الحاجة ريما الطيبة..
قـلم : سـليـمان نــزال

سـليمان نـزال

تحلمُ بالرجوعِ إلى البلد..في جبينها وديان الحكاية و هضابها..في عروقها بيادر و تعرجات السنوات الراحلة و منعطفاتها في الغصة و الرحيل.

تسندُ رأسها إلى حائط المنفى. تقفُ على شاطىء مخيم الرشيدية..تنظرُ صوبَ البحر في الجنوب..لا تبصر قريتها في عينيها..تُقَرِّبُ المسافات بقلبها..يحضرُ المكانُ..يغيبُ المكان..الصبار في المشهد.. و شرفة القرنفل و النعناع.. و أوقات الحصاد..و حقول الدامون..و الجنود و صراخ الأطفال.. و صوت أبيها الشيخ.. و الخروج القهري.. و الطفل الذي ماتَ على الطريق..مشاهد تظهر من خلال ثقوب في الصبار..

مرت سنوات في هذا المخيم المحاذي لرائحة الوطن..و جدتي الحاجة ريما الطيبة تقرأ القرآن و تكبر في العمر..و تترحم على الأموات..و تربي الأطفال.. وتحدق في الآتي..كلما مات شخص من أهل مخيمها أو من أهل بلدها و معارفها في برج الشمالي و عين الحلوة..كانت الحاجة تتحسر و تتمنى لو أن المتوفي دُفن في فلسطين..

الحرب دارت و الحاجة ريما في المخيم..تزور أقاربها في المخيمات الأخرى.. و إشتدَّ الحصار , و فقدنا نسور و أقمار و أحباء في معارك و صراعات.. و إضطرت عائلات كثيرة للسفر و البحث عن منفى أكثر أماناً..و هي تصلي و تصابر و تترك بيتها متوجهة نحو الشاطىء القريب تنتظر هناك, لعلها تستقبل طيرا عائدا من جهه القلب و البرتقال..

سافرَ كثيرون من أصدقائي..خسرتُ الكثيرين .. سالت شلالات من الدماء...حوصرَ المخيَّم..أكلَ الناسُ العشبَ..بعضهم لم يجد حتى العشب.. أستشهدَ أبي و فُقد أخي على أيدي الحاقدين.. و جمعنا عمي بحضور جدتي ريما و طرح علينا موضوع الهجرة إلى أي بلد..الدانمرك..ألمانيا..السويد..النرويج.. و أخذَ يعدد محاسن الدانمرك .. وافقنا جميعاً دون نقاش.. وأخذنا نبيع بعض مقتنياتنا لتأمين ثمن تذاكر السفر..

غضبت الحاجة..أصلحتْ نقابها فوق رأسها..حملت سبحتها في يدها..و صرختْ في وجه عمي عبد الله :

- "لوين يا عبد الله..من لبنان على فلسطين ..مش من هون على بلاد الأجانب."
- ثم أردفتْ بصوتِ صبية في العشرين-:" أنا هون مش حابة أموت و إندفن.. بدك تكون دفنتي عند الكفار!"
و تأزَّمَ الموقف.. و أدخلنا الوسطاء و الوجهاء للتأثير على جدتي و إقناعها بمرافقتنا لاجئة إلى الدانمرك..
و كانت تجيب كل رسول , و مبعوث من طرفنا: " مش طالعة من المخيم إلاَ على البلاد.."
سافرتْ عائلات كثيرة من المخيمات, حتى أقاربنا التي كانت تزورهم رحلوا و هجروا..أفرغت المخيمات من جزء مهم من طاقتها الشابة.. و الحاجة ريما الطيبة مصممة على الرفض..
في يوم, سمعتْ جدتي ريما بمرض إحدى صديقاتها من أيام الدامون..طلبتْ مني أن إشتري لها علبة شيكولاتة و أرافقها في زيارتها لصديقتها الحاجة فاطمة التي تسكن في مخيم البص.
وصلنا البيت..إنتظرنا لدقائق قبل أن تفتحَ لنا الباب إمرأة عجوز..
- "و ين الحاجة فاطمة يا أختي.."
- "سافرتْ إمبارح مع أولادها و أحفادها على ألمانيا ..بدهم يعالجوها هناك.. و أنا إستأجرت البيت منها!"
و رجعنا إلى مخيمنا...طوال الطريق ظلت صامته, دخلنا البيت..ثم صاحت على عمي :

"يا عبد الله قول لمرتك تعملنا شاي بالميرمية"
- "تكرمي يا حاجة"
- "يا عبد الله هاي الدانمرك ..وين على الخارطة"
"بعيدة يا حاجة .. بس فيها زبدة و أمان"
بيد مرتعشة أمسكتْ جدتي ريما بكوب الشاي..
: - "يا إبني أنا مش طالبة أمان فوق هاي الأرض..انا طالبة أمان لو تحت أرض بلادي"
و نطقت الحاجة بجملتها التي ننتظر و نتمنى..
-"خلص موافقة.."
حضرنا إلى الدانمرك..عشنا في مدينة آرهوس, خصصنا للحاجة غرفة في شقة عمي..و كنت أزورها كل يوم.. أستمعُ منها إلى حكايات الزمان المغدور..
في كل مرة كانت تردد على مسامعي نفس الكلمات:-"مش رايحة إسامحك يا نزار ..إذا بموت و تدفني هون بالثلج"
و أحيانا كنتُ أضغطُ عليها و أصحبها في نزهات إلى الحدائق العامة القريية من المدينة.. و كنا نمرُّ على بعض المقابر المحاطة بالزهور و الأشجار..
- أداعبها و أقول : - "يا حاجة ريما الطيبة..يا حاجة ريما محمد سعيد..هون راح يكوني قبرك"
: - "فشرت!..ما بموت غير في بلادي"
: - "شو هو بإيدنا يا حاجة"
: - "آه.. بإيدي.."
و مضت الأيام.. و الشهور..و أخذت صحة جدتي تتدهور.. رقدتْ في المستشفى..ذهبنا لزيارتها أنا و عمي عبد الله و إبن عمي بلال و كل العائلة.
وقفنا بالدور نقبل يدها.. و كان عمي الأخير بيننا.. لكن قبلته أردفها بالعبارة التي أفرحت "ستي"
: - "يا حاجة.. سلامتك..شدة و بتزول..اليوم إجتك رسالة..بتقول إنك حصلتِ على جواز سفر دانمركي.."
تهللت أساريرها..لمعت عيناها..
- : " الحمد لله... بكرا بتروحوا بتقطعولي تذكرة..أنا رايح على الدامون..على طمرة..على شعب.. على لوبية.. على صفورية. على الزيب, على البعنة..على البصة..على علما..على الحولة..
إنحلت المشكلة يا جماعة.."
أخبرنا الأطباء أن جدتي لن تعيش طويلا..حسمنا أمرنا..إشترينا لها تذكرة ..رافقناها إلى المطار..توجهتْ إلى فلسطين المحتلة..
إستقبلها في المطار بعض أقاربنا من آل سعيد..كانوا سعيدين لملاقاة الحاجة بعد سبع و خمسين سنة من النكبة و التشريد..
بعد يومين .. تلقينا على الهاتف الخبر الحزين:- ماتت الحاجة ريما الطيبة و دفنت في قرية "طمرة" حيث يعيش فيها إبن أختها.
ماتت جدتي..مازلتُ أحتفظُ بعكازها الذي نسيته في الدانمرك.

سليمان نزال
تاريخ النشر : 13:43 02.09.04