قرنين على "وعود" بلفور
بحث وتجميع: د.إبراهيم حمامي

الحلقة السادسة

الدور العربي :

كان العرب وقبل صدور الوعد مباشرة مشغولون في قتال الدولة العثمانية/تركيا تحت مسمى الثورة العربية فتحالفوا مع بريطانيا تحديدا من أجل هذا الغرض، ومارست بريطانيا بدورها سياسات الخداع والمراوغة والوعود البراقة بالإستقلال والحرية والإنعتاق التي لم يتحقق منها شيء.

أما بخصوص ما نحن فيه فقد كان الناطق العربي الوحيد الذي له شأن وسلطة فيصل بين الحسين الذي قدم احتجاجاته بإلحاح، وقد نفض أولاً يديه، في رسالة رسمية إلى الحكومة البريطانية، بعد تسرب معلومات من مصادر يهودية بأنه "أقر" لهم بسياسة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وقال في رسالته:"إن كل ما اعترفت به هو أن أؤمن حقوق اليهود في تلك البلاد بالقدر الذي أؤمن به حقوق السكان العرب المحليين". وجلب الانتباه إلى معارضة سكان عرب فلسطين القوية، وأكد وجهة النظر العربية بأن فلسطين هي ضمن المناطق التي وعدت بريطانيا بمنحها الاستقلال وعبر عن ثقته بأن ذلك الوعد البريطاني لا يلغيه وعد لاحق للصهيونيين. وأضاف أن والده (الشريف حسين) مخول، حتى بمقتضى اتفاقية سايكس – بيكو، أن يؤخذ رأيه بصدد مستقبل فلسطين، لكنه، ومما يثير للدهشة، لم يشر إلى الرسالة البريطانية إلى والده التي تلقاها بواسطة "هوغارت" والتي جعلت الوعد لليهود خاضعاً لحرية عرب فلسطين السياسية والاقتصادية. وختم فيصل رسالته قائلاً: إذا ما أمكن الإبقاء على وحدة سوريا وفلسطين، "فبوسعنا أن نتوصل إلى حل يؤمن مصالح جميع من يهمهم الأمر" .

أما الشريف حسين فقد غرق حتى أذنيه في الوعود والمراسلات التي عرفت بمراسلات "حسين-مكماهون" في تشرين أول/أكتوبر 1915 والتي إستطاعت بريطانيا من خلالها تخديره ومن معه حتى تطبيق المخطط الرهيب.

في المقابل، يلاحظ أن الفلسطينيين، وبعكس معسكر الشريف حسين، في تلك الفترة كانوا يصرون على اعتبار فلسطين جزءاً من سورية الكبرى، ويرفضون تجزئة النضال، أو طرح مطالب إقليمية خاصة بهم، على الرغم من خصوصية قضيتهم لاختلاف الخطر عليهم عن بقية أبناء سورية الكبرى حيث إنهم كانوا مهددين بالهجرة اليهودية إلى بلادهم، بينما كانت بقية الأقطار العربية تعاني من الاستعمار البريطاني او الفرنسي من دون أن تشكل الهجرة اليهودية أي تهديد ضدها.

لكن كيف إستطاعت الحركة الصهيونية بلورة المشروع الإستيطاني؟ وما هي الخطوات التي أوصلتها لإنتزاع وعد بلفور المشؤوم وما ترتب عليه؟ هذا ما ستشرحه النقاط السريعة التالية:

  • رغم أن جذور إنشاء وطن لليهود سبقت بعقود الحركة الصهيونية إلا أن بدايات تنفيذ المشروع لم تتبلور إلا بهذه الحركة العنصرية الإستيطانية، والتي لم تترك بابا إلا طرقته ومشت حسب برنامج واضح وبخطوات سنوية محددة لم تخلو من الخلافات والنزاعات التي كانت تصب أساسا حول التطرف وسرعة تحقيق "الحلم" الصهيوني.

  • الحركة الصهيونية، كجسم سياسي منظم، هي من صنع تيودور هيرتزل (1860 ـ 1904)، اليهودي المجري، الذي نشر في سنة 1896 كتابه "دولة اليهود" ، وعرض فيه مفهومه لجذور "المسألة اليهودية"، وبالتالي وجهة نظره في حلها، عبر انشاء "امة يهودية" مستقلة، على ارض تمتلكها. والمنظمة التي اسسها في المؤتمر الصهيوني الاول (بازل،1897) كانت من اجل تحقيق ذلك الهدف، ومن خلالها تحرك هيرتسل بين الجوالي اليهودية، كما على الساحة السياسية الدولية، داعياً الى مشروعه، كما بينّا سابقا، بينما يقر في مذكراته بانه "يدير شؤون اليهود من دون تفويض منهم، لكنهمسؤول ازاءَهم عما يعمل." وفي المحصلة، فانه رأى في المسألة اليهودية قضية دولية، وعليه، يجب حلها في هذا الاطار، ومن على منبر السياسة الدولية. وادعى ان مسألة اليهود في العالم تخص جميع شعوبه، وبالتالي فعلى الامم المساهمة في حلها، وواجبه هو وضع المسألة في جدول أعمال السياسة الدولية، الامر الذي يستلزم اقامة هيئة منظمة لذلك الغرض.

  • المؤتمر الصهيوني الأول عقد في مدينة بازل أيام 29 ـ 31 آب / أغسطس 1897، بحضور 204 مندوبين "ثلثهم من روسيا"، ومنه انطلقت الصهيونية السياسية وخرجت الفكرة الإستيطانية إلى حيز التنفيذ.

  • المؤتمر الثاني: عقد هذا المؤتمر في بازل ايضاً ايام 28 ـ 31 آب/ أغسطس1898، وحضره 349 مندوباً، يمثلون 913 اتحاداً صهيونياً محلياً. قرر المؤتمر تأسيس صندوق الاستيطان اليهودي كما أعيد انتخاب هيرتزل رئيساً للمنظمة، ونوردو نائباً له، و تقرر ان يتمثل كل 400 عضو في اتحاد صهيوني، يدفعون الشيكل، بمندوب واحد الى المؤتمر الثالث، بدلاً من كل 100 عضو للمندوب الى المؤتمر الثاني. كا أسست في هذا المؤتمر "جمعية التخاطب باللغة العبرية".

  • المؤتمر الثالث: عقد في بازل ايضاً ايام 15 ـ 18 آب/ اغسطس1899، وافتتح هيرتزل المؤتمر بتقرير عن لقاءاته مع قيصر المانيا، فيلهِلْم الثاني في القسطنطينية (8تشرين الاول/أكتوبر 1898) ثم في القدس (2 تشرين الثاني/نوفمبر1898). اتخذ المؤتمر قراراً بمنع استعمال اموال الصندوق لعمليات خارج فلسطين وسورية، كما اقر عدداً من الانظمة الداخلية المتعلقة بالجهاز الاداري، وتقسيم العمل بين هيئات المنظمة.

  • توالت بعدها المؤتمرات واللقاءات وفي كل سنة كانت المنظمة الصهيونية تسجل إنجازا جديدا نحو تحقيق الهدف بإنشاء وطن قومي لليهود حتى افتخر زملاء هرتسل وتلامذته بأن إنجاز الزعيم الصهيوني تلخص في أنه "جعل الصهيونية عاملاً سياسياً تقر به دول العالم (الكبرى) وتبجح ماكس نوردو زميل هرتسل الأقرب في خطابه أمام المؤتمر الصهيوني السادس (بال- 24 آب/ أغسطس 1903) بأن أربع دول هي أعظمها وتسيطر على الكرة الأرضية أعربت عن عطفها إن لم يكن على الشعب اليهودي فعلى الأقل على الحركة الصهيونية، الإمراطورية الألمانية أعربت عن عطفها.. بريطانيا قرنت عطفها بالاستعداد العملي لتساعد الصهيونية.. الحكومة الروسية (القيصرية) أعلنت خططها لمساعدتنا... والولايات المتحدة اتخذت خطوات دبلوماسية توحي بالأمل بأنها ستكون عطوفة حين يحين الوقت.

  • لم يتوقف دور المنظمة الصهيونية بعد موت هرتزل بل إستمر بنفس الوتيرة ولنفس الهدف وبعد اتفاقية سايكس - بيكو (1916) التي حصلت فرنسا بموجبها على أجزاء من سوريا وجنوب الأناضول وعلى منطقة الموصل في العراق (لونت باللون الازرق)، وحصلت بريطانيا على أراضي جنوب سوريا إلى العراق شاملة بغداد والبصرة والمناطق الواقعة بين الخليج العربي والأراضي الممنوحة لفرنسا وميناءي عكا وحيفا (لونت باللون الأحمر) ، أما بقية مناطق فلسطين فقد لونت باللون البني، واتفق على أن تكون دولية. في أعقاب تلك الاتفاقية عمد قادة الحركة الصهيونية وعلى رأسهم اللورد روتشيلد وحاييم وايزمان لاجراء اتصالات مع بريطانيا أدت إلى إصدار وعد بلفور، وكان من الأسباب التي دفعت بريطانيا للموافقة على الوعد هو أن تكون الدولة اليهودية خط الدفاع الأول عن قناة السويس واستمرار تجزئة الوطن العربي.
  • إستمرت الضغوطات الصهيونية والمؤامرات الدولية دون توقف ومرت بعدة مراحل تمهيدا لصدور وعد بلفور المشؤوم وبمشاركة الجميع كما سبق وأوضحنا حسب تسلسل للأحداث سريع ومتلاحق في ظل غياب بل غيبوبة عربية وإسلامية، وكان الدور البريطاني في هذه المؤامرة حاسما بدعم وتأييد من الآخرين:

  • ما إن وضعت الحرب تركة الإمبراطورية التركية على جدول الأعمال حتى تقدم هربرت صموئيل الذي اشترك في الوزارة البريطانية في هذه الفترة وكان أول مندوب سام بريطاني في فلسطين فيما بعد بمشروع يقوم على ضم فلسطين إلى الإمبراطورية البريطانية وزرع ثلاثة أو أربعة ملايين يهودي فيها وبذلك يتحقق حلف بين الفريقين يخدم مصالح بريطانيا

  • وفي هذا الوقت بالذات في نهاية عام 1914 ومطلع عام 1915 كان حاييم وايزمن يكتب لأحد أساطين الإمبرياليين س.ب. سكوت محرر مانشستر غارديان: "في حالة وقوع فلسطين في دائرة النفوذ البريطاني وفي حالة تشجيع بريطانيا استيطان اليهود هناك.. فستستطيع خلال عشرين أو ثلاثين سنة من نقل مليون يهودي أو أكثر إليها فيطورون البلاد ويشكلون حارساً فعالاً يحمي قناة السويس" (كتابه التجربة والخطأ طبعة نيويورك شوكن 1966 ص 149).

  • كتب رئيس وزراء بريطانيا هربت اسكويث في كتابه "شكريات وتأملات 1852-1928" تحت التاريخين 28 كانون الثاني/ يناير و 13 آذار/ مارس 1915 يصف بعض ملامح مشروع هربرت صموئيل ولاحظ أن "الغريب في الأمر أن يكون نصير المشروع الوحيد الآخر (في الوزارة) لويد جورج ولا حاجة بي للقول انه (لويد جورج) لا يهتم بالمرة باليهود، لا بماهيتهم ولا بمستقبلهم ولكنه يعتقد أنه من انتهاك الحرمة السماح بانتقال الأماكن المقدسة (في فلسطين) إلى حوزة أو حماية "فرنسا اللا إدارية الملحدة" (الجزء 2 ص 71 و 78). لقد تعلم الإمبرياليون منذ وقت طويل تغليف مطامعهم بغلافات الحماس الديني والقلق على مصيره. فلويد جورج، وفي عهد رئاسته الوزارة صدر وعد بلفور. كان في هذا الوقت المبكر من الحرب يرى فائدة العامل الصهيوني في ضم فلسطين للإمبراطورية البريطانية بشكل من الأشكال. وفي سبيل ذلك كان مستعداً أن "يمنح الأماكن المقدسة لليهود" حماية لها من "فرنسا اللا إدارية الملحدة"!!

  • كما كتب لويد جورج الذي رأس الوزارة البريطانية في الفترة الأخيرة من الحرب وبعدها في كتابه "الحقيقة حول معاهدات الصلح" (لندن 1938 المجلد الثاني ص 1115): ان نوايا الدول الحليفة بشأن فلسطين حتى عام 1916 جسدها اتفاق سايكس- بيكو بموجبه "كانت البلاد ستشوه وتمزق إلى أقسام لا تبقى هناك فلسطين".

  • كان وزير الخارجية البريطانية عام 1917 من أكثر المتحمسين للفكرة الصهيونية وحاول إقناع أعضاء الحكومة في إجتماعهم يوم 04/10/1917 بأن يهود روسيا وفرنسا يدعمون فكرته بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين معتمدا على تقارير من الصهاينة المقيميين في لندن ومتجاهلا التقارير الرسمية من مندوبي وسفراء الحكومة في مواقع الحدث.

  • وفي اجتماع الوزارة البريطانية بتاريخ 31 تشرين الأول/ أكتوبر أوضح بلفور نفسه ما يفهمه من التعبير "وطن قومي يهودي". يعني شكلاً من أشكال الحماية البريطانية أو الأمريكية أو غيرهما ستتوفر لليهود في ظلها مرافق وتسهيلات كافية تتيح له بناء مقومات خلاصهم الذاتي فيرسون بالمؤسسات التربوية والصناعية قواعد مركز حقيقي للثقافة القومية وموئلاً للحياة القومية، وهو لا ينطوي بالضرورة على تأسيس دولة يهودية مستقلة في أمد قريب، إذ يتوقف هذا الأمر على التطور التدريجي وفقاً لسنة التطور السياسي المعهودة" .
  • هذه بإختصار مراحل الوصول لوعد بلفور الذي نسمه به كل عام في مثل هذا الوقت ولم نقرأ أو نسمع يوما عن الأحداث والمؤامرات التي أوصلتنا إليه. لكن يبقى السؤال: هل إنتهت المؤامرة بصدور القرار أو الوعد؟ الإجابة بكل تأكيد لا، ورغم أن الموضوع كان من المفترض أن ينتهي بحلول يوم 02/11/1917 إلا أنني أستميح القاريء عذرا لأستمر قليلا في الفترة التي تلت الإعلان/الوعد مباشرة لنعلم جميعا أن الجميع دون إستثناء شارك ويشارك في المؤامرة علينا، وهاكم باقي القصة:

    نص الوعد/الإعلان :
    نشر في الصحف البريطانية صباح (23 من المحرم 1336هـ : 8 من نوفمبر 1917م) وكان نصه:

    وزارة الخارجية
    2 من نوفمبر 1917م
    عزيزي اللورد "روتشلد"

    يسرني جدًّا أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة صاحب الجلالة التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرّته:
    "إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يكون مفهومًا بشكل واضح أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى.

    وسأكون ممتنًا إذا ما أحطتم اتحاد الهيئات الصهيونية علمًا بهذا التصريح.

    ـــــــــــــــــــــ
    بحث وتجميع: د.إبراهيم حمامي
    07-11-2004