قرنين على "وعود" بلفور
بحث وتجميع: د.إبراهيم حمامي

الحلقة الثامنة

الوعد المشؤوم في كلمات حزينة :

لم يكن غريبا أن تقف قصائد شعراء فلسطين عند الحقيقة المرعبة المسماة وعد بلفور، فها هو شاعر فلسطين الأول إبراهيم طوقان والذي ولد قبل ذلك الوعد باثني عشر عاما يعيش هذا الحدث معه حتى في مناسبات أخرى، فتراه يقول في الطوفان الذي حل بمدينته نابلس، متحاملا على جراحه الذاتية ومتذكرا بل ومذكرا بالوجع الذي حل بالبلاد، يخاطب الإنجليز المستعمرين وما صاغوه من آلام وجروه على البلاد من ويلات ومصائب بهجرة اليهود إليها:

منذ احتللتم وشؤم العيش يرهقنا       فقرا وجوعا وإتعاسا وإفسادا
بفضلكم قد طغى طوفان هجرتهم          وكان وعدا تلقيناه إيعادا
لكن شاعرنا يقف بصراحة أمام حادثة (الوعد الكئيب) الذي جر الكآبة إلى فلسطين فاصطبغت به فكانت قصيدته في تلك المناسبة التي حملت ذلك الاسم يؤرخها شعرا وتعكس لنا عظم الحدث وجلال المصاب في الذكرى التي مرت عام 1929فأعلنت فلسطين الحداد:

بلفور كأسك من دم    الشهداء لا ماء العنب
أما في البيت الثاني عشر من نفس القصيدة فإنه لا يأبه بالوعد إذا لم ينقضه صاحبه لأن أبناء الوطن سيكونون جاهزين لنقضه بالقوة:

لا تنقض الوعد الذي     أبرمته فله نواقض
وهنا يأتي مطلع البيت الثالث عشر طبيعيا في هذا السياق المغمور بالوعيد والمدجج بالغضب:

ويل لوعد الشيخ من      عزمات آساد روابض
أما عبد الرحيم محمود " الشاعر الشهيد " فإن الوعد المشؤوم يعيشه ولا يفارقه، عبد الرحيم محمود هو أكثر من وجدُ له شعر في وعد بلفور، حيث يذكره صراحة في عنوان لقصيدته الرائية (وعد بلفور) في ثاني قصيدة له في الديوان، فالثلث الأخير مثلا من القصيدة عبارة عن تهديد ووعيد للمستعمر لكنه من نوع آخر غير الذي رأيناه عند إبراهيم طوقان، فهنا التهديد لكل من تسول له نفسه أن يطمع في أراضي وثروات العرب:

يا ذا الحليف سيوفنا ورماحنا       لم تنثلم فاعلم ولم تتكسر
بالأمس أبلت في عداك وفي غد    في كل قلب غادر متحجر
أما (عيد الجامعة العربية)فإنه ينثر القوافي التي تحكي عن الشتات الذي كان جمعُه على يد الجامعة، إنها درر العروبة المنثورة، ومن النيل إلى المغرب إلى الشام يقر بخرافات الحدود التي تسعى لإزالتها أهداف الجامعة:

ذهبت خرافات الحدود فكلها     وطنٌ لنا لو صحت الأ فهامُ
وتتكرر قافية الأحلام مع شاعرنا ثلاث مرات في ستة عشر بيتا، لكنه يدخل صراحة بعد ذلك إلى وعد بلفور ومعاتبة الذات ولوم الأقربين قبل لوم الأعداء.

بلفور ما بلفور ماذا وعده    لو لم يكن أفعالنا الإبرام
إنا بأيدينا جرحنا قلبنا           وبنا إلينا جاءت الآلام
أما في قصيدته الثالثة حول الوعد المشؤوم فلقد أسماها الشاعر " أحاجي في ذكرى وعد بلفور "وقد جعلها على شكل ألغاز وأحاجي، كان أحد طلبته يقف ليجيب عنها بعد أن أعطاه أجوبتها، وكان قد ألقاها في فندق فلسطين سنة 1947وتوزعت هذه الأحاجي في أجوبتها بين (الإنجليز، اليهود، الثورة، هيئة الأمم، روزفلت " الرئيس الأمريكي آنذاك "، رئيس حزب العمال البريطاني، الزعماء الفاسدون، صندوق الأمة .

أما الحديث عن قصيدة (يا وعد بلفور) للشاعر يحيى برزق فلا تقل أهمية عن ما سبقها، وإذا كان ميلاد هذا الشاعر في العام الذي قيلت فيه قصيدة إبراهيم طوقان(البلد الكئيب) أي في عام 1929، فإن الوقوف عند هذه الأبيات يحمل أشياء يصعب أن تعبر عنه الكلمات:

وليس ينسى لديغ النار قسوتها        فكيف ينسى الذي يحيى على النار
ويواصل نزف الوجع والحديث عن شعبه وما يلاقيه من القريب قبل الغريب

وكل يوم له جار يصارعه فدمعه وهو في حضن الردى جاري يبيت في حيرة الملهوف ليس يعي يشكو إلى الجار أم يشكو من الجار وهو رغم ما يحمل في قلبه من ألم ورغم الوعد الذي أصاب بلاده وما فعل العداة بوطنه ورغم جراح صبرا وشاتيلا النازفة إلا أنه يحمل أملا بالفجر القادم:

يا وعد بلفور لكنا وإن عبثت        بنا العداة وألوى كل جبار
ورغم صبرا وشاتيلا وما فعلت       يد التتار بأحرار وأبكار
لا بد أن يشرق الفجر الندي على   ربوعنا بين أزهار وأشجار
سأتوقف هنا فالباقي نعرفه جميعا وما جرى بعد ذلك عاشه الكثيرون منا إما كشهود على الحدث نفسه أو ضحايا لنتائجه.

ـــــــــــــــــــــ
بحث وتجميع: د.إبراهيم حمامي
07-11-2004