إضــراب..
قـلم : سـليـمان نــزال
الليل في آخر الليل, و رفاق السجن نائمون , بعضهم مُرهق بسبب إضرابنا عن الطعام.. وأنا أيضا مُتعب لكني صامد مثل الآخرين.. قلناها جملة واضحة كصرخة زلزال و بعرض و طول كل سنوات المعاناة "الجوع و لا الركوع"
أشعرُ بحركة زميلي باسل, يتقلب في فراش القهر, أنادي: يا باسل..لا يرد, يستغرقُ في سباتِ المكابدة, أصواتُ الزفير و الشهيق تتصاعد, تختلط..أسمعها أعلى بعد الإضراب المفتوح..أنادي على إبراهيم..حتى إبراهيم لا يجيب..
-أتركهم ينامون يا باسم..ينبغي أن ينالوا قسطاً كافياً من الراحة حتى ينجحَ الإضراب و يستجيب المجرمين لمطالبنا..
- "مين ..أبو مصطفى.."
- "أيوه أبو مصطفى يا أخي.. و كمان في مسجونين غيري سامعينك منيح.. ما بردوا علشان تعبانين و بدهم يواصلوا الإضراب.."
- "نام يا أبو مصطفى.. و لا يهمك و أنا كمان بدي أواصل و أستمر مثلكم.. بس قلقان شوية"
باسل صديقي الذي يحلم بأصوات مسموعة.. كان معي قبل أيام عندما دخلنا في عراك مع حراس السجن المتوحشين, إشتبكنا بالأيدي, سددَ باسل لكمةً إلى وجه أحد الجلادين و تبعته أنا بصفعة جلاد آخر..تبادلنا الضربات..تكاثروا علينا. وحين إنضمَّ إلينا بقية الأسرى و المعتقلين,.سلطوا بنادقهم الهمجية نحو صدورنا..تمزَّقَ قميصي.. و أصيبَ باسلٌ بجرح في جبهته.. و تمكنا من تمزيق العلم الإسرائيلي..أنا لست نادماً على شيء..بسبب منع الزيارات عنا و معاقبتنا و تهديدنا بنقلنا إلى سجن آخر , بزنازين إنفرادية.. و حرماننا من "الفسح" التي لا تتجاوز عدة دقائق ..
الليل ليل..إشتقتُ إلى أمي.. إلى أصدقائي و عائلتي., إلى رفاق وأخوة النضال..إشتقتُ إلى أخي الصغير عائد.. أه يا عائد متى سأخرج كي أشتري لك الشيكولاته التي تحب..
أفكرُ في القناة الفضائية التي كنتُ أشاهدها في البيت.. لا تلفاز في المعتقل..قائمةُ العقوبات الحاقدة تتسعُ ..أتململُ في سريري المهترىء المهتز..يا إلهي لو كنت أعرف أسماء المسجونين الذين ناموا على نفس السرير..لو أعرف عناوينهم و ألتقيهم شخصياً واحداً واحداً. صقراً صقراً..كم يبلغ عددهم..عشرات..مئات..ألوف..كم..؟ قلتُ في نفسي و أنا أزيحُ عن جسدي غطاءَ السجن المهلهل : "سأقترحُ عليهم بعد إطلاق سراحي.. أن نجتمعَ في قاعة كبيرة..ثم نؤسس رابطة السرير الواحد.. لكن.. لا, ما هذه الأفكار العجيبة التي تضرب رأسك يا باسم..كأمواج بحر تصطدم بصخور الشاطىء العنيدة..الصورة أوسع ..أشمل. أنت تعرف ذلك..لكنها على أية حال فكرة طريفة.. تسليكِ و تدفع عنك وحشة الظلام ..ربما تسجلها في دفترك القديم..و لعلها تكون شرارة فكرة تقودك إلى حناء و لوز قصيدة جديدة..إيه الأفكار كثيرة و أنت تختار أجملها و مدة سجنك شارفت على الإنتهاء.. و لسوف تخرج..أول شيء ستفعله ,إذا خرجت..و لم يلفق لك الصهاينة تهمة إضافية بسبب دوركَ في الإضراب..ستقصد ذاك المطعم البسيط الذي إعتدت أن تجلسَ فيه مع أصدقائك و معارفك. حيث كنتم .تتناقشون, تحللون الوضع السياسي, تنتقدون الفساد.. و تختلفون و تتفقون.. تتخاصمون أحيانا.. لكن تظلون أصدقاء و رفاق طريق..تشتاق إلى كل هذا .. وأكثر..تتذكر التلفازَ الجديدَ الصغيرَ الذي إشتريته قبل إعتقالك بثلاثة أيام.. يا للأوغاد لم يتركوك ..حتى لتواشيح و أزهار الفرح البسيط"
لكن الليل ليل ..أسمعُ أنين أبو علي....أبو علي في الأربعين من عمره , بطل, مسجون منذ بداية الإنتفاضة ..يحتاج إلى عملية جراحية عاجلة , بعد إصابته بثلاث رصاصات, في إحدى المواجهات البطولية مع جنود الإحتلال.. و الصهاينة يماطلون في علاجه و يشتموننا حين نطالبُ بنقله إلى المستشفى..لا نسكت.. نشتمهم..نشتمُ من تسببَ في إحتلالهم لإرضنا, في تشريد و عذابات شعبنا.. في إذلالنا وإهانتنا..
الليل في الليل..أشد إستفزازاً.. و الأخبار قليلة شحيحة في الخارج..هل يتضامن معنا أخوتنا في الخارج..أكيد يتضامنون..لو كان معي التلفاز .. كنت ُسأتابع الفضائيات و أعرفُ كلَّ صغيرة و كبيرة عن إضرابنا وردود الفعل.. و.كل شيء.
الإرهاق ينال مني..أحدقُ في أحد جدران غرفة السجن.. أبصرُ إلتماعات..بريقَ ألوان..مشاهدَ حروب. قصفَ مسجد في العراق.. أرى شاشةً تشبه شاشة تلفازي ..لا هذه أكبر و أعرض..كم بوصة يا ترى؟.. فاصل إعلاني..صوت المذيع الجهير..ينهض أبوُ علي..يتألم..ينهض بقية المعتقلين..يتوجهون إلى إبي علي..يطمئنون عليه..أبو علي يئنُّ..يصرخُ من جرحه المفتوح..يصرخ من أعماق الغيظ..
أسافرُ في غيمةٍ بعيدةٍ .. و ألتصقُ مع الضياء الصادر عن الحائط..شاشة ملونة..
"نقلَ مراسلنا من جنين.. من نابلس. من غزة ..من طولكرم.. من أريحا..من القدس..من رام الله..من عسقلان..من فلسطين..أن إضراب الأسرى و المعتقلين الفلسطينيين و العرب عن الطعام دخلَ يومه الثالث..الخامس..التاسع..العاشر.. و تشهد المدن و المخيمات و القرى الفلسطينية و في الجولان و بعض البلدان العربية و في المهاجر و الشتات.. إضرابات و إعتصامات و حملات تضامن مع السجناء"
..- يا باسم..أين أنتَ.؟ .تعال ساعدنا حالة أبو علي خطيرة ..
, أنتبه, أمسحُ وجهي بيدي و أقفزُ من سريري , أضعُ يدي على جبين أبو علي..ألاحظُ أن حرارة جسمه مرتفعه..
أطلقُ صيحةً و لا أنامُ حتى الفجر.
سليمان نزال
تاريخ النشر : 12:47 25.08.04
