كهـف الذاكـرة
قـلم : سـليـمان نــزال

سـليمان نـزال

كان قمراً من أيام اللوز, مرح الضوء,أشعلَ كلَّ ميادين و أزقة الساعات, وممرات البساتين, بين قطف ثمار التوت و أكواز الرُمَّان و حبات البرتقال. كان الوقت الذي يلي المدرسة لتحديد ثغرة و فتحها في الشريط الشائك, يعبر بعدها الصبي مع أقرانه لقطف الفاكهة و صيد العصافير التي كانت تبني أعشاشها فوق أشجار السرو, و كانت الخدوش االبسيطة التي تصيبنا في محاولات إختراق الموانع و الأسيجة و الجدران لا تذكر مع فيض العناقيد و القطوف و أنو اع الفاكهة و لذائذ التجوال.

أخذَ عاطف يحدثني عن أيام و طرقات و وديان الذاكرة الأولى.. التي لم يكن بمقدورها أن تثمرَ بلا تلك المغامرات و السرقات الصغيرة.

- لو لم نلتحق بالتنظيم في هذه السنة المبكرة.. ..لمشينا في هذا " الكار " إلى بقية عمرنا و لأصبحنا من كبار اللصوص, بحق!

و كنتُ أجيبه و أنا انظرُ إلى المسدس الذي يلمعُ بين يديه:- لكن, هنالك من أصبح من كبار اللصوص و الفاسدين من داخل الكارات.. و في سراديبها..

و كان عاطف يرد عليّ هازئاً بعض الشيء:-"يا رجل! إحنا أحسن تنظيم.. يمكن غيرنا دكانة و حرامية و صفقات و غيره يا سيدي"

-: "رأيك؟"

" و رأيك كمان..شو مش مقتنع؟ "

لم أعلق.. كتمتُ صرخة و إقتنعت بالمحاولة, أخرجتُ رأسي من النافذة الصغيرة و أخذتُ أنظرُ في القمر عن صور زعماء..فلم أر أحدا..

إستدرتُ نحو عاطف و سألته متهكماً:

-"شو ..القمر بيكذب"؟

- "شو قصدك؟ مش فاهم.."

بلعتُ ريقي مع بعض التساؤلات المبكرة و لذتُ بالنجوم.

بينما إنشغلَ عاطف في تنظيف سلاحه الفردي بقطعة قماش مبلولة بالزيت..

سادَ صمتٌ بيننا..إعتبرتُ نفسي مسؤولاً عن كسرِ حواجزه..

-"لماذا تنظف سلاحك في اليوم عدة مرات"؟

ينهمُر مطرُ الأسى بين كلماته , يهزَ مسدسه في الهواء , و بصوتٍ مرتفعٍ يجيب :

-"هذا العالم متسخ جداً و لا يمكن لنا تنظيفه بدون أسلحة نظيفة.. جديدة. هل تفهم"؟

أنظرُ إليه و ينظر إليَّ قبلَ أن أقول:-" أفهم!"

و قبل أتمكن من إضافة بضع كلمات لجملتي, يسألني:-.".ألم تسرد لك جدتك الخضراء حكاية, مثل حكاية جدتي" ندى" التي رويتها لك يوم أمس" ؟

أجبتُ و أنا أمسكُ بيدي بمفتاح الذاكرة الأولى :

-"..ما حدثَ لنا من تشريد و عذاب لا يحتاج إلى قصة..أما عن جدتي فلأحزانها و دروبها حكايات كثيرة..

- "على شرط أن لا تكون تلك القصة المعروفة عن زواج نزّال و رفضه إتمام حراثة الأرض قبل أن يجدوا له عروسا.."إسه إسه بدي أتجوز أو مفيش حراثة" حتى ذهبت مثلاً عن العناد و التصميم في كلام الناس عن,جيزة نزّال" براس المعناة"!؟

قلتُ مازحاً:-"كلها حراثة في حراثة يا عاطف فرحان"

- "قولك! , لكن ألديكَ فعلا قصة جديدة لم أسمعها؟"

-" ملامح و تضاريس من سرد الجمر و رواية المسلوب"

قال :" إحكها إذن..ها نحن نتسلى قبل أن نذهب إلى الحراسة!"

قلتُ محتجاً:"-نتسلى يا عاطف! بطلت أحكي و خليك يا بطل وجود دائم زي أول!.."
- " إتركنا من المزايدة.. هون بالمخيم مع إبراهيم و صالح و علي و جمال أو برا بالمحور مع مفيد و سعيد و محمد و إحسان و أبو حبيب و سلطان.. كله وجود دائم على خطر متنقل.. و إنتظار "

- لدغتني بعوضة في وجهي.. حككتُ ذقني : "طيب , متفقين"

- و القصة؟

- " قبل سنتين, أُصبتُ بإنفلونزا حادة..لم أُصب بمثلها سابقاً..إنشغلت العائلة على صحتي..و حضرت الخضراء بحبها و أدعيتها و مباخرها و بعض شتائمها الذهبية.. و بعد أن" خَرَّجَتْ" عليَّ و رقتني, غير مبالية بإعتراضي و نظرات كنتها..و بعد أن تمتمتْ بكلمات أذكرُ منها" سايق عليك الله و الملك سليمان..أخرجي يا ملعونة من هذا المكان" إستنتجتُ, بينما كانت أمي تسخر من إعلانها, أن عينا قد أصابتني! و أكدت أن تلك العين الشريرة ما هي إلآّ عين جارتنا المسكينة أم ياسين. فكانت أن صدرت لي الأوامر بعدم الحديث و الوقوف مع إبنتها سعاد! صحيح أني لم أستجب, فقد كانت لي مآرب أخرى"

- هنا قاطعني صديقي : " أعرف هذه القصة المبالغ فيها, إتركها و.أكمل رواية ستك خضرا!"

- إبتسمتُ, و أنا ألوِّحُ بالمفتاح القديم قلتُ:" إسمع يا سيدي و سيدك الله! بعد أن إنتزعت جدتي مني وعداً بعدم الوقوع في حبائل أم سعاد و خططها البريئة, لتزويجي من إبنتها, إستندتْ على عكازها الذي جاء معها من فلسطين, قررتْ أن تفتحَ كهفَ ذاكرتها أمامي, لتدخلني فيه.. و حين فعلتْ ..إختلطَ عليّ الأمر و تعسرَ, وهي تحدثني عن أسماء "العليين", أن ألتقطَ بسهوله درجة القرابة التي تربطني بكل منهم, أربعة أو خمسة من عائلتها يحملون نفس الإسم" علي"..و إن كان أبرزهم علي نزال"قطينة" ذاك الرجل الذي برزَ كقائد فصيل أيام البلاد.. و إستشهد مع إبنه صبحي في" لوبية" قرب طبريا عام 48.."
"أعرف قصة ثورة عمك علي قطينة , اللي أصله مش من لوبيه" و من فضلك إرجع للقصة, لا وقت للتفاخر, لم يعد أمامنا متسع من الوقت لنكون جاهزين"

"و لا يهمك يا زلمي" المغارة, كانت موجودة ..سمعتُ عنها من أبي, و كان تستعمل لتخزين المؤونة و إخفاء البندقية القديمة, و قيلَ لأغراض أخرى كلقاء العشاق او إلإحتماء من المطر في أيام الشتاء.. و قيل ان هنالك أكثر من كهف في الموضوع..."

ظهرت علامات الضيق على صاحبي و هو يستحثني أن أنهي قصة جدتي.

-"إهدأ و دعنا نشرب الشاي .."

- " و يسكي الفقراء ! سنأخذه معنا .. و الآن أكمل, هلكتني!"

و ضعت ْجدتي يدها فوق جبيني, و أخذت تمسحه بقطعة قماش مبللة بالماء البارد, و ذهبت بي إلى المراعي و السهول و الآبار و قطيع الماعز و صما و عنزة و طوباس و قباطيا و طبريا و لوبية و الموت المبكر "للعليين"..كانت كلمات الخضراء تنزل كقطرات الندى, تخفف من وعكتي, وأحيانا أراها تتحول إلى رذاذ حسرات و مواجع..و مرارة فقدان و تشريد. كنت أسعلُ و أفركُ أرنبة أنفي, فتزداد مع كل خبر حزين حرارة جسمي و تبرد مع الخبر السار. كدتُ أصدق بأني أصبت بالعين لولا فشلي في إستمالة قلب فتاة تعرفها سعاد,صديقتها الحميمة.

هزَّ رأسه و رمى رشقات إستفزازية في ظهري :

"فشلت مع غيرها, أتذكر؟ سميحة,عذاب, حنان,لقاء, ياسمين..و ذات العيون الخضراء, زميلتك في الجامعة , ما إسمها, آه, دعد.. لم تنجح في الحب إلاّ بعد أن تجاوزت العشرين, و بدأت أرقامك القياسية تهل علينا..لم نكن معك, حين غادرتَ المخيم ثم عدتَ مصحوباً بأرقام كهربائية.. "خلصنا يا زلمي" ها أنت تخفق حتى في سرد حكاية جدتك"

إمتقعَ وجهي, و صرختُ به"مش طالع معك على المهمة, أنا مش كذاب.. اليوم ما في حراسة, شوف أبو بشارة.. اليوم في صح النوم!"

" حقك على رأسي, لكنكَ تخرج عن الموضوع, فأين القصة؟"

"لا يا عاطف إبن فرحان أنا لم أخرج, لكننا ننزف..في بريق التداعيات.. و نحن نحكي نفس القصة"

"حسناً, و لكن عليكَ أن تتحرك معي , معك دقيقة لإنهاء القصة"

قلتُ:" شو أوامر.؟ القصة لا تنتهي إلاّ بعودتي إلى جذور الخضراء.."

تنحنح َ و أخذَ ينقل مسدسه اللامع من يد إلى يد.

قالت جدتي:-"لم يكن جدك ممن يحبون التظاهر بالورع... و كان لا يدخل مسجد القرية إلاّ فيما ندر, الأمر الذي أدى إلى إستهجان أهل القرية.. و حين وجهت له الإنتقادات, و سأله الناس : كيف ستدخل الجنة؟ أجابهم دون تفكير, "أدخلُ, أتركُ حراس الجنة يحاسبون صاحبي" مفلح" و يتخاصمون معه, لأنه لا يصلي, فإستغلُ الخلاف.. و أعبرُ متسللاً إلى نعيمها"

فيقول له الناس:-"لكنك لا تصلي يا . .. كان يلوذ بالصمت. و ينظر إلى السماء بعيون عسلية!"

تقول جدتي الخضراء:-و لما زادت حيرة الناس, أخذتُ أراقبه, لاحظتُ أنه يدخل الكهف , عدة مرات في اليوم الواحد,و يحمل معه أشياء ملفوفة في كيس قماش,حتى وجدناه يصلي وحيداً..

-" ماذا كان يحمل معه إلى الكهف, ماذا كان يفعل داخله؟" سأل عاطف.

أجبتُ:-"كان يصلي بإنتظام, يصطحبُ معه, سراجاً, و سجادة صغيرة..علاقته مع الخالق, سبحانه, كانت تتم من غير وسيط و شهود,كانت مباشرة."

-"لذا كان واثقاً من نفسه.. و هو يتحدث عن دخول الجنة خلسة"!

-"لا تمزح. هو لم يقصد ذلك المعنى..يا خبيث!"

- و هل تقصده أنت؟

- لا..إسألْ جرحك.

سليمان نزال
تاريخ النشر : 13.09.2004