أمَّا بالنسبة لوفد الاحتجاج الذي ترأسه المفتي وموسى كاظم الحسيني فقد وردت عنه معلومات متفرقة في التقارير المختلفة. وهنالك تقرير غير موقَّع كُتِب في (29/1/1933 م) يقول التقرير :
هنالك من يقول بأن المفتي وموسى كاظم الحسيني لم يكونا حازمين في حديثهما مع الأمير. الأمر الذي أثار عدم الرضى عنهم. ويظن شباب الاستقلال أنهم مرتشين. ففي حين استلم موسى كاظم قبل مدة وجيزة سيارة كهدية من الأمير. . . فإن المفتي يتصرف بالأموال التي وقفت لقبر الملك حسين .
**
ويضيف التقرير أن عبد الله طلب إلى محمد الأنسي ومثقال الفايز استقبال أعضاء الوفد عند وصولهم إلى عمَّان. وقد قال لهم مثقال بشكل واضح :
نعم، نريد بيع وإيجار الأرض لليهود، فليست أمامنا أية طريقة أخرى. كما قال للمفتي: من الأفضل أن تُشرف على شؤون المسجد وأن تترك مستقبل البلاد للآخرين. وفي أعقاب ذلك ذهب المفتي لمقابلة الأمير في الشونة حيث كان يقضي فترة العيد. ويعطي التقرير المسجل التالي لما دار بينهم :
الأمير: ما هذه الضجة التي أثرتمَّ ضدي في فلسطين؟
المفتي: وهل تظنون سموكم أنه بالإمكان أن تسكت البلاد على عملية رهن الأراضي وفتح أبواب البلاد أمام اليهود؟ لقد كانت الضجة أمراً طبيعياً وردة فعل لهذا الحدث السياسي الهام .
الأمير: من هم أصحاب هذه الضجة على أية حال؟
المفتي: القسم الأول هم من يسعون لإهانتك أمام الجمهور بسبب العلاقات (المتوترة) بينك وبين ابن سعود. والقسم الثاني هم ممن يعتاشون بشكل مباشر على الحرب مع اليهود، وأنت تعرفهم. غير أن ممثلي الرأي العام الجديين. . . يرون في هذه الخطوة أمراً طبيعياً لأنهم يعلمون أن لا مستقبل لشرقي الأردن دون الاستثمارات .
الأمير: هل يوجد إذن من يؤيد هذا العمل ؟
المفتي: نعم. الناس المتنورون يرون فيه عمل رجل يعرف ما يواجهه ولا يهتمَّ لصراخ الشارع .
الأمير: وما هو موقف المعارضة ؟
المفتي: موقف راغب النشاشيبي هو أن لا مستقبل لشرقي الأردن دون إدخال العنصر المنتج. ومثل هذا العنصر لا يتوفر ألاَّ لدى اليهود».
أمَّا تقرير موشه شرتوك بعنوان ‹معلومات مثقال باشا الفايز حول قضية غور الكبد في الفترة بين (25-26/1/1933 م)› فيتضمن تفاصيل أخرى حول ما دار بين الأمير ووفود الاحتجاج. يقول شرتوك :
في لقاءاته الأخيرة حدّثنا مثقال عن الاجتماعين الذين عقدهما مؤخراً بشأن أراضي غور الكبد. الأول مع وفد "الشباب العربي" والثاني مع وفد المفتي وموسى كاظم. وقد شارك مثقال في الاجتماعين .
وأكد الأمير لوفد "الشباب العربي" على أنه لا أساس لتخوفهم من إيجار غور الكبد لأن شرقي الأردن بلد ذات سيادة لا تقع ضمن وعد بلفور، وعلى أية حال فلا فائدة تُرجى من إبقاء الأراضي غير مزروعة. أمَّا مثقال فقد سأل يعقوب الغصين، أحد أعضاء الوفد وابن أحد تجار الأراضي في يافا، عن الأموال التي جمعها أبوه من السمسرة على الأراضي وبيعها لليهود. أمَّا وفد المفتي وموسى كاظم فقد تقدَّم إلى الأمير بمشروع أعدّه أحمد حلمي مدير البنك العربي لاستغلال أراضي غور الكبد. وقد ذكّر مثقال المفتي بكونه قد أجّر بنفسه أراضي الوقف الإسلامي لليهود (في القدس) حيث موقع فندق "بلاس" الآن .
**
** أ. ص. م. ملف س. 25/3487 بالعبرية
سنعد إلى مشروع أحمد حلمي باشا بعد تطرقنا لما جاء في تقرير آخر بعنوان ‹معلومات جاد يوم (30/1/1933 م)› حول وفد "الشاب العربي". ويذكر هذا التقرير أن الأمير قال للوفد ساخراً بأنه «يعرف كيف يدبر شؤونه أكثر منهم». كما يذكر أيضاً أنه ترك الوفد برفقة مثقال والأنسي ونمر باشا الحمود وعبود نجار سكرتير ديوانه الخاص. ويفهم منه أيضاً أن فؤاد باشا الخطيب، مستشار الأمير، حضر بعد فترة وجيزة وأخبرهم بأن الأمير لم يؤجر أراضيه بعد وأنه على استعداد لدراسة أي اقتراح تقدمه شركة عربية». ويضيف التقرير أن الوفد «قام بنشر ما نشره فيما بعد بناء على ذلك .
**
** أ. ص. م. ملف س. 25/4143 بالعبرية
وكان مشروع أحمد حلمي باشا الذي عرضه وفد المفتي أحد تلك الاقتراحات. ويذكر تقرير موشه شرتوك حول ‹معلومات جاد› المشار إليها سابقاً عن الفترة بين (19-22/1/1933 م) أن المشروع البديل الذي قدَّمه أحمد حلمي قد نص على عدم دفع أي مبلغ للأمير خلال السنة الأولى ودفع (2000) ليرة خلال السنين العشر الأولى و(5000) ليرة خلال السنين العشر الثانية و(10) آلاف ليرة خلال السنين العشر الثالثة، على أن تكون مدة الإيجار لثلاثين سنة. كما يؤكد جاد في معلوماته على أن أحمد حلمي قد أخبره بأنه يأمل في الحصول على (100) ألف ليرة من أجل المشروع وذلك عن طريق عبد الحميد شومان وأغنياء آخرين من أبناء الجالية العربية في أمريكا. كما يشير جاد إلى كون عبد الحميد شومان صاحب أكبر عدد من الأسهم المشاركة في البنك العربي. وأن أحمد حلمي قال له بأن يأمل في تجنيد الأمريكيين المناصرين للعرب من أجل إنجاح المشروع، وعلى رأسهم تشارلز كراين. وتضيف "معلومات جاد" أن هذه لم تكن المرة الأولى التي يهتمَّ فيها أحمد حلمي بأراضي غور الكبد. فقد حاول بمساعدة شريكيه رشيد طليع ورشيد مريول تقديم خطة لاستغلال تلك الأراضي قبل ذلك بعشر سنوات عندما مُنحت غور الكبد للأمير من قبل الحكومة الأردنية. وقد نشرت صحيفة ‹ألف باء› الدمشقية هذا الخبر في حينه. غير أن شريكي أحمد حلمي ماتا أثناء الثورة السورية. ويضيف التقرير :
لن يتأثر الأمير بالضجة التي يقوم بها الاستقلاليون. وبالنسبة له فكل الأمر يتوقف على شروط الإيجار التي يعرضها اليهود من ناحية ومنافسه من ناحية أخرى، هذا إذا وجد مثل هؤلاء وإذا وثق الأمير بهم، والأمير يعلم قدر رجال الأعمال الفلسطينيين على حقيقته. وهو يحتقرهم في قرارة نفسه. ولن يسرع المفتي في الذهاب إلى الأمير، لأنه يعلم أنه إذا احتجّ على إيجار غور الكبد فسيريه الأمير طلبات امتياز التنقيب عن الحديد التي قدمت له من قبل إسماعيل وسعيد الحسيني بمشاركة يتسحاك يهودا هكوهين. الأمير عنيد جداً وهو مستعد لقبول آراء الأخوين لطف الله بهذا الصدد. ومن المعروف أن ميشيل لطف الله قد قال له ذات مرة أن لا أمل له في تثبيت سلطته دون إيجاد مصادر استثمار خاصة، حتى ولو بمساعدة اليهود .
وإذا صحت المعلومات الواردة في هذا التقرير وفي التقارير السابقة فإنها تفسِّر ضعف موقف المفتي في مطالبته للأمير بالتراجع عن سياسة إيجار الأراضي للوكالة. غير أن ما يفسّر تمسّك الأمير بموقفه هو حتماً القاعدة الصلبة التي ارتكز عليها من شيوخ العرب المؤيدين لتلك السياسة والتي وقفنا عليها في الماضي وذلك إلى جانب الآمال التي أخذ يعلقها الأمير على ارتباطه بالوكالة اليهودية بالنسبة لإمكانية ضم فلسطين إلى إمارته كما سنرى .
وهنا على الأقل تبرز أهمية الدور الذي قام به مثقال الفايز وغيره من الشيوخ الذين ارتبطوا بالوكالة في دعم موقف الأمير ويقول أهرون كوهين في تقريره عن زيارته إلى عمَّان في الفترة بين (16-18/1/1933 م) :
إن الأمير أرسل في طلب مثقال أثناء زيارته له في مساء (16/1/1933 م) وإنه (أي كوهين) طلب إلى مثقال أن يستفسر عن موقف الأمير من قضية بيع وإيجار الأراضي. وفي صباح يوم (17/1/1933 م) رافق مثقال الأمير في زيارته لحسن الخالد في القدس، وفي طريق عودتهما قأمَّا بزيارة محمد الأنسي. وفي المساء زار كوهين مثقال مرة ثانية فأخبره بأن الأمير والأنسي يؤيدان بيع وإيجار الأراضي للوكالة كما يؤيد الأمير فكرة مثقال في عقد مؤتمر لشيوخ العشائر لبحث المسألة .
**
** أ. ص. م. ملف س. 25/6313 بالعبرية
ومن الناحية الأخرى فقد لفت انتباه موشه شرتوك (في تقريره المذكور عن الفترة (19-22/1/1933 م)) إلى الدلالة الرمزية لظهور الأمير في القدس برفقة مثقال الفايز وزيارتهما لحسن الخالد ويوضح جاد ذلك بقوله :
إذ أن موقف مثقال وارتباطه باليهود من الأمور المعروفة جداً .
**
** أ. ص. م. ملف س. 25/4143 بالعبرية
ثم أن صلابة القاعدة السياسية التي ارتكز عليها موقف الأمير عبد الله تجاه النقد الذي وجهته له الحركتان الوطنيتان الفلسطينية والأردنية، نبعت في الأساس عن الطابع العشائري والبطريقي لحياة الإمارة السياسية في تلك الفترة. وفي مناسبة سابقة كنا قد أشرنا إلى كون شيوخ العشائر الذين ارتبطوا بالمشروع الصهيوني من منطلق مصالحهم كملاكين كبار هم الذين شكلوا في نفس الوقت العمود الفقري لتلك الحياة السياسية. الأمر الذي يفسر أيضاً دفاعهم عن سياسة الأمير في تأجير أراضيه بل ودفعه باتجاه تعميق ارتباطه بالوكالة اليهودية وجعل ذلك الارتباط سياسة الإمارة الرسمية.