دثريني بالبلاد..
قـلـم : سـليـمان نـزال

سـليمان نـزال

ناديتُ عليها بصوتي..ثم ناديت بأحلامي..بصوتٍ مرتفعٍ ناديت..خشيتُ على حكايتي تتبعثر أضلاعها في الشتات,فلا أعودُ قادراً على معانقةِ ينابيع السرد في جراحها..خفتُ عليها ..
جلستُ بقربها على الحصيرة..حدقتُ بأيام و طرقات و بيادر و بساتين موشومة على جبينها..ظننتُ أنها أسلمت الروح..لكنها فتحت عينيها و طلبتْ مني أن أُسكت أولاد الحارة الذين كانوا يتصايحون و يلعبون خلف غرفة الصفيح..
قالت جدتي بنبرة خافتة:
- " دير بالك على حالك يا أحمد.."سكّت القواريط" بدي أموت بهدوء"
ثم أضافت بصوت أعلى قليلا:
- إسمعْ يا أحمد..يا إبني..إجلب لي بعض براعم لوزتي..دثرني باللوز..دثرني برائحة البلاد..
أحضرتُ من" الحاكورة" بعضَ الأوراق و البراعم اللوزية ..لم أرغب أن أُخبر جدتي في تلك الساعات الحزينة, بأنها تتحدث مع حفيدها إبن أحمد.
حضرَ والدي من العمل..و علمَ بحال جدتي..وقفً مشدوهاً .. رأيته يبكي للمرة الأولى.
-سلامتك يا حاجة خضراء..سلامتك يا حجة..
لكن الحاجة خضراء لم تُكتب لها السلامة..و ضعنا ذاكرة اللوز و أريجه فوق صدرها..ثم ماتت جدتي.
لم أنس القصة مع مرور الغّصات.. و صرتُ أمضي معظم أوقاتي و أجملها جالساً تحت الشجرة, أكتبُ تحتها, أنامُ, أفكر, أقرأ في ظلالها سيرةَ الخيول و الفرسان و الثورة و الرحيل..
ذات يوم..خطرت ببالي فكرة سببها التناقض في رواية الغرس بين والدي و جدتي.
قلتُ:- أخذها اللوز و رحلت..لكني أريدُ أن أعرفَ بوضوح من زرع َغصن اللوز فصار شجرة و أرجوحة لأفكاري.
كنتُ أعرفُ بستانياً يدعى" أبو الأخضر" له باع طويل في زراعة و تقليم اللوزيات و الحمضيات, حملَ خبرته من أيام البلاد إلى أحزان المخيم..
ذهبتُ إليه و أخبرته عن الحكاية, إبتسمَ لي و قال:
-بسيطة..سأرافقكَ إلى بيتكم , فأخبركَ عن زارع شجرة اللوز .

جاءَ الرجلُ..و تفحصَ الجذع.. و تحسس الأغصانَ..و فركَ بيده بعض أوراقها.. و تذوَّقَ بواكيرَ ثمارها و إقتربَ مني و قال:

-إسمعْ يا إبني..لم يكذب أبوك.. و كانت جدتك الخضراء أيضا صادقة ..الواقع أن جدتك هي من أحضرت الغصن الصغير من حقلكم في فلسطين, يوم النكبة..أما والدك فقد قام بتطعيم الشجرة الصغيرة, آنذاك, بغصن أحضره معه من جبل لبنان..

سألتُ مستغرباً:
- هل أنت متأكد يا عمّ؟
- زجرني بنظرة صقرية و صاح:
- طبعا..أنا خبير..ألم تلاحظ إختلاف المذاق و نكهة حبات اللوز..ألم تلاحظ إختلاف حجم الثمرات.كلها حلوه و متنوعة..أنظرْ إلى نسبة الظلال بين التجربتين..ثم أضاف:
- لا تقلق على الشجرة..إذا أحببتَ أعطيتكَ فرعاً رائعاً أحضرته معي من سوريا.. و هنالك فروع جميلة من المغرب و الخليج و من العراق.. و من مصر..كما تريد..
هتفتُ بفرح حقيقي:
-أريدها كلها يا عم..في شجرتي..شجرتنا أقصدُ.. شكراً لك يا عم" أبو الأخضر" أنا بإنتظار عطاياك..
لا أعرفُ كيف وجدتني أرددُ في سري بعد إنصراف الرجل:
-أنا الذي زرعتُ شجرة اللوز و لدي شهود على ما أقول.

___________________
سليمان نزال
18.11.2004