ (24/3/1922 م)، الملف رقم (3/1/738)، وكذلك بموجب خرائط دائرة تسجيل أراضي شرقي الأردن. والاتفاقية موقَّعة من قبل الطرفين لمدة (33) سنة من تاريخ توقيعها وذلك مقابل مبلغ سنوي قدره (2000) ليرة فلسطينية مع حق المستأجر في تمديدها لفترتين أخريين كل فترة (33) سنة أخرى بموجب نفس الشروط .

    كما تمَّ الاتفاق على وجوب تجديد التوقيع على الاتفاقية مع بداية كل سنة جديدة. والمهم هو أن كلاً من الأمير ورجالات الوكالة كانوا على علم تام بالخطورة السياسية التي من الممكن أن تتبع عن انتشار خبر الاتفاقية. ويتضمن ملف الاتفاقية المذكور الرسالة التالية التي بعثها محمد الأنسي إلى عمانويل نيومان ويوشع فاربشتاين مع توقيعه على الاتفاقية يوم (3/1/1933 م) والتي يؤكد لهما فيها على أن كل ما سينشر في الصحف حول الاتفاقية سيكون بمقتضى أخذ الرأي العام بعين الاعتبار فقط. يقول الأنسي في رسالته :

    يشرفني أن أعلمكم باسم سمو الأمير عبد الله أن الأوقاف ستنشر في الصحف المحلية خبر إيجار أراضي غور الكبد لمدة شهرين فقط. غير أنني أوكد لكم باسم سموه على أن نشر الخبر لن يؤثر من جوهر الاتفاقية التي وقعت يوم (3/1/1933 م) ومن جوهر ملحقاتها. لأن القصد من عملية النشر هو أخذ الرأي الراهنة بعين الاعتبار فقط . **

    ** نفس المصدر، ص. 5 بالإنجليزية


    وسرعان ما تأكدت مخاوف الأنسي هذه والمخاوف التي الأمير عبد الله قد عبَّر عنها في مناسبات سابقة من ردة فعل الرأي العام الوطني الشرق أردني والفلسطيني المعارض للاتفاقية. وقد انعكست ردة الفعل المعارضة في بدايتها على خلفية الصراع الذي دار منذ العشرينيات بين الهاشميين من ناحية وابن سعود من الناحية الأخرى على زعامة الحركة الوطنية العربية .

    والمعلومات الواردة في تقارير الوكالة اليهودية حول حملة المعارضة منسوبة إلى "جاد" ومثقال الفايز ومحمد الأنسي. من هذه التقارير هو تقرير لموشه شرتوك بعنوان ‹معلومات جاد› في الفترة بين (19-22/1/1933 م). ويؤكد شرتوك في تقريره على أن سكرتير الحكومة الشرق أردنية، توفيق أبو الهدى، هو الذي كان أول من نقل خبر إيجار أراضي غور الكبد لزعامة حزب الاستقلال في فلسطين. وعلى الفور عقد الحزب اجتماعاً لبحث الموضوع وقرر إيفاد وفد للأمير يحثُّه على التراجع عن هذه الخطوة كما تقرر أن يكون الوفد مؤلفاً من كل من المفتي وموسى كاظم الحسيني وأحمد حلمي باشا والشيخ مظفر والشيخ محمود الدجاني. كما تشير ‹معلومات جاد› إلى أن عوني عبد الهادي قد بعث إلى حزب الاستقلال رسالة إلى الملك فيصل يطالبه فيها بالتأثير على أخيه. وفي نفس الوقت فقد قام الاستقلاليون بتنظيم مظاهرات احتجاجية على عبد الله في مدن فلسطين المختلفة كما حدث في نابلس. ومن الناحية الأخرى فقد أشارت هذه "المعلومات" إلى أن زعماء الاستقلال قد انقسموا على أنفسهم: بين مؤيدي السعوديين (كعجاج نويهض ونبيه العظمة وعزت دروزة وكامل القصاب) الذين هاجموا عبد الله وأكدوا على وطنية ابن سعود. وبين مؤيدي الهاشميين (كعوني عبد الهادي وصبحي الخضرا). وفي أعقاب الرسائل التي بعث بها هؤلاء الأخيرين إلى الملك فيصل يطالبونه بالتأثير على أخيه "لئلا يسلِّم عرب شرقي الأردن للصهاينة". فقد أدلى عبد الله بتصريح للصحف لم يتراجع فيه عن إيجار أراضي الغور ولم ينكر أنه أجرى مفاوضات مع الصهاينة بشأنها . **

    ** أ. ص. م. ملف س. 25/4143 بالعبرية


    أمَّا بالنسبة لوفد الاحتجاج الذي ترأسه المفتي وموسى كاظم الحسيني فقد وردت عنه معلومات متفرقة في التقارير المختلفة. وهنالك تقرير غير موقَّع كُتِب في (29/1/1933 م) يقول التقرير :

    هنالك من يقول بأن المفتي وموسى كاظم الحسيني لم يكونا حازمين في حديثهما مع الأمير. الأمر الذي أثار عدم الرضى عنهم. ويظن شباب الاستقلال أنهم مرتشين. ففي حين استلم موسى كاظم قبل مدة وجيزة سيارة كهدية من الأمير. . . فإن المفتي يتصرف بالأموال التي وقفت لقبر الملك حسين . **

    ** معلومات شرقي الأردن، نفس المصدر، ص 1 بالعبرية


    ويضيف التقرير أن عبد الله طلب إلى محمد الأنسي ومثقال الفايز استقبال أعضاء الوفد عند وصولهم إلى عمَّان. وقد قال لهم مثقال بشكل واضح :

    نعم، نريد بيع وإيجار الأرض لليهود، فليست أمامنا أية طريقة أخرى. كما قال للمفتي: من الأفضل أن تُشرف على شؤون المسجد وأن تترك مستقبل البلاد للآخرين. وفي أعقاب ذلك ذهب المفتي لمقابلة الأمير في الشونة حيث كان يقضي فترة العيد. ويعطي التقرير المسجل التالي لما دار بينهم :

    الأمير: ما هذه الضجة التي أثرتمَّ ضدي في فلسطين؟


    المفتي: وهل تظنون سموكم أنه بالإمكان أن تسكت البلاد على عملية رهن الأراضي وفتح أبواب البلاد أمام اليهود؟ لقد كانت الضجة أمراً طبيعياً وردة فعل لهذا الحدث السياسي الهام .

    الأمير: من هم أصحاب هذه الضجة على أية حال؟


    المفتي: القسم الأول هم من يسعون لإهانتك أمام الجمهور بسبب العلاقات (المتوترة) بينك وبين ابن سعود. والقسم الثاني هم ممن يعتاشون بشكل مباشر على الحرب مع اليهود، وأنت تعرفهم. غير أن ممثلي الرأي العام الجديين. . . يرون في هذه الخطوة أمراً طبيعياً لأنهم يعلمون أن لا مستقبل لشرقي الأردن دون الاستثمارات .

    الأمير: هل يوجد إذن من يؤيد هذا العمل ؟

    المفتي: نعم. الناس المتنورون يرون فيه عمل رجل يعرف ما يواجهه ولا يهتمَّ لصراخ الشارع .

    الأمير: وما هو موقف المعارضة ؟

    المفتي: موقف راغب النشاشيبي هو أن لا مستقبل لشرقي الأردن دون إدخال العنصر المنتج. ومثل هذا العنصر لا يتوفر ألاَّ لدى اليهود».


    أمَّا تقرير موشه شرتوك بعنوان ‹معلومات مثقال باشا الفايز حول قضية غور الكبد في الفترة بين (25-26/1/1933 م)› فيتضمن تفاصيل أخرى حول ما دار بين الأمير ووفود الاحتجاج. يقول شرتوك :

    في لقاءاته الأخيرة حدّثنا مثقال عن الاجتماعين الذين عقدهما مؤخراً بشأن أراضي غور الكبد. الأول مع وفد "الشباب العربي" والثاني مع وفد المفتي وموسى كاظم. وقد شارك مثقال في الاجتماعين .

    وأكد الأمير لوفد "الشباب العربي" على أنه لا أساس لتخوفهم من إيجار غور الكبد لأن شرقي الأردن بلد ذات سيادة لا تقع ضمن وعد بلفور، وعلى أية حال فلا فائدة تُرجى من إبقاء الأراضي غير مزروعة. أمَّا مثقال فقد سأل يعقوب الغصين، أحد أعضاء الوفد وابن أحد تجار الأراضي في يافا، عن الأموال التي جمعها أبوه من السمسرة على الأراضي وبيعها لليهود. أمَّا وفد المفتي وموسى كاظم فقد تقدَّم إلى الأمير بمشروع أعدّه أحمد حلمي مدير البنك العربي لاستغلال أراضي غور الكبد. وقد ذكّر مثقال المفتي بكونه قد أجّر بنفسه أراضي الوقف الإسلامي لليهود (في القدس) حيث موقع فندق "بلاس" الآن . **

    ** أ. ص. م. ملف س. 25/3487 بالعبرية


    سنعد إلى مشروع أحمد حلمي باشا بعد تطرقنا لما جاء في تقرير آخر بعنوان ‹معلومات جاد يوم (30/1/1933 م)› حول وفد "الشاب العربي". ويذكر هذا التقرير أن الأمير قال للوفد ساخراً بأنه «يعرف كيف يدبر شؤونه أكثر منهم». كما يذكر أيضاً أنه ترك الوفد برفقة مثقال والأنسي ونمر باشا الحمود وعبود نجار سكرتير ديوانه الخاص. ويفهم منه أيضاً أن فؤاد باشا الخطيب، مستشار الأمير، حضر بعد فترة وجيزة وأخبرهم بأن الأمير لم يؤجر أراضيه بعد وأنه على استعداد لدراسة أي اقتراح تقدمه شركة عربية». ويضيف التقرير أن الوفد «قام بنشر ما نشره فيما بعد بناء على ذلك . **

    ** أ. ص. م. ملف س. 25/4143 بالعبرية


    وكان مشروع أحمد حلمي باشا الذي عرضه وفد المفتي أحد تلك الاقتراحات. ويذكر تقرير موشه شرتوك حول ‹معلومات جاد› المشار إليها سابقاً عن الفترة بين (19-22/1/1933 م) أن المشروع البديل الذي قدَّمه أحمد حلمي قد نص على عدم دفع أي مبلغ للأمير خلال السنة الأولى ودفع (2000) ليرة خلال السنين العشر الأولى و(5000) ليرة خلال السنين العشر الثانية و(10) آلاف ليرة خلال السنين العشر الثالثة، على أن تكون مدة الإيجار لثلاثين سنة. كما يؤكد جاد في معلوماته على أن أحمد حلمي قد أخبره بأنه يأمل في الحصول على (100) ألف ليرة من أجل المشروع وذلك عن طريق عبد الحميد شومان وأغنياء آخرين من أبناء الجالية العربية في أمريكا. كما يشير جاد إلى كون عبد الحميد شومان صاحب أكبر عدد من الأسهم المشاركة في البنك العربي. وأن أحمد حلمي قال له بأن يأمل في تجنيد الأمريكيين المناصرين للعرب من أجل إنجاح المشروع، وعلى رأسهم تشارلز كراين. وتضيف "معلومات جاد" أن هذه لم تكن المرة الأولى التي يهتمَّ فيها أحمد حلمي بأراضي غور الكبد. فقد حاول بمساعدة شريكيه رشيد طليع ورشيد مريول تقديم خطة لاستغلال تلك الأراضي قبل ذلك بعشر سنوات عندما مُنحت غور الكبد للأمير من قبل الحكومة الأردنية. وقد نشرت صحيفة ‹ألف باء› الدمشقية هذا الخبر في حينه. غير أن شريكي أحمد حلمي ماتا أثناء الثورة السورية. ويضيف التقرير :

    لن يتأثر الأمير بالضجة التي يقوم بها الاستقلاليون. وبالنسبة له فكل الأمر يتوقف على شروط الإيجار التي يعرضها اليهود من ناحية ومنافسه من ناحية أخرى، هذا إذا وجد مثل هؤلاء وإذا وثق الأمير بهم، والأمير يعلم قدر رجال الأعمال الفلسطينيين على حقيقته. وهو يحتقرهم في قرارة نفسه. ولن يسرع المفتي في الذهاب إلى الأمير، لأنه يعلم أنه إذا احتجّ على إيجار غور الكبد فسيريه الأمير طلبات امتياز التنقيب عن الحديد التي قدمت له من قبل إسماعيل وسعيد الحسيني بمشاركة يتسحاك يهودا هكوهين. الأمير عنيد جداً وهو مستعد لقبول آراء الأخوين لطف الله بهذا الصدد. ومن المعروف أن ميشيل لطف الله قد قال له ذات مرة أن لا أمل له في تثبيت سلطته دون إيجاد مصادر استثمار خاصة، حتى ولو بمساعدة اليهود .

    وإذا صحت المعلومات الواردة في هذا التقرير وفي التقارير السابقة فإنها تفسِّر ضعف موقف المفتي في مطالبته للأمير بالتراجع عن سياسة إيجار الأراضي للوكالة. غير أن ما يفسّر تمسّك الأمير بموقفه هو حتماً القاعدة الصلبة التي ارتكز عليها من شيوخ العرب المؤيدين لتلك السياسة والتي وقفنا عليها في الماضي وذلك إلى جانب الآمال التي أخذ يعلقها الأمير على ارتباطه بالوكالة اليهودية بالنسبة لإمكانية ضم فلسطين إلى إمارته كما سنرى .

    وهنا على الأقل تبرز أهمية الدور الذي قام به مثقال الفايز وغيره من الشيوخ الذين ارتبطوا بالوكالة في دعم موقف الأمير ويقول أهرون كوهين في تقريره عن زيارته إلى عمَّان في الفترة بين (16-18/1/1933 م) :

    إن الأمير أرسل في طلب مثقال أثناء زيارته له في مساء (16/1/1933 م) وإنه (أي كوهين) طلب إلى مثقال أن يستفسر عن موقف الأمير من قضية بيع وإيجار الأراضي. وفي صباح يوم (17/1/1933 م) رافق مثقال الأمير في زيارته لحسن الخالد في القدس، وفي طريق عودتهما قأمَّا بزيارة محمد الأنسي. وفي المساء زار كوهين مثقال مرة ثانية فأخبره بأن الأمير والأنسي يؤيدان بيع وإيجار الأراضي للوكالة كما يؤيد الأمير فكرة مثقال في عقد مؤتمر لشيوخ العشائر لبحث المسألة . **

    ** أ. ص. م. ملف س. 25/6313 بالعبرية


    ومن الناحية الأخرى فقد لفت انتباه موشه شرتوك (في تقريره المذكور عن الفترة (19-22/1/1933 م)) إلى الدلالة الرمزية لظهور الأمير في القدس برفقة مثقال الفايز وزيارتهما لحسن الخالد ويوضح جاد ذلك بقوله :

    إذ أن موقف مثقال وارتباطه باليهود من الأمور المعروفة جداً . **

    ** أ. ص. م. ملف س. 25/4143 بالعبرية

    ثم أن صلابة القاعدة السياسية التي ارتكز عليها موقف الأمير عبد الله تجاه النقد الذي وجهته له الحركتان الوطنيتان الفلسطينية والأردنية، نبعت في الأساس عن الطابع العشائري والبطريقي لحياة الإمارة السياسية في تلك الفترة. وفي مناسبة سابقة كنا قد أشرنا إلى كون شيوخ العشائر الذين ارتبطوا بالمشروع الصهيوني من منطلق مصالحهم كملاكين كبار هم الذين شكلوا في نفس الوقت العمود الفقري لتلك الحياة السياسية. الأمر الذي يفسر أيضاً دفاعهم عن سياسة الأمير في تأجير أراضيه بل ودفعه باتجاه تعميق ارتباطه بالوكالة اليهودية وجعل ذلك الارتباط سياسة الإمارة الرسمية.

    تحت الإعداد